Home Articles Orbits حوار مع محمد ناجي أحمد .. عن الفتوى والإخوان المسلمين والناصرية والديمقراطية 1-2
حوار مع محمد ناجي أحمد .. عن الفتوى والإخوان المسلمين والناصرية والديمقراطية 1-2
عبدالملك المخلافي
عبدالملك المخلافي

الإهداء: إلى شباب الناصرية, وخاصة أحمد شوقي أحمد، عمر الضبياني، محمد ناجي آغا.

بداية

استغربت الفتوى التي أصدرها الكاتب محمد ناجي أحمد تعليقاً على إحدى تغريداتي على تويتر, المعاد نشرها أيضاً على الفيسبوك, والتي قام أحد الأصدقاء بنشرها على حوائط عديدة منها حائط الأخ محمد ناجي نفسه قلت فيها:((وصول الإخوان للسلطة مكسب للديمقراطية فهم جزءٌ أصيل وكبير في مكونات الأمة, وإما سيثبت أنهم جماعة ديمقراطية وهذا مكسب, فإن ثبت العكس الشعب الحكم)).

فكتب الأستاذ محمد ناجي أحمد على صفحته في الفيسبوك: ((حين أجد أن ناصرياً يقول إن فوز الإخوان المسلمين في مصر هو فوز للديمقراطية أشك في ناصريته ((!!)) وأتيقن أنه ليس إلا برجوازي صغير ((!!)) يتسلق اللحظة بكل زيفها))!!! علامات التعجب بين الأقواس وخارجها هي من عندي وليست من عند الكاتب على ذات الصفحة – أقصد صفحة الكاتب في الفيسبوك – ورغم التحريف لما قلت, الذي أتمنى أن لا يكون مقصوداً أو متعمداً للترويج للفكرة التي يريد الكاتب ترويجها.. على ذات الصفحة أشار أكثر من معلق أنِّي الناصري المشكوك في ناصريته قائل هذه المقولة الخطيرة, والمرتكب لهذه الجريمة التي أثبتت بأنه برجوازي صغير يتسلق اللحظة بكل زيفها.!!

وتوزع المعلقون بعد ذلك بين مدافعٍ عنِّي ومؤيدٍ للكاتب, وبين شامتٍ بالناصرية لأنها غير ديمقراطية؛ استناداً لرأي محمد ناجي أو لأنها ترحب بفوز الإخوان؛ استناداً لما نُسب إليَّ, وكان الألطف والأكثر مودة من وجد لي العذر أني وقعت ضحية التضليل الإعلامي (هكذا!!).

أما صديقي العزيز ورفيقي الكاتب الكبير محمد ناجي أحمد فقد تملص بأدب يُقدَّر منه وإن كان بتذاكي مقصود عن القول أنِّي المعني بالموضوع, وأمام أدبه هذا وبغض النظر عن تذاكيه فإنِّي سأكون مديناً له باعتذارٍ علني عن سوء الظن إن تبين أنه آثماً إذا ما أثبت أن هناك من قال مقولة تشبه نص ما قال هو, أو ما قلت أنا, أو ما يشبههما, أو ما يشبه أيٍ منهما.

وحتى ذلك الحين فإن بعض الظن إن كان إثماً, فبعضه الآخر ليس إثماً إن قام على ما يدعمه ويؤكده.

على العزيز محمد أن يدرك أنه خاطب شخصاً ما, وأصدر في حقه فتواه وحكمه, ولم يتحدث بشكلٍ مجرد, ولأنه خاطب شخصاً ما, فإن من المتوقع أن شخصاً ما سيفترض أنه المعنِّي ويقوم بالرد, وقد افترضت استناداً لما ذكرت سابقاً أنِّي المعنِّي, وهذا أحد أسباب ردي.. فما هو الرد؟

       1- تعليق وتعقيب

 ما كنت لأرد كعادتي على الآراء التي اعتبرها غير موضوعية, أو التي تحمل شتائم, أو اتهامات, أو أحكام, لولا احترامي ومودتي الشخصية للكاتب, وتقديري لآرائه, وإن جانبه الصواب هذه المرة, ولولا حرصي على أن يفهم وجهة نظري جيلٌ جديدٌ من الناصريين أرى فيهم المستقبل, أحسست من تعليقات بعضهم عدم فهم لما قلت, وقد قُدم بتلك الصورة المشوهة, حتى وإن بدا عند بعضهم تفهم – ربما – لثقةٍ أعتزُّ بها.

ولأن كل ذلك يأتي وسط حالةٍ لا بد من إدراكها, والتعامل معها, هي حالة احتقانٍ بين التيار القومي والناصري تحديداً والتيار الإسلامي, عائده من وجهة نظري إلي أخطاء وخطايا ارتكبها التيار الإسلامي, وخاصةً الإخوان المسلمين على المستويين المحلي والقومي خلال الفترات الأخيرة, ظهرت فيها نوازع للاستحواذ والاستعلاء, بالمقابل استدعت ردود فعلٍ من بعض القوميين غير مدروسة, محكومة بالانفعال الآنيُّ وظروف اللحظة, وأخشى أن تؤدي إلى تدمير جهودٍ بُذلت خلال عقودٍ لتصحيح العلاقة بين التيارين, والأهم أن تُظهر التيار الناصري على غير حقيقته؛ لِتقدمه كتيارٍ إقصائي لا يقبل الآخر, في الوقت الذي ثبت على مدى عقود بالفكر والممارسة ومنها النتاج الفكري الضخم للفكر القومي والناصري تحديداً, أنه هو التيار الديمقراطي الأبرز في الوطن العربي, الذي أنتج فكراً ديمقراطياً, وصحح علاقته بالقوى الأخرى, ودافع عنها, وطور أطراً وصيغ حوارية وائتلافية عديدة على مدى ما يقارب العقود الأربعة, ولمن لم يطَّلع, عليه أن يعود على سبيل المثال للنتاج الفكري الضخم لمركز دراسات الوحدة العربية, وعشرات, بل مئات الندوات, التي عُقدت, وإنشاء المؤتمر القومي العربي, والمؤتمر القومي الإسلامي, والمنظمة العربية لحقوق الإنسان... الخ, على الصعيدين القومي والوطني في كل ساحةٍ ومنها اليمن, بدءاً بالتكتل الوطني للمعارضة, ومجلس التنسيق الأعلى, واللقاء المشترك, وقبل, وربما بعد.

وتلك دوافع تجعل من الرد واجبٌ, وإن تداخل فيه الرد المباشر, وهو ما سأبدأ به الجزء الأول من موضوعي, بالرد على ما علَّق الكاتب بأن انتقل إلى جوهر الموضوع, الذي بنيت عليه رأيي وبنى عليه تعليقه وتعقيباته كما سيرد في الجزء الثاني.

 وأبدأ بالقول إن استغرابي الذي بدأت به مقالي لا يعود لأن الكاتب خطَّأ رأيي, ولكن لأن الكاتب لم يخطِّئ رأيي, فلو خطَّأه فذلك حقه إن أراد, كما أنه لم يقل رأيه, أو أين يتفق معي أو يختلف, وإنما تقمص دور المفتي الجهبذ, الذي بيده الحقيقة, وأصدر فتوى أن من يقول إن فوز الإخوان فوزٌ للديمقراطية يُشَكُّ في ناصريته, ولاحظ هنا أنه شخصياً يشك في ناصرية من يختلف مع آرائه. ماذا تركت يا أخ محمد لأصحاب الفتوى الدينية الذين يعتبرون أنهم مصدر الحقيقة؟ وهل يختلف احتكار الحقيقة أكانت دينية أو ناصرية كما هي في حالتك؟

إنك تذكرني بواقعة حدثت فيها فتوى مماثلة من الشيخ عبدالمجيد الزنداني اختلفت فيها معه, في أن يكون هو مصدر الفتوى, وحامل صكوك الغفران كما تفعل أنت الآن, وكما أختلف معك الآن.

الشاهد في هذه الواقعة, أنه عند اغتيال الشهيد جار الله عمر, أدلى الشيخ الزنداني بتصريح لقناة الجزيرة قال فيه: إنه لم يكفَّر جار الله لأنه كان يراه يصلي في مسجد جامعة الإيمان.

 كنَّا جميعاً قادة الأحزاب في منزل المرحوم الشيخ عبدالله الأحمر, ومن المعروف أنِّي كنت أحد المستهدفين بالاغتيال من قبل القاتل المنفذ المعدوم علي السعواني حسب اعترافاته أمامنا حينها, والوثائق التي وجِدت معه, فقلت للشيخ عبدالمجيد – الذي كان مسروراً بما قال, فقد اعتبر أنه برأ نفسه من تهمة التكفير – يا شيخ أنت عالجت الخطأ بخطأ لا يقل عنه, فبدأ استغرابه واستغراب بعض الحاضرين, فأكملت أنت جعلت نفسك مصدر الحكم على إسلام جار الله, ولم تقل إن هذه مسألة بينه وبين الله, ولا إن الأصل هو الإيمان, وأن ليس لمسلمٍ أن يكفِّر مسلماً, وواصلت القول له: جار الله يسكن جوار جامعة الإيمان وشاهدته يصلي في مسجد الجامعة, فبرأته بشهادتك, أنا أسكن في مدينة الأصبحي بعيداً عن الجامعة كثيراً, فهل أنقل إلى جوار جامعة الإيمان, وأصلي في مسجدك, وأمامك لتجنب مصير فتوى تكفير؟

اليوم أيها العزيز محمد ما هي أوراق الاعتماد التي تريدني أن أقدمها لك لكي لا تشك بناصريتي؟ ألا يتشفع لي أني أقول أنِّي ناصري؟ وألا يتشفع لي عندك ما يقارب أربعة عقود من العمل في صفوف الحركة الناصرية على المستويين الوطني والقومي في مختلف الظروف, تعرضت فيها للسجون ومحاولات الاغتيال والتشرد, وأنتجت حركة وفكراً, وفهمت وآمنت... الخ, وحصلت نتاج ذلك كله مرات عديدة على ثقة الأغلبية من زملاء الفكر والحركة لا مثلهم في أعلى المواقع ومختلف المحافل؟

ألا يشفع لي أنِّي وأنا أقول ما أخذته عليَّ أوضحت في نفس الوقت وجهة نظري في برنامج الإخوان, وكنت الأبرز, ومن ذات المنطلق المؤمن بالديمقراطية في نقدهم مواجهة معهم في لقاءات مباشرة أو عبر وسائل الإعلام كافة بما فيها في آخر مقابلتين في الميادين والحياة عشيَّة الانتخابات المصرية, أو في حساباتي في مواقع التواصل الاجتماعي ولكن دون إنكار حقهم في الوصول إلى السلطة أو المساواة بينهم وبين فلول نظامٍ يجب أن يرحل إلى غير رجعةٍ, ومعه كل فلولٍ في الوطن العربي؟

فكيف استسهلت أنت بعد ذلك بجرة قلم أن تشكك في ناصريتي لمجرد رأي لم يطابق رأيك؟ كان بإمكانك أن تنتقده وتخطئه بملء صفحات إن شئت, ولكن لا تشكك في ناصريتي, كان بإمكانك حتى إن كنت تمتلك فهماً أعمق مني للناصرية أن تقول لي أنِّي مخطئ فيما قلت, فالناصرية تقول كذا وكذا, وما قلته أنا ليس من الناصرية في شيء لكذا, ولربما بعدها قُلت لك سراً في نفسي أوعلناً أو عندما ألتقيك شكرًا فقد تعلمت الآن منك ما لم أكن أعلمه عن الناصرية, لكنك خضت فيما يتصل بإيماني وصدقه, وأعطيت نفسك حق أن تحكم على شخصي وإيماني وإخلاصي لما أعتنق,   كل هذا على افتراض أن هناك موضوع يستحق، وأن الخلاف مع الإخوان المسلمين أبدي ومن ثوابت الناصرية وجوهر الفكر, وليس خلافاً سياسياً قابلاً للانتهاء إذا زالت أسبابه, أو قابلاً للتعايش إذا ما تم الاحتكام إلى الناس بالديمقراطية في إطار لكم دينكم ولي دين, أو بالأصح في إطار برامج يتم الاحتكام إلى الناس فيها, ولعل ذلك جزءاً مما قصدته في تغريدتي فاعتسفته أنت في فتواك لتشكك بناصريتي, فماذا تركت للتكفيريين؟ وكيف تستعير أدوات بعض من تنتقدهم؟!

والأطرف ولا أقول الأنكى, أنك ألحقت الفتوى التي استعرت فيها أدوات التكفيريين وإن بسياق غير ديني, ألحقتها بحكمٍ باتٍ, استعرت فيها أدوات اليسار الماركسي في النظرة إلي الأفكار الثورية التي لا تطابق فكرهم بوصف صاحب هذه الأفكار بأنه برجوازي صغير, فقد قلت في حكمك القاطع, والذي استخدمت فيه كلمة أتيقن بكل دلالاتها على أن حكمك لا يقبل الشك فهو يقين ((وأتيقن أنه ليس إلا برجوازي صغير)).

 وبالمناسبة, أنا اعتبر أن كل من يؤمن بالحرية والديمقراطية وحق الوصول للسلطة للجميع, ولمن يختلف معهم, خاصة اليوم, وبناءً على الواقع ثورياً, واعتبر نفسي  منهم, وكذلك كانت هي تغريدتي محل نقدك.

 ما علينا, دعنا نعود إلي سياق حديثنا, حيث أريد أن أذكرك أن اليسار الماركسي يصف عبدالناصر بالبرجوازي الصغير, ويصف الناصرية بأنها فكر البرجوازية الصغير, ومع إعجابي بقدرتك على استعارة أدوات اليمين واليسار في جملة قصيرة لا تزيد على سطرين, في نفس الوقت اندهشت أن هذه القدرة لم تسعفك أن تدرك أنك من حيث لا تدري قد أفسدت بفقرتك الثانية الأولى, أو بالأصح أبطل حكمك فتواك التي شككت فيها بناصريتي, فقد رميتني بتهمة رُمي بها عبدالناصر, فهل هناك أحسن من ذلك؟! وهل هناك أكثر من ذلك إثبات لناصريتي التي شككت فيها؟! بل الناصرية ذاتها يقال عليها فكر برجوازي صغير, فهل أتمنى إلا أن أكون طبقاً لما أؤمن به, وأن اتهم بذات التهم التي يُتهم بها الفكر الذي انتسب إليه؟!

لقد حضرني يا صديقي الجميل وأنا أقرأ فقرتك وابتسم, الكثير من الوقائع التي كنت شاهداً عليها, والتي رُميت فيها كناصري, أو رُميت الناصرية فيها بالبرجوازية الصغيرة من بعض رفاقنا الماركسيين, سأوري لك إحداها فقد كنا في عدن عام 88م في ندوة عن العلاقات المصرية اليمنية, كنت فيها مع قلةٍ من الناصريين اليمنيين والعرب هم: الإخوة محمد العفيف, وعبدالغني ثابت, وخير الدين حسيب, وأحمد يوسف أحمد, بين غالبية من الماركسيين يمنيين وعرب وأجانب, ولعلها المرة الأولى, التي يتم فيها ذلك في إطار الانفتاح الإيجابي الذي شهده الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جنوب الوطن بعد 13 يناير 86م, تحولت الندوة إلى حوارٍ حول الناصرية وعبد الناصر, والتجربة الناصرية والماركسية, والتجربة في الجنوب والناصريين... الخ. رغم كل شيء كان حواراً خصباً وشجاعاً وحراً وغير مسبوقٍ وبه الكثير مما يستحق أن يُسجل, ولكن ما يهمني هنا قوله مما له صلة بموضوعنا أنه جرى الإكثار من الحديث عن عبدالناصر البرجوازي الصغير, والناصرية البرجوازية الصغيرة, وجرى التجروء من البعض على الحقيقة, والناصرية حتى قالت الرفيقة والصديقة العزيزة فريدة النقاش إن ميثاق الجبهة القومية عام 65م أهم من ميثاق عبدالناصر البرجوازي الصغير, وأكثر جذرية ويسارية وو...الخ, عقبت أنا تعقيباً طويلاً على كل ما قالت ليس هذا مجاله اختتمته بالقول: ((أخت فريدة دعك من استعارة مصطلحات جرى صياغتها في واقعٍ مختلفٍ, وظروفٍ مختلفة.. اليسارية هي موقفٌ ثوري من واقعٍ معينٍ من خلال حلولٍ تلبي احتياجات هذا الواقع وليست لباساً يلبسه الشخص فيصبح يسارياً, فالماركسي العربي الذي لا يؤمن بالوحدة العربية, أو يقيم علاقات مع ما يسمى باليسار الإسرائيلي مثلاً هو يميني ورجعي كمان, وأداة من أدوات الاستعمار.

ولهذا الناصرية هي الأكثر جذرية وراديكالية وثورية ويسارية في الواقع العربي، اسألي المواطن العربي الذي منح عبدالناصر تأييداً بلا حدود لأنه يدرك ماذا قدم له على الصعيد الاجتماعي وكل الصُعد, وجعل الماركسيين الجيدين وهم كُثر ينصفوه وينصفون تجربته, بل ويلتحق بعضهم بها, وجعل أمثالك – وكانت ولازالت قيادية في حزب التجمع المصري – يتغطون بعبد الناصر, ويرفعون شعاراته تسولاً لشعبيته, واختتمت: اسمحي لي يا رفيقه أن أروي لك حكاية طريفة كنت شاهداً عليها دارت في مدينة تعز في منتصف السبعينيات, فقد كان أحد المحاضرين في المركز الثقافي يردد ما ترددين أن عبدالناصر برجوازي صغير, فاستفزت كلمة صغير فلاحاً من شرعب كان يستمع للندوة ويرى عبدالناصر بما أعطاه لأمته كبيراً, فقام صارخاً في وجه المحاضر: ((عبدالناصر برجوازي كبير كبير وأكبر منك)), لم يفهم الرجل معنى مصطلحاً مستعاراً, وبالنسبة له عبدالناصر كبير في كل حاجة, وأنا أقول لك يا أخت فريدة وللجميع ما قاله هذا الفلاح عبدالناصر أكبر منك ومنا جميعاً وعلينا أن نلجأ لتقييمات أخرى)).

ألا تتفق معي يا صديقي أن علينا أن نلجأ لمصطلحات وتقييمات بناءً على واقعنا وتطوره؟ أليس ذلك جوهر الناصرية التي تدعو إلى الانهماك في الواقع بحثاً عن النظريات وليس العكس؟

الناصرية, هي الأكثر جذرية ويسارية ببعدها الاجتماعي وبكل أبعادها, فهي التي قدمت حلولاً جذرية لكل قضايا الواقع بكل أبعاده وليس ببعدٍ واحدٍ فقط, ولهذا تميزت عن غيرها.

رفعت الناصرية شعار (الحرية والاشتراكية والوحدة), ورأت أن الحرية لها جناحان هما الحرية السياسية والحرية الاجتماعية, أي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية, وعلى ضوء ذلك بلور الفكر الناصري المعاصر عناصر المشروع النهضوي العربي بستةٍ عناصر هي: الديمقراطية, والاستقلال الوطني والقومي, والعدالة الاجتماعية, والتنمية المستقلة, والوحدة, والتجدد الحضاري.. ورأى أنها عناصر ستة لمشروعٍ نهضوي واحد لا يجوز مقايضة أي عنصر منها بعنصر آخر, فلا يجوز مثلاً مقايضة العدالة الاجتماعية بالديمقراطية أو العكس, وأطلق المشروع للجميع وأبدى استعداده للتعاون مع كل من يؤمن بعناصر المشروع أيٍ كان مشربه الفكري.

وبهذا, لم تعط الناصرية لليبراليين حق احتكار الديمقراطية, أو تقديمها كحلٍ سحري بديلٍ للعدالة الاجتماعية, ولم تترك الفرصة بعد تجارب انتهت إلي غير رجعةٍ لمن يريد أن يعيدنا إلى مقولة أن الديمقراطية هي البعد الاجتماعي, ويعيدنا إلى مرحلةٍ كانت دول لا يُسمح بها ذكر كلمة حرية تتسمى بالديمقراطية, فأسقطت خيار بعدٍ اجتماعي بدون ديمقراطية.

هما جناحان لا تحليق للحرية بدونهما, وهكذا بقية الأبعاد بما فيها الحداثة والمدنية والدين.

ومع كل إيماني وقناعتي بمكانة وتميز الناصرية, فإنِّي أؤمن أن الناس هم الحكم على صحة الأفكار والبرامج.

أفلا تستحق هذه الناصرية أن تكون طليعة القوى الديمقراطية, وأن تدافع عن حق من تختلف معهم قبل من تتفق معهم, وأن تٌخلَّص من كل شبهة انتماء لأفكار إقصائية أو استبدادية, وحتى لو تحملت إقصائية الآخرين واستبدادهم يجب أن تستمر تدعو إلى ما تؤمن به حتى لا تجهل فوق جهل الجاهلينا؟!

فعلى ماذا تحاسبني يا صديقي؟ على إيماني بالبعد الديمقراطي للحرية كما تفهمها الناصرية.. وما إدراك أنِّي قد تخليت عن البعد الاجتماعي؟ ربما تقول لأني قلت أن فوز الإخوان المسلمين فوز للديمقراطية, بالمناسبة قلت مكسب ولم أقل فوز, وأوضحت بقدر ما يسمح به 140 حرفاً على تويتر لماذا مكسب؟ فهل انطلق حكمك لأن برنامج الإخوان المسلمين يميني كما فهمت من تعليقاتك الإضافية بعد ذلك؟

حسناً.. ما هي الديمقراطية إن لم تكن تنافساً برامجياً بين اليمين واليسار والوسط وما بينهما, وإن لم تكن اعترافاً متبادلاً مع أصحاب كل هذه الأفكار, وفي مقدمتهم النقيض لك, ومن تختلف معهم دون إقصاء في إطار الديمقراطية وتداول السلطة وجعل الناس هم الحكم؟

ورغم أنِّي لم أفهم حتى الآن فهماً كاملاً معنى إدخال مصطلح برجوازي صغير في حديث عن الديمقراطية السياسية! خاصة أن الإيمان بالديمقراطية, وحق الآخر فيها بما فيه اليميني لا يعني مطلقاً أن تلتحق ببرنامجه, إلا أنِّي حاولت أن أفهم بعض تعليقاتك, فأدركت هذا الخلط عندك بين تأييد حق من تختلف معه, وبين تأييد برنامجه, وهو خلط استغرب أن يقع فيه كاتبٌ كبيرٌ مثلك.

أما الفقرة الأخيرة من تعليقك التي قلت فيها لحقاً ببرجوازي صغير ((يتسلق اللحظة بكل زيفها))!! فليست إلا شتيمة, وأنا لا أشتم ولا ألتفت للشتائم, ولا أرد عليها, وأعتقد بما أعرفه عنك أنها ليست أكثر من زلة لسان أغراك بها ثوب الفتوى.

أما الفقرات التي علَّقت فيها على آراء أخرى, والتي أكدت فيها تلبُّسك دور الفتوى وإصدار الأحكام, حتى وإن وصلت إلى حد أنك أخرجتني كما أخرجت كل من حمل في الساحات صور عبدالناصر في الاحتفاء بفوز مرسي, أخرجتنا هذه المرة من العروبة, والعروبة ليست حزباً أو أيديلوجياً ولا نختارها بل تختارنا, والعروبة هي المواطنة والهوية والجنسية والسحنة والعرق... الخ, وهي تقبل أوسع بكثير من مجرد الخلاف بالرأي على موضوع سطحي وآني مثل موضوع فوز مرشح الإخوان, فهي تقبل داخلها المسلم والمسيحي واليهودي والملحد واليمني واليساري والقومي والقطري وحتى الخائن والمخلص, فكيف أخرجتنا منها بجرة قلم سامحك الله؟ ولكنه استسهال الفتوى الذي لعلك أدركته الآن, ولهذا لن أتوسع بالرد على كل تعليقاتك المشابهة.

بعد ذلك اسمح لي يا صديقي وأنا اختتم هذا الجزء وقبل أن انتقل من ملاحظتي على تعليقك إلى الحوار معك والقارئ الكريم, وخاصة شباب الناصرية الأعزاء في جوهر الموضوع, وهو وجهة نظري التي استدعت تعليقك, واستدعت ردي هذا, أن أطلب منك أن تتفهم مرة أخرى أن دافعي للرد هو مودتي لك واحترامي لفكرك, مثلما هو حوار حول قضيةٍ هامةٍ أظنها تستحق النقاش في هذا الموج المتلاطم بالأفكار والحركة, في مرحلةٍ من أهم مراحل التحول في تاريخ الأمة.

مرحلةٍ يبدو فيها أن فرصة تتخلق بالثورة والوعي والتجربة, لأن ننتقل في كل أوطان الأمة العربية أو في معظمها على الأقل من الاستبداد إلى الديمقراطية والاعتراف بالآخر وتداول السلطة.

ومهما بدا من انتكاسات وأخطاء, بل وخطايا من البعض, ومهما بدا هناك من مؤامرات فإن علينا أن نقرأ الأحداث بقاعدة التحول التاريخي, لا انفعالات اللحظة العابرة, ونثق بشعبنا وأمتنا, خاصة أن احتمال النجاح قائمٌ طالما وصراع الإرادات مستمرٌ, والثوار في الساحات والميادين, أو قادرين على العودة إليها في كل وقت وحين.

على أن ذلك حديثٌ آخر, لكلٍ منَّا اجتهاده فيه, مجاله الجزء الثاني.

 كما أرجو أن تتفهم أن أحد جوانب حرصي الشديد للرد, هو توضيح وجهة نظري للشباب عامة وشباب الناصرية خاصة, لإيماني العميق أن هذا الجيل من شباب الوطن والأمة هو من تلك الأجيال التي قال عنها عبدالناصر:(( في حياة الشعوب أجيال يواعدها القدر، ويختصها دون غيرها بأن تشهد نقط التحول الحاسمة في التاريخ، إنه يتيح لها أن تشهد المراحل الفاصلة في تطور الحياة الخالد؛ تلك المراحل التي تشبه مهرجان الشروق حين يحدث الانتقال العظيم ساعة الفجر من ظلام الليل إلى ضوء النهار)).

إن هذه الأجيال الموعودة تعيش لحظاتٍ رائعة، إنها تشهد لحظات انتصارٍ عظيمٍ لم تصنعه وحدها، ولم تتحمل تضحياته بمفردها؛ وإنما هي تشهد النتيجة المجيدة لتفاعل عوامل أخرى كثيرة, واصلت حركتها في ظلام الليل ووحشته، وعملت وسهرت، وظلت تدفع الثواني بعد الثواني إلى الانتقال العظيم ساعة الفجر.

ومع أهمية الشباب في كل جيلٍ, فإنه ليس كل جيلٍ هو صانع التحول, ونحن اليوم بعد أكثر من نصف عقدٍ من جيلٍ صنع التحول في حياة الأمة نشهد جيلاً جديداً يواعده القدر ويصنع التحول, ويعيد صياغة الحياة العربية, وعلى وعيه وهمته سيكون حجم التحول ونوعه.

 وأخيراً أيها العزيز إن رأيت أن في ردي ما هو شخصي فليس إلا عتب المحب, ما تناولت فيه شخصك الكريم من قريب أو بعيد, ولم أصدر عليك حكماً ولم أبدِ في شخصك رأياً غير الود, وإنما ناقشت أفكارك, وهذا حق لأي شخص يقرأ أفكارك, طالما وأنت تكتب وتنشر للكافة, ولو لم يكن معنياً بها بشكل شخصي, فما بالك إن كان معنياً كما هو بالنسبة لي, ولكني مع ذلك لم أرد أن يكون الأمر سجال شخصي بيننا, فإن مناقشتي لآرائك وهي تتجاوز ما هو شخصي بالعتب, فإنها تتناول ما هو خلاف في الرأي بالاحترام.

الاحترام لك ككاتب وصاحب فكر جدير بالاحترام, وهو محل احترامي حقاً, وإلى أن نتواصل ومعنا القارئ في الجزء الأخير.. لك مودتي..