وأعترف أن المهمة لم تكن سهلة حيث ترفض "منيرة الراشدي" أن تتكلم للإعلام عن تلك الفترة التي يصعب نسيانها, لكني لجأت إلى فلذة كبدها "حمدان" الذي تحمل مهمة إقناعها بالحديث لنا, ومع ذلك لم ينس الأخير أن يترجاني أن أكون حذراً أثناء الحديث مع والدته المصابة بالسكر والضغط, وحتى أثناء الحديث معها فإن الدهشة كانت حاضرة بقوة حين استطاعت أن تحبس دموعها التي تجيش في عيونها وهي المهمة التي لم أنجح أنا فيها, حيث أعترف أني بكيت وأنا أتذكر أنّ وراء كلِّ رجلٍ عظيمٍ امرأة .
حوار - فخر العزب:
في شقة متواضعة (ايجار) في صنعاء تسكن "منيرة" مع ولدها حمدان وزوجته ابنه الفقيد سعيد ربيعان وولديه ملاك وفراس, وتقضي معظم يومها في تربية الأحفاد الصغار الذين ترى فيهم كل ما يمكن تذكره من أحلام زوجها الذي لا تعرف مصيره حتى الآن.
بلغ بها العمر مبلغه لكنها تفخر ولا تزال أنها زوجة الشهيد, وحين سألتها هل ندمت يوماً على ما قام به زوجك الذي كان قائداً لحركة 15أكتوبر 78م؟ تسبقني إلى الإجابة وهي ترفع رأسها " أشعر بالفخر .. ويكفيني الاسم يا بني إني زوجة عيسى" ومن هنا كان لي أن أطرق باب قلبها لأفتش عن قصص العشق والحب والوفاء والتي ما تزال خالدة الذكر بين عيسى ومنيرة.
بدأت علاقتهما حين كان "عيسى" يسكن في منزل خاله "عبده محمد الراشدي" حيث كان الخال يهتم بعيسى اهتماماً غير عادياً بسبب النبوغ والحنكة التي تميز بها هذا الشاب, وبلغ هذا الحب مداه حين توجه الأخير إلى القاهرة لدراسة (الاقتصاد بجامعة القاهرة), ليقوم خاله بخطبة إحدى فتيات القرية لعيسى الذي تفاجأ بالأمر ورفضه أيضاً.
لكن "منيرة" التي كانت طفلة حينها كانت تفيض بالحب لابن عمتها "كان عمري سبع سنين والنسوان يسألني من تريدي .. وأقول لهن : عيسى, وبعدين عيسى كان مسافر في القاهرة يدرس وكان يجلس يرسل لي برسائل وأعطيهن لأخي "شهاب" يقرأهن لي, وكانوا عيسى وسعيد ربيعان وسلطان العتواني يرسلوا لنا برسائل وشروط مسجلة يسجلوا عليهن كلامهم, عيسى كان يرسل لي و"ربيعان" يرسل لـ "آمنة" اللي تزوجها و"العتواني" يرسل لـ "حفصة" وتزوجها بعدين .. "
تتكلم وهي تخفي بقايا ابتسامةٍ من زمنٍ غابر, وتهيم في تفاصيل ذلك الصوت الذي كان فائضاً بالحب والمحمول على أشرطة الكاسيت حين يكون المتكلم هو "عيسى", وحين سألتها عن مضمون التسجيل الصوتي؟, أجابت بخجلٍ وهي تنكس رأسها مبتسمة " كلام من حق العشاق .....", أدركت حينها أن "العتواني" وحده من يمكن أن يبوح لنا بتفاصيل تلك الرسائل الغرامية.
على الرغم من فارق السن بين العاشقين "عيسى ومنيرة" إلا أن الحب بينهما قد انتصر حيث كان "عيسى" في القاهرة في مطلع الثلاثينيات من العمر يتأهب للعودة إلى اليمن لخطبة ابنة خاله "منيرة" التي كانت حينها في الحادية عشر من العمر تقريباً, ولتستمر الخطوبة لمدة عامين تكللت بالزواج "كان بيننا حب وكنت مخبئ للرسائل اللي أرسلهن لي وما ضاعين علينا إلا بعد ما اعتقلوهم بعد الحركة ...".
أنهى الشاب دراسته في القاهرة وعاد إلى قريته "العبانات" ليتزوج من "منيرة" التي كان والدها يعمل في السعودية وقد تكفل بتربية وتدريس "عيسى" وكذا منحه رعاية تامة كانت كفيلة أن تجعله يقضي معظم أيامه في منزل خاله وليعيش أيام ظلت عصية على النسيان "أقول لك رجع عيسى من القاهرة وتزوجنا, وأبي بنا لنا بيت صغير في القرية, لكن عيسى طلّعنا صنعاء وأستأجر لنا أول شيء بيت في الصافية ورجعنا نقلنا لباب البلقة ".
ربما في هذه المرحلة بالذات بدأت الزوجة التي كانت صغيرة في السن تكبر مع المسؤولية التي تتحملها باعتبارها زوجة للقائد الناصري الشاب والذي عمل حينها موظفاً في رئاسة الوزراء, ولا تنسى الزوجة تلك الزيارات المتكررة إلى المنزل الذي صار أشبه بخلية نحلٍ يرتاده رجال الدولة ورجال التنظيم الناصري وكذا الطلاب الذين يقوم عيسى بمساعدتهم "البيت حقنا كان مفتوح ليل بنهار لأصحاب عيسى, كان يجي عبدالسلام مقبل ومحمد إبراهيم وحسن مكي وعبداللطيف الشرجبي ,, وعبدالله عبدالعالم ما كان يطلع من الحجرية إلا ويزور عيسى للبيت, وإلا ما الطلاب كانوا داخل خارج وعيسى يفرق لهم المصاريف ويخلي البيت بدون مصروف " وتتذكر انشغالات زوجها واجتماعاته المتكررة مع قيادة التنظيم الناصري حينها "كانوا يجتمعوا من أربع أيام في ذمار أو بصنعاء القديمة وما حد يزهد لهم أينهم, وبعض أحيان كان عيسى يخلي واحد صاحب مكتبة اسمه "حزام" يعطيه القات وأغراض البيت ويجلس في البيت من أسبوع ولا يجاوب أحد".
تحمل "منيرة" ذاكرتها لترسم التفاصيل الصغيرة التي عاشتها مع زوجها, وحين كنا في ضيافتها تفاجأنا بأنها تشرب المداع بكثافة ما قاد فضولنا للسؤال عن سر ذلك " عيسى علمني شرب المداعة, كان يشربها من الظهر لليوم الثاني ,, تعلمها من أمه ومن أمي , هن علمنه المداعة وهو علمني .. كان يمكنِّي : اشربي .. اشربي .. أما السيجارة أقول لك كانت تتعبه".
بدأت الزوجة تتوجس من تحركات زوجها في الجانب السياسي حيث كان يمنح معظم وقته للتنظيم, واستشعرت هذه التحركات من خلال معرفتها بعلاقة زوجها بالرئيس الحمدي الذي قدم لعيسى النصيحة يومها "كان عيسى يجلس يخطط للحمدي كيف يعمل وكيف يسوي .. والحمدي أنذره قال له : لا تخرج في الليل ولا تمشي في الغدرة ولا بين الأزغاط .. كان عيسى ما يقدرش يجلس في القرية .. أقول لك نزلوا له الجواسيس حتى للقرية" وحين تذكر القرية فإنها تتذكر بداية قصتها مع الأمومة التي جاءت باكراً بعد حوالي عامٍ واحدٍ من الزواج, ولعل هذه الأمومة هي الفصل الأبرز لوفاء الزوجة لزوجها والأم لأبنائها "روحني للبلاد عشان نعيد بعيد عرفة, وسافرنا وبالقرية ولدت "حمدان" وجلسينا في البلاد 15نهار ورجعنا صنعاء, وبصنعاء كان عيسى عائش على الراتب وحالته حاله".
بعد ميلاد باكورة ذريتهما "حمدان" والذي يقال إن تسميته جاءت تيمناً بالمفكر العربي الأستاذ الدكتور جمال حمدان أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة والذي تتلمذ "عيسى" على يديه, بعد المولود الأول بحوالي عامٍ واحدٍ فقط أبصرت النور "مريم" التي ولدت في صنعاء في العام 77م حيث كان الوالد في الكويت لحضور مؤتمر فرع التنظيم الناصري, ولم تكن "منيرة" تدري أن هذا العام الذي شهد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي سيمثل نقطة تحول في مسيرة زوجها, ليتها كانت تدري أن زوجها يعد مع قيادة التنظيم لانتفاضتهم في وجه نظام "صالح" على الرغم من أنها كانت تعيش الأجواء التي توحي بذلك "كان معهم شنط زلط حق التنظيم وأني كنت أجلس أرصهن لهم, ويوم أخذت لي ألفين قرش وعيسى تبعني للبلاد وأخذها مني قال هذه حق التنظيم .. كانت القروش بين يده مثل الحُمر وما عملنا حتى بيت".
أدركت ربة البيت وهي ترى زوجها يعيش معظم وقته خارج المنزل أن شيئاً ما سيحدث عمّا قريب فقد كانت تحركات عيسى ورفاقه أكثر من المعتاد وأكثر سرية من ذي قبل, حتى أن الاجتماعات التي كانت تقام زاد مدتها عن المعهود "قدام الحركة قال لي سافري وكان اصحابه يحذرونه ويقولوا له شيجيئوا يسلخوا الجهال سلخ, وكان معهم عسكري من الجنوب اسمه عبدالقوي العربي يعطي عيسى كل الأخبار, وكان لو بيحصل حاجة يحذره ويقول له يختفي".
ربما أن تحذيرات رفاقه هي ما جعلته يستعد لكل مداهمة يقوم بها الأمن بمنزلة, ومن الظريف أن عيسى كان يستعد في بعض الأحايين لهذه المداهمات التي يتم اعتقاله فيها بارتداء لباس جديدة وزيادة الهندام, والأدهى من ذلك أنه كان يخبر زوجته ببعض هذه المداهمات قبل حدوثها بغرض تطمينها "قبل الحركة قال لي إن العسكر بياخذوه الساعة 12 ليلاً وقال لي لا تفتجعيش ولا تخافيش, وأنا قمت والفت الوثائق حقهم اللي في البيت وأخرجتها لبيت جارنا حمود المطاع في باب البلقة, والباقي مع الربشة أحرقتها في الحوش, ما بعدين العسكر داهموا البيت الساعة 10 واعتقلوه وفتشوا البيت, وخبأت المسدس حقه تحت حمدان بحضني, وجلس عيسى في السجن أربع أيام وبعدها أخرجوه وأصحابه كانوا يقولوا: زوجة عيسى عملت عمل .. أنقذت رقاب".
بسرية تامة تواصلت الاستعدادات الحثيثة للحركة وقبل انطلاقها بحوالي شهرين قام رجال الحركة بإرسال عوائلهم إلى قراهم, ومنهم عيسى الذي أنزل زوجته وطفليه إلى قريتهم في قدس وكان مبرره لهم أنه سيسافر إلى القاهرة وحين يعود سيرجع جميعهم إلى صنعاء "أنزلني للقرية مع الجهال قبل الحركة بشهرين وقال إنه سيسافر للقاهرة وبيرجع, وفي القرية تراءيت إنه روَّح لي عرطوطو كنت أجري بعده وضاع, ولمّا كلمته بكى وقال لي : لومت تزوجي بعدي بس ربي لي جهالي .. كان عيسى قوي ما يبكيش وهذيك اليوم بكي .. أول مرة يبكي".
عاشت "منيرة" وطفليها وهي تعتقد أن زوجها سيسافر إلى القاهرة كي يعود, وكانت ترى أن أحلامها تكبر مع طفليها حمدان ومريم, وتفاجأت قبل الحركة بحوالي عشرين يوماً أن فارسها قد عاد إلى قريته وليتها كانت تدري أنه اللقاء الأخير "زارنا قبل الحركة بعشرين يوم وقال لي : ذلحين عيد الثورة وبعد الثورة نخلي أخوك يطلعك أنت والعيال, وذكرت له حقي الرؤيان وقلت له : أنت تحفر قبرك بيدك .. وما زهدت إلا ودموعه يتناطفين".
قضت "منيرة" أياماً عصيبة في القرية حين كانت روحها بين يديها وظلت الهواجس والكوابيس تراودها بين الحين والآخر والقلق يحاصرها من كل الجهات إلى أن دقت ساعة الصفر "يوم الحركة جاء عسكر للبيت في القرية في منتصف الليل بالضبط وفتشوا البيت وقلت لهم : عيسى في لقف الطاهش .. وأرسلت له رسالة مع أخي "شهاب" إلى صنعاء لكن أخي ما عرفش يمشي في الطريق مع العسكر وبعدها قالوا لنا إنهم في السجن, وبعدين طلعت أمه (جوهرة الله يرحمها) وأخته الصغيرة "فاطمة" إلى صنعاء, واحنا جلسنا نسمع الراديو ونسمع المحاكمة الساعة 8 بالليل وبعدها دوخت, وبعد أيام جلسنا نسمع الراديو وهم يقولوا حكموا عليهم بالإعدام, واجتمع الناس في بيت عيسى يهللوا عليهم والدوريات تقتحم البيت والمهللين ... هم يقولوا إن عيسى أعدم واحنا نقول عاده شيجي ".
هي إذاً تعيش على أمل, لأن عيسى ما زال يسكن قلبها تماماً كالملايين من محبيه ومن السائرين على دربه,ولذا فهي تفخر ولا تزال أنها "زوجة عيسى" وهو أحب الألقاب إليها باعتباره تاجاً يزين رأسها مدى الدهر, لهذا فقد ظلت وفية لذكرى القائد والزوج والإنسان ورفضت أن تتزوج من بعده لتنذر نفسها لتربية طفليها وأحفادها من بعدهم "تقدموا لي أربعة يشتوا يتزوجوا بي بعد عيسى وأني ما رضيتوش, مرة جاء واحد مغترب في السعودية لعند أبي يريد يتزوجني وكلمني أبي وقلت له ما أشاش زواجه .. شربي جهالي, وأبي صيّح فوقي وما رضيتوش أبداً وقلت لأبي : مو أطرح فوق الدجر بر".
لقد عاشت عقوداً من الدهر تطوي أيام العمر يوماً وراء آخر وهي وفية لزوجها ولذكراه, ناضلت في تربية الأطفال والأحفاد من بعدهم, ولا تنسى أم حمدان أنها أم كل مناضل يؤمن بالقيم التي آمن بها عيسى وضحى في سبيلها, وتتذكر في كل لحظة تترقرق دمعاتها فوق خدها ,, تتذكر مقولة زوجها القائد "قال لي: يا منيرة لو مت بعدي مائة عيسى ,, مستحيلتهتاني من بعدي,,,".