عبدالعال الباقوري
هذه سطور قرأتها من قبل أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أضع الكتاب جانباً، وأستعيد ما وراء الكلمات والسطور، وأتذكر الأحداث والرجال، والصعود والهبوط بعد صراعات بين الإخوة والأصدقاء الذين فرقت بينهم السياسة، ومزقتهم الحسابات السياسية الضيقة، فقادتهم جميعاً إلى غياهب السجون، في فصل مرير ربما لا نزال نعيش آثاره إلى اليوم، مع أنه حدث قبل نحو 40 عاماً، وبالتحديد قبل 38 عاماً وخمسة شهور تقريباً، وأعني بذلك انقلاب الرئيس أنور السادات ضد من سماهم ‘’مراكز القوى’’.. وكان على رأسهم علي صبري، شعراوي جمعة، سامي شرف، محمد فايق، لبيب شقير، محمد فوزي، وأمين هويدي، والأخير صاحب السطور التي أعنيها والتي استعدتها مرة أخرى وأنا أقلب صفحات كتبه منذ فارقنا في الأسبوع الماضي، ففقدت أمتنا العربية برحيله عقلية استراتيجية كبيرة قد لا يكون لها في حياتنا أنداد كثيرون.
والسطور التي أعنيها هي آخر فقرة في مذكراته بعنوان ‘’50 عاماً من العواصف: ما رأيته قلته’’. وقد تناول في هذه المذكرات أحداثاً مهمة ومهمات خطيرة تولاها منذ قيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 في مصر.. يكفي مثلاً أنه جمع بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967 بين منصبي وزير الحربية (الدفاع) ورئيس المخابرات، كما تقلد أكثر من منصب وزاري وعمل سفيراً في كل من المغرب والعراق. والأهم من ذلك أنه كان أحد رجال الزعيم جمال عبدالناصر المقربين، وكان من أكفأ الرجال الذين أحاط نفسه بهم وأحاطوا به. وكان في قربه هذا من الزعيم من أكثرهم صراحة في الرأي وإسداء النصيحة لدرجة أن عبد الناصر نفسه شهد له أكثر من مرة بقوله ‘’أمين يقول الحق ولو على نفسه’’. وقبل أن نتطرق إلى أمثلة لمواقف لم يتردد في أن يصارح زعيمه بوجهة نظره دون تردد أو لف أو دوران، فإن مذكراته وضح فيها قول الحق ولو على نفسه وهو يتناول أحداث 15 مايو/ أيار، فهو يعترف بأنه لم يكن من المجموعة التي أطلق عليها اسم ‘’مراكز القوى’’، ولكنه يعرف أن الرئيس السادات كان ‘’يحاكم عهداً كاملاً وليس حفنة من رجال ذلك العهد’’. ومع هذا لم يتردد أمين هويدي بصدقه مع نفسه في أن يقرر ‘’أن انتصار الرئيس السادات في أحداث 15 مايو/ أيار 1971 كان لصالح مصر’’.. وأعرف كثيرين لا يتفقون معه في هذا الرأي، ولكنهم لا يشككون ولا يشكُّون في أنه صادق فيما ذهب إليه، خصوصاً أنه كتب هذه المذكرات بعد رحيل السادات، وبعد خروج جميع من سجنهم، وبعضهم فارق الدنيا منذ سنوات مثل علي صبري وشعراوي جمعه.
وقد اقتيد أمين هويدي إلى السجن مساء يوم 16 مايو/ أيار 1971 وأفرج عنه بعد أن صدر الحكم بحبسه سنة مع وقف التنفيذ ثلاث سنوات. وهنا تأتي السطور التي سلفت الإشارة إليها، وهي قوله بعد الإفراج عنه ‘’رجعت إلى أرضي أزرعها وإلى قلمي وأوراقي وكتبي.. صدر لي أكثر من عشرين كتاباً’’ وبعد أن يذكر أسماء هذه الكتب وبعد أن يشير إلى مقالاته في الصحف يضيف ‘’كنت في المعاش من العام 1970 وعمري 49 عاماً أمضيت أغلبها في الكفاح ولكني لم أقبل الأمر الواقع، وقلت لعائلتي السيدة حرمي وأولادي وأحفادي لا أحد يوقع لأمين هويدي قراراً بإحالته إلى المعاش، فأنا الذي سوف أوقع القرار، ومازال الوقت مبكراً حتى أفعل ذلك’’. وقد كان.. فهو لم يعرف سوى العمل فقد انكب على القراءة والكتابة من خلال نظام دقيق وضعه لنفسه، وكانت كتاباته ومقالاته وكتبه مشاركة فعلية وفعالة في الحياة السياسية العربية، فضلاً عن مشاركته في المؤتمرات والندوات العلمية، وتقديمه المشورة لمن يطلبها من جهات عربية رسمية وشعبية. وفي كل هذا لم يكن يعرف إلا الأمانة والصدق والإخلاص وقول الحق. وكثير من هذا لم تكشف صفحاته، وأظنها لن تكشف.. ويكفي هنا ذكر مثلين لموقفين لم يتردد أمين هويدي في أن يعلن رأيه صراحة للزعيم عبد الناصر الذي كان يتبنى موقفاً مضاداً، بل واتخذ قراره أحياناً بناء على موقفه هذا. المثل الأول يتعلق بالوحدة المصرية السورية في ,1958 إذ كان أمين هويدي من معارضي ما سماه ‘’القفز بالعلاقات إلى مستوى الوحدة الكاملة’’. وقدم هو وشعراوي جمعة تقريراً إلى عبدالناصر بالتريث في الوحدة. ولكنه لا ينسى أن يقرر أن الرئيس سيد قراره وليس أسير مستشاريه.. الموقف الثاني خاص بتسهيلات التزمت مصر بتقديمها للسوفيت. فقد فوجئ بالاتفاق الخاص بذلك بعد ساعات من تعيينه وزيراً للحربية في 21 يوليو/ تموز ,1967 فاتصل بعبد الناصر بعد منتصف الليل، وشرح له موقفه الرافض وأرسل له نص الاتفاق وبعد أن اطلع عليه أخبره تليفونياً بالموافقة على رأيه وطلب تأجيل اتفاقية التسهيلات والاكتفاء بتوقيع اتفاقية الخبراء والمستشارين العسكريين.. وستظل أمتنا بخير طالما في حياتنا أمثال هذا الرجل رحمه الله رحمة واسعة.
عن صحيفة الوقت البحرينية