Home Articles Orbits الحج بين ايران والسعودية
الحج بين ايران والسعودية
د.مضاوي الرشيد
د.مضاوي الرشيد
فتحت تصريحات المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية ورئيسها الباب على مصراعيه امام زوبعة تنذر بعواقب وخيمة خلال موسم الحج القادم. واضطرت السعودية للرد عليها اعلاميا داعية لعدم تسييس موسم الحج مع الاشادة بانجازاتها السابقة والقادمة في سبيل خدمة الحجاج المسلمين وتأمين سلامتهم خلال ممارسة شعائرهم. واعتبرت التصريحات الايرانية استفزازا لها وتشكيكا في سيادتها على الاماكن المقدسة. 
وبعيدا عن العلاقات المتشنجة بين البلدين والتي فشلت مقولات الوحدة الاسلامية في استيعابها بل هي تتأزم تدريجيا وبزخم على شاشات الفضاء الاعلامي يوميا نجد اننا هنا بصدد رؤيتين متباينتين تتعلقان بمفهوم الاسلام والشعائر المرتبطة به. من جهة تحاول السعودية تفريغ الاسلام من مضمونه الشامل كدين وتحصره في سلسلة من شعائر العبادة التي تحدد علاقة الخالق بالمخلوق وتفسح المجال للاسلام كممارسة للعبادة مع التمسك ببعض التفاصيل التي ترتبط بتطبيق الشريعة في مجالات محدودة بعيدة كل البعد عن السياسة والشأن العام المرتبط بالدولة وسياستها الاقتصادية وتحاول منذ عقود ان تقلص صلاحيات مطاوعيها وتحد من هيمنتهم على المرافق الاجتماعية والتربوية والاعلامية تمهيدا لعملية فصل تدريجية للدين عن الدولة. فرغم الشعارات الكبيرة نجد السعودية تتجه لتطبيق علمانية واقعية تتخفى تحت ستار ما تسميه الوسطية الدينية ورفض التطرف وفي مقابل ذلك نجد ايران تتمسك بمبدأ الدين كإطار شامل تكون العبادة والشعائر فيه مرتبطة بمفاهيم ابعد من علاقة الخالق بالمخلوق بل تتحول العبادات الى طقوس سياسية تستغل للتجييش في سبيل تحقيق اطروحات دنيوية لا تنفصل عن اهداف الدولة السياسية واستراتيجيتها الشاملة.
ومن هنا جاءت التصريحات الايرانية لتضرب على وتر حساس في الجسد السياسي السعودي وتعيد الذاكرة الى فترة مواسم الحج المأزومة في مرحلة الثمانينات. ولا تزال السعودية ترفض ما تسميه تسييس الشعائر ولكن رفضها هذا ليس قطعيا اذ ان العبادة في السعودية وما يرتبط بها من خطب ودعاء لا تمر دون تسيسها في خدمة قضية واحدة وهي تثبيت مبدأ الولاء لولاة الامر والثناء عليهم وعلى انجازاتهم. والنظام السعودي بموقفه هذا هو اول من سيس الاسلام قبل ولادة الجمهورية الاسلامية. فينسى النظام السعودي ان في ايامه الاولى هو من استغل الاسلام وحوله الى سيف ضرب به من ضرب في سبيل مشروع بناء دولة فاستغل الاسلام في تحقيق مصالح سياسية دنيوية وما تزال السعودية تستغله حتى هذه اللحظة في اكتساب شرعية داخلية وعالمية. 
لقد نسيت السعودية ان الاسلام وحده الذي مكنها من تحقيق حلم سياسي ارتبط منذ بدايته بمشروع تمددي وتوسعي ليس فقط في الجزيرة العربية بل ابعد من ذلك بكثير. وبعد ان استتب لها الامر استطاعت ان تؤصل لاسلام جديد يفرغ الاسلام من مضمونه السياسي بل حولته لاداة تضبط المجتمع وتضمن ولاءه وصمته وتحارب بسيفه أي محاولة تستمد منه ثقافة ترفض الامر الواقع. واكثر ما يخيفها تحول الطقوس والشعائر الى مساحات رفض او نقد او تململ من السياسة الشاملة للدولة. فإسلام السعودية اليوم هو مسيس ولكن لا سياسة فيه سوى سياسة الطاعة والخنوع وبعد ان قلصت مساحات العمل السياسي وحجرت على تبلور تيارات سياسية تطالب بالتغيير انتبهت الى ان هذه التيارات تحولت الى المساحات الدينية من مسجد الى حلقة علم مرورا بنشاطات ربما يكون ظاهرها دينيا الا ان مضمونها سياسي ومن هنا نشطت في مجال التضييق على هذه المرافق التي كادت ان تفلت من سيطرتها حتى تحولت خطبة الجمعة الى فرمان سلطاني يحمل اختام الوزارات المعنية واصبحت الاعمال الخيرية هبات ومكرمات ملكية ودروس الدين تراتيل تربي النشئ الجديد على السمع والطاعة. ومع كل هذا ترفض السعودية ما تعتبره تسييسا للدين والشعائر وتتهم ايران أنها تنذر بفتنة في بلاد الحرمين تواكب موسم الحج القادم. ترتجف السعودية وترتعد من الرهط الآتي من مختلف بقاع العالم ولا نستغرب هذا اذ انها تخاف رهطها الداخلي المحتقن وهي حتى هذه اللحظة تفضل التعامل مع مجتمعها والفعاليات الناشطة به كشخصيات منعزلة تأتي فرادا وتمنع التجمهر والمظاهرات مهما كانت اهدافها سامية. وهي لا تزال تحتجز في سجونها شخصيات دعت الى مظاهرة لنصرة قضايا ملحة منها نصرة غزة خلال حرب اسرائيل عليها. فان كان لاحد ما من مطلب فعليه ان يقدمه شخصيا للجهات المسؤولة ويخاطبها تزلفا وتملقا فيأتون واحدا واحدا وليس جمعا وحشدا بل ان التواقيع الجماعية كانت في الماضي مصيدة لاصحابها وقد زج منهم الكثير في السجون لانهم تجرأوا وجمعوا التوقيعات. فما بالك بحج يجمع الملايين من المسلمين وان هتف هؤلاء بشعار ما او تحركوا لقضية ملحة فمن المؤكد انهم سيواجهون بحسم يخنق شعاراتهم في حناجرهم وربما ان السعودية قد تتمكن من خنق احلام وشعارات مواطنيها دون ان يتحرك المجتمع الدولي لنصرتهم. ولكنها ستجد نفسها في حرج امام العالم الاسلامي ان هي خنقت اصوات الحجاج في حناجرهم وخاصة حجاج ايران والذين تعودوا على الخروج الى ميادينهم وشوارعهم منذ عقود طويلة وحولوا شعائرهم ومآتمهم الى مهرجانات سياسية استطاعت ان تسقط حكم الشاه في مرحلة سابقة. سيجد العالم الاسلامي نفسه امام نظريتين مختلفتين تماما النظرية الاولى تعرف الاسلام على انه دين عبادة وتعبد واخرى على انه موروث ثقافي وحضاري قديم تستخدم ابجدياته للتجييش والحراك السياسي الحالي. 
وعلى المسلم اليوم ان يقرر ويحدد اولوياته واهدافه. هل هو ناسك متعبد يضمن آخرته ومكانه في جنة الخلد ام انه بالاضافة الى ذلك يطمح الى واقع جديد يضمن له التحرر من العبودية الدنيوية التي فرضتها عليه انظمة تتمسح بالاسلام ومظاهره بينما هي تنغمس في ملذات الحياة الجديدة وما توفره من مناصب وثروة. لقد حسمت مجتمعات اخرى موقفها من هذه المعضلة. فبينما اوروبا وغيرها من مناطق العالم تجاوزت هذه المرحلة عندما فصلت دينها عن سياستها بعد ان استحدثت آليات جديدة لتسيير امورها الدنيوية ومؤسسات حديثة تتعاطى بالشأن العام وحولت الدين الى خصوصية فردية نجد ان العالم الاسلامي اليوم في اكثر من منطقة لا يزال يتخبط دون ان يصل الى منظومة تجعله يسير اموره الدنيوية بحرية وكرامة ومن خلال مؤسسات صلبة. بينما حكوماته تطلب منه ان يتقوقع في عباداته دون ان توفر له بديلا سياسيا تماما كما تفعل السعودية اليوم. سيظل العالم الاسلامي وحجاجه يتخبطان بين المنظومة السعودية والايرانية الاولى تراه ناسكا والثانية محاربا وان كانت السعودية في ما سبق استنجدت بالاسلام ذاته لتبني صرحا عتيدا ولكن ما ان انتهت المهمة نراها اليوم باسلامها المسمى زورا بالمعتدل والمتوسط ترتجف مما تخبئه لها الايام القادمة. 
لقد نسيت السعودية ان الاسلام سيف بحدين. ان هي استغلته فسيستغله الآخرون وان رأت فيه مجالا مفتوحا للطاعة والولاء فسيراه الآخر كساحة تمرد ونضال. فالاسلام ليس حكرا على السعودية ومطاوعيها وتفسيراتها وتراتيلهم وقد استطاع الاسلام ان ينتشر في بقاع العالم لانه كتاب مفتوح تنمو جذوره في بيئات ثقافية متعددة ومتباينة. فقد انصهر هذا الاسلام وتعاطى مع بيئات مختلفة تختلف تماما عن ثقافة الوشم والعارض وسدير. لذلك ليس من المعقول ان تعمم السعودية ثقافتها المحلية على البشرية جمعاء مهما بذلت الاموال الطائلة وشيدت المؤسسات العالمية للترويج لهذه الثقافة المحدودة او اسست الفضائيات العالمية في سبيلها. سيظل الاسلام قائما على تعددية في الشرح والطرح والتفسير المرتبط ببيئات ثقافية متبانية منهم من سيحول الطقوس الدينية الى عملية هروب جماعية من مسؤوليات الدنيا ومنهم من سيجعلها صرحا لتغيير الواقع والنهوض في هذه الدنيا. في موسم الحج القادم سيجد المسلمون انفسهم ربما وجها لوجه امام خيارات صعبة ولكن لن تحسم القضايا المصيرية لا في هذا الموسم ولا بعده اذ ان حسمها يتطلب هزة فكرية تتعاطى مع معضلة المسلمين ودور الاسلام في حلها.