Home Articles Orbits عبد الرحمن النعيمي...و "الأمل الخالد"
عبد الرحمن النعيمي...و "الأمل الخالد"
معن بشور
معن بشور

خمسون عاماً، من علاقة لم تتوقف جمعتني بالراحل الغالي عبد الرحمن النعيمي، حضرت في البال لحظة وصول خبر رحيله المتوقع منذ أن أصابته جلطة قاتلة في المغرب قبل أربع سنوات ونيف وأدخلته غيبوبة طويلة وقاسية تحول معها منزله في المنامة إلى ما يشبه المزار الذي يتدفق إليه أهل الجزيرة المتلالأة وكل من يزورها من أصدقاء المناضل العنيد الذين يريدون التعبير له بأنه لا الغيبوبة الطويلة، ولا الموت الثقيل، قادران على تغييب صورة (أبي أمل) عن شعبه وأمته وعن كل من عرفه....

جمعتنا الحركة القومية العربية، بعناوينها التنظيمية المتعددة في بداية الستينات من القرن الماضي، وكنا طلاباً على مقاعد الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، لتعود فتجمعنا رحلة نضال طويلة وصعبة على مدى نصف قرن أمضى منها عبد الرحمن النعيمي أكثر من ثلاثة عقود منفياً عن بلده لأنه اختار الإقامة وسط مبادئه وكفاحه وأحلامه ومواقفه الثورية رغم الكلفة الباهظة والمعروفة لمثل هذا الخيار.

كنت أتساءل في كل مرة التقي بها أبا أمل ما الذي يدفع مهندساً ميكانيكياً ناجحاً كعبد الرحمن النعيمي أن يختار مع عدد من رفاقه الشرفاء حياة الكفاح المسلّح في جبال ظفار، ثم حال التشرد المريرة في عواصم الأمة على حياة الدعّة والرفاه والثراء، التي كان يمكن أن يعيشها لو اختار الصمت عما يعتبره انتهاكاً لمبادئه وتطلعات شعبه.

وفي كل مرّة كان يزور بيروت باسمه الحركي "سعيد سيف"، كنت أجده أكثر تمسكاً بخياره الصعب وأكثر أملاً بانتصار الأفكار التي حملها حتى كنت أسميه صاحب "الأمل الخالد" نسبة للاسمين الذين اختارهما لابنتيه البكر (أمل) وابنه البكر (خالد)، فقد كان يحمل إلينا، كما أيام الدراسة، هو ورفيق عمره، والصديق العزيز منذ الستينات عبد النبي العكري، المنشورات والكتب التي لا تحمل قضايا وأفكارا وهباها حياتهما فحسب، بل تحمل تصميماً وعناداً استثنائياً في زمن تكاثرت فيه "المتغيرات"، وكثر فيها "المتغيرون" أيضاً وأيضاً.

ولا أنسى كيف جاءنا في أوائل هذا القرن مستبشراً بدستور جديد في بلاده، متحدثاً بحذر عن وعود بالحرية والديمقراطية قطعها الأمير الشاب، الذي بات ملكاً، ودشن عهده بالعفو عن أمثال عبد الرحمن النعيمي من مناضلين توزعوا في بلاد الله الواسعة.. وطلب إلينا أن نعقد دورة المؤتمر القومي العربي في البحرين في ربيع عام 2002، لكي نؤكد أن الديمقراطية والعروبة توأمان لا تطل أحداهما إلاّ وتطل معها الأخرى، ولقد تحمّل أبو أمل ورفاقه في جمعية (وعد)، وإخوانه في جمعية التجمع القومي العربي برئاسة عميد القوميين العرب في البحرين وأحد مؤسسي المؤتمر القومي العربي الأستاذ رسول الجشي، العبء الأكبر في إنجاح تلك الدورة التي سبقت زلزال احتلال العراق عام 2003..

لم يكن صعباً يومها أن نكتشف حجم الاحترام الذي يكنه الجميع في البحرين لعبد الرحمن النعيمي ورفاقه في جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) وقد بقوا أمناء لنهج عروبي يساري منفتح على كل التيارات الأخرى في البحرين يسعون معهم لبناء تجربة مميّزة في الديمقراطية والتقدم والتحرر في جزيرة تميّزت عبر العقود بأصالة أبنائها ووعيهم وانتمائهم الشجاع إلى حركة التحرر في الأمة والعالم.

لم تضعف ظروف اللجوء السياسي من صلابته ولا في النيل من التزامه بقضايا بلده وأمته، إذ دفع ثمن الالتزام سجنا لأسابيع في دمشق لأنه أعترض، مع نخبة من الشرفاء العرب المقيمين فيها، على نزول القوات الأمريكية وحلفائها في أرض الجزيرة والخليج عام 1990 وتحضيرها للعدوان على العراق رغم رفضه القاطع آنذاك لغزو الكويت أيضاً.

قال لي خلال إحدى زياراته إلى بيروت: هل تصدق أنني لا أبالي بقسوة المنفى، ومرارة اللجوء السياسي، لكن يعزّ في نفسي أن أجد أصدقاءً ورفاقاً قدامى، ممن جمعتني بهم أفكار ودروب نضال، يتهربون من لقائنا، وإذا فرض عليهم اللقاء فأنهم يحرصون على إخفائه.

واستطرد أبو أمل قائلاً: ترى لو اخترت الطريق الآخر، وأتيت إلى لبنان ثرياً كآخرين من أبناء الخليج، ألم يكن هؤلاء أول من يفرشون لي الورود، ويقيمون الولائم والمآدب على شرفي، ويتسابقون على تكريمي.

لم يكن لديّ ما أقوله لهذا المناضل الاستثنائي سوى ما ورد في الآيات الكريمة "تواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر" أو "حسبنا الله ونعم الوكيل" أو "لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون" (صدق الله العظيم) .

ورغم دخول عبد الرحمن النعيمي في الغيبوبة الطويلة، وهو ابن قبيلة "بني نعيم" الموزعة في دول الخليج والجزيرة، كما في العراق وسوريا والأردن وفلسطين، فقد كان شديد الحضور في كل اجتماعات الجمعيات المعارضة في البحرين عبر صورته التي كانت تتصدر تلك الاجتماعات لتؤكد على الطابع الوطني والقومي والديمقراطي للمعارضة البحرينية الوارثة لتراث عريق من النضال الجامع لكل التيارات السياسية والعقائدية في الجزيرة الصغيرة بحجمها، الكبيرة برسالتها،... بل لتؤكد أيضاً عبر تلميذه الوفي وخلفه في الأمانة العامة لجمعية (وعد) المناضل إبراهيم شريف المعتقل منذ أشهر في سجون السلطة، أن البحرين وشرفاءها رموز للوحدة الوطنية والعروبة والديمقراطية بوجه كل ادعاءات معاكسة ودعاوى مغرضة.

لقد كان عبد الرحمن نعيمي في غيبوبته أكثر حضوراً من الذين غرقوا في لعبة التحريض المذهبي، وسيكون في رحيله أكثر إشعاعاً في رفع راية التماسك الوطني والنهج الديمقراطي والالتزام العربي في بلده وأمته.

وأنا متأكد أن أكثر ما كان يضيق به عبد الرحمن النعيمي ويرفضه بشدّة حين يمتدحه البعض كقائد غير طائفي في زمن تغذيه كل النعرات الطائفية والمذهبية، فإذا كانت الطائفية والمذهبية رذائل مرعبة ومدمرة، فإن رفضها هو الموقف الطبيعي، الإنساني والأخلاقي والوطني لكل إنسان يحترم نفسه، وبالتالي فهو موقف لا يحتاج إلى مديح، لاسيّما أن في سيرة أبي أمل الكثير من الفضائل الأخرى التي تستحق الإشادة.

بأمثالك يا عبد الرحمن، سيبقى "الأمل خالداً" في تجاوز البحرين لمحنتها، وفي انتصار الأمة على كل أعدائها في الخارج والداخل معاً، وأنا واثق أن تشييعك اليوم الجمعة في المنامة سيكون استفتاءً لسيرتك ونهجك وتضحياتك ومواقفك.