Home Articles Dialogues د. مخلص الصيادي: الكرامة هي الشرارة الأولى التي فجرت ثورات الربيع العربي
د. مخلص الصيادي: الكرامة هي الشرارة الأولى التي فجرت ثورات الربيع العربي
الوحدوي نت
الوحدوي نت

في حوار موسع يتحدث المفكر العربي الدكتور مخلص الصيادي لموقع (البديل نت) عن جملة من القضايا والأحداث التي يعيشها الوطن العربي. الوحدوي نت

ويشخص الدكتور الصيادي حالة الربيع العربي وحيرة المواطن العربي بين احتياجاته للحرية والفوضى التي تعم الأوطان بعد اندلاع الثورات الشعبية، كما يعرج للحديث عن استغلال القوى الخارجية للثورات العربية بالتدخل المباشر سياسيا وعسكريا وعلى مختلف الأصعدة.  

قوميا يتحدث د. الصيادي عن الحركة القومية العربية وانتقال الحركة الناصرية من الممارسة إلى التنظير كما يحلل برؤية ثاقبة ظاهرة حمدين صباحي المرشح السابق للانتخابات الرئاسية المصرية.

وفي الشأن اليمني يتناول المفكر الصيادي الحالة اليمنية ومالات الثورة الشعبية ومخاطر انفصال الجنوب كأحد مورثات النظام البائد، إلى جانب تناول عديد قضايا في أربع حلقات متتالية ننشرها كاملة فيما يلي:

حاوره - خليفة المفلحي:

من دواعي سروري أن أتحدث لموقع (البديل نت) مع تأكيد تقديري العميق لما يقوم به من جهد في نشر الوعي العروبي، وفي تعزيز الرؤية الصحيحة للأحداث التي يموج بها الوضع العربي، وتتداخل معها الرؤى والمواقف.

ولأن الأسئلة تتناول في عمومها الربيع العربي، وما يمر به هذا الربيع من امتحانات فإن طبيعة هذه الأسئلة تستدعي أن نقدم لها باستعراض التحولات والظروف التي دفع إليها المجتمع العربي ومكوناته عبر عدة عقود أثمرت في ختامها بيئة تستدعي هذا الربيع وتسمح ببزوغه.

وأسمح لنفسي أن أعتبر هذه المقدمة بمثابة توطئة عامة لازمة لعرض إجابات واضحة ومدققة للأسئلة المطروحة.

منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، وتحديدا بعيد وقف إطلاق النار في حرب تشرين/ اكتوبر من عام 1973، دخلت الحياة العربية مرحلة جديدة، كان عنوانها الرئيس هو"تسليم زمام المنطقة إلى واشنطن، رؤية ومصلحة ومآلا، ومن طبائع الأشياء في مثل هذا التوجه أن يبدأ على الفور توليد القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على تحقيق هذا التحول، وعلى تأمين لوازمه.

منذ ذلك التاريخ بدأت عملية تحول كاملة في المجتمع المصري بداية، وفي مختلف المجتمعات العربية الأخرى، وإذا كانت المملكة العربية السعودية قد أسهمت إسهاما فاعلا في الدفع بهذا التحول في مصر، فإن ما حدث في الدول العربية الأخرى جاء بتأثير قوى خارجية وداخلية آلت بالوضع فيها الى مثل ما آلت اليه في مصر، ولم تكن المملكة بعيدة كذلك عن كل هذا.

بالتدريج وبالمثابرة تم تفكيك نواتج العملية الثورية التي تمت خلال مرحلة جمال عبد الناصر في مصر أو بتأثير تلك المرحلة في غير مصر:

** سياسية خارجية تابعة للولايات المتحدة ومنفذة لأغراضها، تجسدت في اتفاقات التسوية مع الكيان الصهيوني، كما تجسدت في المعارك التي دخلتها وأدراتها هذه النظم نيابة عن واشنطن وبتوجيه منها سواء في إفريقا، أو في أفغانستان، أو في أمريكا اللاتينية.

** خصخصة فاجرة تمت تحت شعارات كاذبة، استهدف توليد طبقة من الرأسمالية الطفيلية التي هي بالطبيعة فاسدة وعاجزة ومرتبطة مع الخارج، وفي الوقت نفسه متحالفة مع السلطة وتستخدم أدواتها في التمكين لنفسها ومنطقها.

** إعادة صياغة عقل المجتمع على أسس جديدة غير تلك التي صيغ عليها في المرحلة السابقة، إذ لم يعد هناك معنى دقيق لمفاهيم الوطنية أو القومية، أو العدل الاجتماعي، أوقيم العمل الأخلاقية، أو الأمن القومي، أو الالتزام الذي تفرضة الجغرافيا السياسية" عبقرية المكان".

صار كل شيء يبنى من خلال مفهوم السوق، والربح والخسارة، بالمنطوق الفردي، وليس بمنطوق الأمة، ما تربحه الأمة وما تخسره الأمة، وتم تطبيق هذه المفاهيم في برامج ومناهج التربية كلها دون أن يستثنى شيء، بما في ذلك مناهج التربية الدينية، ومناهج التربية الوطنية التي كانت في الماضي ينظر اليها باعتبارها من المقدسات التي لايجوز المساس بها.

ووصل الوضع في مستوى هذه التحولات إلى مرحلة باتت فيها الخيانة الصرفة، أي الاتصال بالعدو وتسهيل دخوله الى الوطن لا تعدو أن تكون وجهة نظر لها مكانتها واحترامها وموقها من الظهور والإشهار بمثل ما للمفاهيم والأفكار الأخرى من مكانة وموقع.

باختصار صارت "الخيانة وجهة نظر"، وصارت صناعة سياحة الفُجر والفساد الأخلاقي تتفوق بدون حدود على كل صناعة وطنية أخرى.

** واحتاج هذا السياق المدمر للحياة الوطنية الى التمكين لرعاته في حياتنا، من هنا احتاج الانقلاب على ما كان فترة طويلة، واحتاج تدرجا كان لازما لولادة الطبقة أو القوة التي تحمي هذا الانقلاب أو التحول، واحتاج الى الاستعانة بقوى شعبية منظمة اضيرت من مرحلة جمال عبد الناصر، وهنا برز الدور الجديد للإخوان المسلمين.

لذلك كان حقيقيا أن يقال إن انقلاب "السادات" عن خط جمال عبد الناصر، أو عن خط الثورة الى الخط الأمريكي هو أطول انقلاب شهدته الحياة السياسية في العصر الحديث إذ استدعى داخل مصر الى سنوات قد تجازت الست حتى أخذ أبعاده.

** كذلك كان ضروريا أن تعمل القوى الجديدة الصاعدة على تفكيك اللحمة الاجتماعية بين أبناء هذه الأمة: تفكيك روح التضامن الاجتماعي والسياسي، روح التكافل الأسري والبيئي، روح التعاون بين الناس الذي كان يؤمن دائما الحراك الشعبي ويساعد على مواجهة أثمانه ونتائجه، واتخذت هذه النظم من مشرق الوطن الى مغربه المنهج نفسه بتوجيه ودعم ورعاية امريكية، ويمكن أن نسجل هنا خمس ركائز المنهج:

1 ـ انهيار لمستوى المعيشة يستدعي من الفرد أولا، ومن أفراد الأسرة الواحدة ثانيا تقديم المزيد من العمل لتأمين احتياجات الحياة اليومية.وبالتالي الابتعاد عن الاهتمام بالشأن العام بعد أن لم يبق وقت له.

2 ـ إرهاب أمني قائم على الاعتقال والملاحقة بلقمة العيش والتشريد ليس فقط لسبب العمل السياسي المباشر، وإنما كذلك عقابا على أي نشاط لأي من أفراد الأسرة أو المقربين، فيعاقب الأب لنشاط ابنه، ويعاقب الأخ لنشاط أخيه... الخ، بما يجعل قدرة الفرد على تحمل نتائج هذا الارهاب ضعيفة، ويدفع به الى الانزواء عن المشاركة العامة.

3 ـ إغراء بالفساد الفردي كوسيلة لمواجهة هذا التضخم والزيادة المضطردة لأعباء الحياة، وإعطاء هذا الفساد مشروعية واقعية، من خلال تغيير مفاهيم التقييم الاحتماعي والقيمة الاجتماعية. ومن خلال ارتفاع شأن أولئك الفاسدين في السلم الاجتماعي والمكانة السياسية والاجتماعية، وتصدرهم الحياة العامة كنماذج للنجاح.

4 ـ فتح باب الهجرة للخارج باعتبار ذلك بابا من أبواب مواجهة تردي مستوى الحياة، بما يعني افراغ المجتمع مع قوى حية فيه ودفع كل فرد من هذه القوى للبحث عن الخلاص الفردي او الشخصي.

5 ـ إنشاء صناعة خاصة ساهمت فيها أطراف عديدة داخلية وخارجية يمكن تسميتها صناعة "تقديس القيادة"، وتنزيهها عن أي خطأ، وتحريم تناولها بأي نقد، وربط كل انواع التقدم والاستقرار المزعوم في المجتمع بها، واعتبار وجودها شرط لاغنى عنه لاستقرار المجتمع ولاستمرار قدرته ومكانته الاقليمية والدولية، وبالتالي ربط كل أنواع الحراك الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بشخصه.

الربيع العربي أنهى تصحر الحياة السياسية

إن الفساد والإرهاب والنزوع الى الحلول الفردية والهجرة وشخصنة القيادة وتقديسها، عملت جميعها على تصحر الحياة السياسية في كل بلد عربي. أي عملت على إضعاف القوى السياسية التي كانت تمور بها الحياة العربية، فضعفت الأحزاب وتراجعت العضوية فيها، وانعزلت بفعل انقطاع تواصل الأجيال في عضويتها، وتراجع الإبداع في مختلف جوانب الحياة العلمية والأدبية، وانهار التعليم، واكتسح الفساد القضاء، والجيش، والصحافة، وبات وضع المجتمع في حالة مزرية.

وفي إطار هذا التوجه العام الذي طغى على الحياة النظام العربي الرسمي، كان لابد من تصفية بقايا مرحلة النهوض العربي، وقد جرى ذلك دون نظر الى الخسائر، ولا الى بحور الدم التي كانت تتدفق في هذا المسار

تم تصفية المقاومة الفلسطينية وجودا وفكرا، بعد أن حوصرت في لبنان، وساهمت القيادة الفلسطينية ممثلة بأبي عمار" القيادة المشخصنة" في تحقيق هذا الهدف مدفوعا ـ على ما يبدو ـ بوهم تحقيق كيان فلسطيني من خلال مسيرة التسوية، وتم تدمير قوة العراق على ثلاث مراحل، بدأت باستجراره الى الحرب مع ايران، ثم باستجراره لاحتلال الكويت، ثم بالحصار والغزو، ودفع النظام العربي بقيادة المملكة العربية السعودية وبتوجيه من واشنطن الكثير لتحقيق هذا الهدف، وجاء التلاعب بالروح الدينية المتجذرة في هذه الأمة تحت دعاوى محاربة الشيوعية في افغانستان في هذا السياق، وبإشراف مباشر من واشنطن ومن المخابرات المركزية الأمريكية، واتحدت في هذا السبيل قوى التيار الوهابي مع قوى الاخوان المسلمين في رفع راية الجهاد والحشد وراءه، حتى إذا انتهت هذه المرحلة، بانتهاء الحرب الباردة، انفلت عقال هذا الحشد الشبابي المجاهد في افغانستان، ولم تعد القوى التي عقدت له لواء الجهاد بقادرة على ضبطه، أدخلت واشنطن المنطقة والعالم مرحلة الصراع مع الاسلام السياسي والجهادي، وأريقت الكثير من الدماء داخل المجتمعات العربية بدوافع وأغراض متشابكة في سوريا ومصر والجزائر والمملكة العربية السعودية ذاتها، وفي كل هذه كان الثمن الدم العربي، وكانت النتائج مزيد من الارتباط والخنوع للسياسة الغربية، وحينما وقعت هجمات سبتمبر عام 2001 صارت الحرب على الإرهاب وعلى "القاعدة" عنوانا جديدا تتجمع حوله القوى الدولية والإقليمية والعربية، والجميع يضبط ايقاعه وفق المايسترو الجالس في واشنطن.

القرن الـ 21 والواقع المر للأمة العربية

لقد دخلت امتنا القرن الواحد والعشرين وهي على هذه الحال، استباحة لا حدود لها لحرماتها وثرواتها وقيمها وحقوقها، وتخريب لا حدود له لكل عوامل بناء مستقبلها، وإضاعة لثرواتها وعوامل القوة فيها، لايقوم بها الا سفيه يستأهل الحجر عليه، وتدمير للحياة السياسية والاجتماعية لا يبقى متنفس لأحد، لقد صار هذا حال كل القادة العرب، ويصدق فيهم القول إن أكثر الناس فسادا وإفسادا هم هؤلاء القادة، وكلما ابتعدت عن دائرتهم تراجعت نسب الفساد وأشكاله.

ولعل المكانة التي أخذتها المقاومة الفلسطينية مجسدة بالانتفاضات الشعبية، وبمنظمات الجهاد المختلفة، في ضمير الأمة، والمكانة التي اخذها حزب الله بمقاومة الاحتلال والانتصار على العدو الصهيوني في تحرير الجنوب وفي صد عدوان تموز 2006، كانت في جزء منها رد فعل على حالة الانهيار العامة في الحياة العربية الرسمية، وعلى إضاعة هذا النظام العربي لكرامة الأمة في كل صورها، وإشعار بمكانة فكرة المقاومة وروحها لدى جموع الأمة.

وكان طبيعيا في إطار هذا الوضع أن تتراكم عوامل الانفجار، وأن يغطي هذا التراكم كل مكونات المجتمع الأساسية بغض النظر عن توجهها السياسي وقناعاتها الفكرية ورؤيتها للمستقبل، لقد سدت هذه النظم كل أفق مستقبلي، لذلك كان التصدي لها أمرا لا بد منه.

الربيع العربي أبعد ما كانت تتخيله الأنظمة

إن سنن الله في خلقه، وطبائع الأشياء التي بنى الله عليها هذا الكون لا تسمح باستمرار هذا الوضع، تماما كما أنها لم تكن تسمح باستمرار النظام الشيوعي على ما كان عليه رغم جبروت ذلك النظام وقوته الظاهرة، وامتلاكه لأسلحة قادرة على تدمير العالم بدون حدود.

والذي يدرك هذه السنن، ويعي طبائع الأشياء، ولا تعمي مظاهر القوة والجبروت بصره، ولا يعطل بصيرته طغيان أجهزة العنف التي تحيط بكل نظام من هذه الأنظمة، وأحزمة الحماية التي يوفرها النظام الغربي لهم، لم يكن يشك للحظة بأن الثورة قادمة، لكن السؤال كان دائما يتصل بالتوقيت والظرف؟.

متى تأتي هذه الثورة؟، وكيف؟، وممن؟ والاعتقاد أن هذه النظم عطلت فاعلية المعارضة المعروفة، وجففت منابعها الاجتماعية.

ليس صحيحا أن الدول الغربية بكل ما تملك كانت تعلم أو تتوقع، أو تضع في حسبانها بزوغ فجر الربيع العربي.

هذا كذب ومحاولة لتشويه هذا الحدث الشعبي الذي فاق كل التصورات، وهو كذب لا يقاربه إلا القول بأن القوى الغربية بقدراتها الاستخبارية والبحثية كانت تتوقع أن تنهار الكتلة الشرقية، أو أن تزول مرحلة الانقسام القطبي خلال فترة قصيرة جدا، وقبل ان يدخل العالم الألفية الجديدة.

إن أي نظرة أو قراءة أو فهم للربيع العربي يجب أن ينطلق من هذه الحقيقة، ثم من بعد ذلك يتم البحث ومحاولة فهم ما حدث.

الكرامة هي الصاعق الذي فجر ثورات الربيع العربي والديمقراطية معيار نجاحها

في الحلقة الأولى عرضنا فيها مسار النظام العربي منذ أن سلم زمام أمره لواشنطن، وقوى الغرب بتلويناتها المختلفة، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وبعد ذلك، وكان هدفنا الاستدلال من الرصد والتحليل الى أن ثورات الربيع العربي جاءت نتيجة طبيعية لمآل هذا النظام على المستويات كلها، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعلى مستوى الكرامة الفردية والوطنية، ولتوكيد أن الاستبداد والتبعية والفساد كان لابد له مجتمعا أن يفجر الوضع الداخلي، وأن جميع القوى الداخلية والخارجية، كانت تدرك حجم ما يعتمل هذه المجتمعات من عوامل الثورة، لكن قوى البغي كانت ما تزال تثق بقدرة أجهزة العنف والفساد على ضبط الوضع، فيما كانت قوى التغيير تستبشر باقتراب لحظة الانفجار، وكان هذا واضحا في مصر واليمن وسوريا على وجه الخصوص.

، لكن السؤال الذي لم يستطع أحد أن يتنبأ بجوابه هو متى تنفجر الثورة؟، وأين تكون البداية؟، وما هو صاعق تفجيرها؟.

وكانت الكرامة هي صاعق التفجير، وكانت تونس أرض البداية، ثم بدأ الوطن العربي يشهد تسونامي الربيع العربي.

وهنا أحب أن أضع أسئلة موقع (البديل نت) على دفعات ثم اتطرق للإجابة عنها والأسئلة هي:

**كيف نقيم ثورات الربيع العربي، مع ما رافق بعضها من احتواء من قبل القوى الخارجية والرجعية من الداخل؟.

** هل صحيح أننا أمام خيار مؤلم بين حرية المواطن وبين سقوط الأوطان بأحضان الدول الخارجية؟

**ما هو مستقبل العلاقة بين دول الربيع العربي والولايات المتحدة وإسرائيل؟

الأسئلة الثلاثة مطروحة في حياتنا الثقافية والسياسية في هذه المرحلة، مرحلة قلق الانتقال من حال إلى حال، وتكاليف هذا الانتقال، والإجابة على هذه الأسئلة شديدة الأهمية لأن من شأنها أن تكشف لنا مسار هذا الربيع بعد أن تحدد لنا المعنى الصحيح له.

ماذا نقصد بالربيع العربي؟

الإجابة السهلة أن نقول إن الربيع العربي وصف للثورات التي شهدناها أو ما زلنا نشهدها في تونس ومصر واليمن وسوريا، وتمتد رؤية هذه الثورات أو حركات التغيير الى السعودية والبحرين والمغرب وحتى الأردن وسلطنة عمان ودول أخرى.

وقد أمكن لبعض هذه الثورات أن تنجز على نحو ما الهدف الذي انطلقت من أجله، ومثالنا هنا تونس، وبعضها يكاد يكون أجهض كما في ليبيا، وبعضها حدث عليها تحول أبطأ من حركتها وقد يكون عطلها لبعض الوقت، كما في السعودية والبحرين، وبعضها ما زال يدفع ثمنا غاليا من الدم الزكي في مواجهة نظام قاتل مع اصرار عجيب على الانتصار كما في سوريا.

مقابل هذه الاجابة اليسيرة فإن جهدا لابد أن يبذل لتحديد المعنى الثوري لمفهوم الربيع العربي.

هل التخلص من هذا النظام أو رأسه في هذا البلد أو ذاك، أو وصول هذه القوة أو تلك هو التعبير عن انتصار هذا الربيع؟

ولعل المنتمين للاتجاه الثوري العربي ولمرحلة الثورة العربية يميلون الى الربط بين انتصار الربيع العربي في أي اقليم عربي وتمكن القوى الثورية من استلام زمام الأمور فيه.

وحين نوسع دائرة النظر نصبح أمام تساؤل واحد يعم الجميع، تساؤل يربط بين استلام حزب ما او اتجاه ما السلطة ، وبين الحكم بانتصار الربيع العربي.

وكمثال عملي فإن أكثر ثورات الربيع العربي اكتمالا حتى الآن هي الثورة التونسية، فهل وصول الإسلاميين الى السلطة هو التعبير عن هذا الانتصار، أم أن وصولهم الى السلطة هو تعبير عن فشل الربيع العربي في هذا البلد؟.

مقابل هذه الأسئلة لابد من معيار للحكم على الربيع العربي، فما هو معيار الحكم على نجاح هذا الربيع؟.

معيار الديمقراطية

في ظني أن هناك معيارا رئيسا لا يجوز الاختلاف حوله، معيارا يصح اعتماده من جميع القوى التي ساهمت في صنع هذا الربيع، كما يصح اعتماده في الحكم على هذه القوى ايضا. هذا المعيار هو : الديمقراطية.

أي عودة الأمر في كل مجتمع من مجتمعات الربيع العربي تقديرا وتقريرا الى الناس، والى القوى السياسية وبرامجها التي يقبلها الناس، في إطار من الحرية لا يحتمل التزوير الواضح أو المستور، وصيانة هذه الديموقراطية بعقد اجتماعي جديد " دستور" يكون حاكما لهذه المسألة وحاميا لها.

الديموقراطية هي معيار من أهم معايير نجاح الربيع العربي، بل لعلها تكون المعيار الجامع لكل القوى التي تحركت لأجل هذا الربيع، وهي التعبير عن هذا الربيع.

والديموقراطية التي نتحدث عنها هي الديموقراطية الحقيقية التي يكون الشعب كله وعاءها، دون تقسيم أو تمييز أو اجتزاء، وحتى يكون هناك إمكانية لوجود مثل هذه الديموقراطية فلا بد من عدد من الاجراءات والخطوات والانجازات التي تمكن المجتمع من تحقيق هذه الديموقراطية وحمايتها.

** أولى هذه الاجراءات عزل رموز الفساد والاستبداد عن الحياة السياسية الجديدة، عزلا يسمح بزوال أو تضاؤل تأثيرهم في المجتمع.

** ملاحقة رموز الفساد والاستبداد قضائيا، وبشكل حاسم ينتج عنه اعادة حقوق الأمة وثرواتها المنهوبة، والتعويض عمن أضير من ممارسات هذه النظم القهرية.

** إعادة تحديد وبناء عقيدة وطنية صحيحة لأجهزة الأمن تجعل هذه الأجهزة خادمة للناس، وعاملة على حماية الحياة العامة، وإخضاع هذه الأجهزة لأدوات الرقابة والتتبع التشريعية والقضائية .

** إعادة صياغة عقيدة صحيحة للقوات المسلحة يتحدد من خلالها مهمة هذا الجيش باعتباره جيشا وطنيا من حيث التكوين، والوظيفة، والسلوك، وليس جيشا حاميا للسلطة أي سلطة، جيشا للشعب والأمة، ومسؤولا أمامها.

** اطلاق حرية الصحافة والإعلام بما يسمح بوصل المعلومات الصحيحة والضرورية لعامة الناس، واعتبار حرية الوصول الى المعلومة جزءا أساسيا من مفهوم الديموقراطية، ولوازم ممارستها.

** إعادة النظر في بنية القضاء، وذلك لتخليصه مما شابه من الفساد خلال المرحلة الماضية، باعتبار فساد الفضاء هو الصورة الأوضح لفساد العدالة.

** تشريع حرية العمل السياسي وتكوين الأحزاب وكذلك تكوين مؤسسات المجتمع المدني، ومساعدتها على القيام بدورها باعتبارها وسائل تقديم خدمات للمجتمع مما يفرض تقديم الدعم المادي لها.

هذه هي الديموقراطية التي تصح أن تكون معيارا لنجاح الربيع العربي في هذا البلد أو ذاك، وفي إطار هذه الديموقراطية تختبر القوى السياسية أفكارها وبرامجها وقياداتها وأساليبها، فتنجح عن طريق صناديق الاقتراع أو تفشل.

في الحلقة الأولى التي عرضنا خلالها مسار الثورة المضادة في حياتنا العربية منذ نجاحها بإيقاع الهزيمة بثورتنا مطلع السبعينات، قدمنا عرضنا ورؤيتنا، ونحن نعتقد أن ما قدمناه يعبر عن الحقيقة ويلتزمها، لكن يجب أن نعترف أن كل ذلك كان من قبيل التحليل ومن قبيل الفرض، وتصدق حركة الناس وخياراتهم هذا التحليل والفرض أو تخطئه:

هل سيختار الناس بإرادتهم الحرة الالتحاق بركب الولايات المتحدة وسياساتها، الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية؟.

هل سيختار الناس الذهاب الى التصالح مع العدو الصهيوني، وإدارة الظهر لفلسطين والأراضي العربية المحتلة؟.

هل سيختار الناس سياسات تنتج العشوائيات، وسكان المقابر، والفقر المدقع، والغنى الفاحش، والسرقات التي لا حدود لها ولا ضابط؟.

هل سيختار الناس نظما أخلاقية واجتماعية تضع دينها وراء الظهور، وتعلي قيم الفساد الأخلاقي والاجتماعي؟.

هل سيختار الناس الانغلاق الإقليمي، والتراجع عن مفهوم الأمة العربية، والرضا بإعادة بناء المنطقة على أساس عرقي وطائفي، فتجزء كل اقليم وتعيد تركيبه اعتمادا على هذه الأسس؟.

الإجابة على هذه الأسئلة بيد الناس، بيد جمهور الأمة.

ومن هنا فإن استمرار الناس في حراسة الثورة، واستمرارهم في الحركة والتصدي لكل المعوقات، واستمرارهم في التماسك والحفاظ على روح الجماعة، يعتبر من أهم العوامل في تحقيق شروط نجاح الديموقراطية، إن قوى النظام القديم، والقوى الجديدة التي حققت تقدما في إطار العملية الديموقراطية ترغب في أن يوقف الناس تحركهم، ولك من القوتين دوافعها، فقوى النظام القديم تريد بخروج الناس من دائرة الحركة والفعل العمل على استعادة دورها أو بعض دورها، والقوى الجديدة التي حققت مكاسب تريد أن تحتفظ بمكاسبها وتفرض نفسها بديلا عن حركة الشارع، وفي كلا القوتين خطر على الثورة واستهدافاتها، لذلك فإن الناس هم الحراس الحقيقيون للربيع العربي، وهم الأمناء الصادقون عليه، ويجب أن يبقوا على حالهم من التنبه والاستعداد للتحرك، حتى تتضح الرؤية وتستقر الديموقراطية، وتستكمل أطر العمل السياسي, ويزول خطر القوى المضادة.

نحن فرضنا أن خيار الناس هو العدل والتقدم والكرامة والالتزام الوطني والقومي، والالتزام الديني والأخلاقي، واعتبرنا أن خيار الناس هو الالتزام تجاه قضية فلسطين وتحرير الأمة واعادة اطلاقها من خلال مشروع نهوض قومي تنهض معه وبه المنطقة كلها.

وحينما يستشعر أحد منا أن الناس اختاروا غير ما فرضنا فعليه أن يسأل نفسه أين الخلل؟.

** هل الخلل فيما اعتقدناه وافترضناه؟ أم فيما طرحناه من برامج للوصول الى هذه الأهداف؟

** أم فيما مارسناه وكشفنا من خلاله عن نماذج وأمثولات جاءت مخيبة للآمال الناس؟.

** أم أن خيارات الناس التي لم تتلاءم معنا جاءت نتيجة ظرف طارئ أحاط بالأمة وكان من القسوة والشدة ما طاشت معه العقول وضيع على الناس طريق الصواب؟.

والناس في كل ما ذهبنا اليه هم الأغلبية المكونة لهذه الأمة، وهي أغلبية متوضعة في صفوف العمال الفلاحين والمثقفين، والطبقة الوسطى، التي تتكون منها في الغالب أجهزة الدولة ومؤسساتها التعليمية والادارية والعسكرية، والرأسمالية المنتجة البناءة، أي أن الناس هنا هم المكون الرئيس لقوى العمل والانتاج والابداع في المجتمع،

إن القوى السياسية الحية هي التي تستطيع الوصول الى إجابة حقيقية على هذه التساؤلات، وهي التي تملك الجرأة والقدرة على إجراء التغييرات اللازمة في بنيتها بما يتلاءم وتلك الاجابة.

الأن نأتي الى أمثلة الربيع العربي، ويكفي أن نقف منها في هذه الحلقة على مثال واحد، وهو هنا المثال التونسي :

وتونس أكثر نماذج الربيع العربي اكتمالا، تسلمت فيها حركة النهضة "وهي حركة تنتمي الى الإسلام السياسي" الحكم بعد أن حصلت في انتخابات حرة على أغلبية برلمانية، وبفكر سياسي مفتوح رأت أن حجم التحدي يفرض أن لا تنفرد لوحدها بممارسة السلطة فتحالفت مع قوميين واتجاهات أخرى، وبدأت مسيرة الحكم.

فكيف نحكم على هذا النموذج؟.

لاشك أن لك قوة سياسية ولكل باحث وناظر حكم محدد على مجريات الوضع في تونس، منهم المنتقد الذي يرى في هذا الحكم شكلا جديدا من اشكال الارتباط بالغرب، ومظهرا جديدا من مظاهر الارتهان لقوى متخلفة، مستدلا على ذلك بمواقف تثير الشكوك صدرت عن زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوسي، ومستدلا كذلك بمظاهر من انتقاص الحريات، ومن غياب الوضوح في التزام النظام باحتياجات قوى الشعب، وبتعبير آخر غياب البعد الاجتماعي والطبقي عن برامج النظام الجديد والقوى التي يمثلها، لكن آخرين يرون أن تونس بدأت مع حكم حركة النهضة مرحلة جديدة في حياتها تصالحت فيها مع ذاتها وتاريخها وعقيدتها وتطلعها الى المستقبل، وأنها بدأت تدريجيا عملية التحول الاجتماعي التي تتطلع اليها قوى الربيع التونسي.

ونحن من واقع التزامنا نستطيع أن نسجل الكثير من المآخذ على النظام التونسي الجديد من مختلف الزوايا، ونستطيع أن نعرض ما خلصنا اليه من خلال تتبعنا لحركة وتصريحات الغنوشي، ومن خلال حالة الغليان الاجتماعي التي ما زالت تطبع الشارع التونسي، ومن خلال المواقف غير الواضحة لهذا النظام من قضايا قومية عديدة منها الموقف من الغرب، ومن الالتزام القومي وقضايا هذا الالتزام، لكن هذا التقييم لا صلة له بالحكم على ربيع تونس، من خلال المعيار الذي التزمناه وهو هنا النظر فيما بنى من أسس لحياة ديموقراطية، وفيما تحقق من عودة مشروعية السلطة الى الناس.

هذا هو معيار نجاح الربيع التونسي أو إنزوائه، ومن هذه الزاوية فإن تونس أكثر بلد عربي أزهر فيها الربيع حتى الآن.

هذا هو معيارنا الذي ارتضيناه، وما عدا هذا المعيار يندرج تحت سقف اختلاف برامج القوى السياسية، والصراع الاجتماع والسياسي بين أطرافها تحت سقف هذه الديموقراطية وبالاحتكام الى قواعدها.

وبالاستناد الى هذا المعيار لا يعود هناك مكان للحديث عن طبيعة علاقة بلدان الربيع العربي بالولايات المتحدة أو بالكيان الصهيوني، ذلك أن أكثر جهات العالم تخوفا وضررا من هذا الربيع هو هذا الكيان، إلا إذا هناك من يعتقد أن الرئيس الهارب زين العابدين بن علي وحكمه، كان يمثل هماً ومشكلة لهذا الكيان حتى يأتي استبداله بنظم الربيع العربي محققا للأغراض صهيونية، أو أن هناك من يعتقد أن الكنز الاسرائيلي الثمين الممثل بحسني مبارك وحكمه كان يمثل هماً ومشكلة للحركة الصهيونية ونظامها حتى يكون النظام الجديد في مصر محققا لطموح وتطلع قادة هذا الكيان!.

إن قادة الكيان والحركة الصهيونية هم أول وأكثر الأطراف إدراكا لخطورة أن تتسلم الأمة زمام أمرها، وقيادة مركبها، وتوجيه ثرواتها وتطبيق خياراتها، أي أن ترسخ الأمة الديموقراطية في بنيتها السياسية والاجتماعية، ولعل وعي العقل السياسي الغربي الحاكم لهذه القضية يستند ويستمد أسسه من العقل الصهيوني نفسه، أو لنقل إن كليهما يستند الى الأسس والقيم نفسها في إدراك وتقييم المتغيرات في منطقتنا.

يجب أن نكون على يقين بأن الديموقراطية في مجتمعاتنا أشد خطرا على اعداء الأمة من أي شيء آخر، لأنها عنوان التزام السلطان بخيارات الأمة واهدافها.

ونستطيع أن نختم هذه الحلقة بتأكيد أن الحديث عن خيار مؤلم بين حرية المواطن وبين سقوط الأوطان بأحضان الدول الخارجية، والتساؤل عن العلاقة بين دول الربيع العربي والولايات المتحدة يندرج كله في ركب الخدع التي تريد قوى الاستبداد أن تروجها للحفاظ على وجودها، وللفت في عضد قوى الثورة،

وفي الحديث عن التدخل الخارجي في مسارات الربيع العربي زوايا عديدة وشجون نتناولها إن شاء الله في الحلقة الثالثة

واشنطن والرياض تمنعان تصفية النظام القديم في اليمن

في الحلقتين الأولى والثانية استعرضنا طبيعة الوضع العربي في ظل هزيمة الثورة، وقلنا إن ثورة الشارع العربي كانت أمراً منتظراً، لكن كل ما ينتمي الى ظروف انفجار الثورة عصي على إدراك الجميع: القوى السياسية داخل كل بلد عربي حاكمة كانت أم معارضة، والقوى الخارجية ومؤسساتها السياسية والأمنية والبحثية.

وثبتا رؤيتنا لمعنى الربيع العربي، وقلنا إن الربيع الحقيقي تجسد في عودة الناس للإمساك بزمام أمورها، وأمور حاضرها ومستقبلها، وذلك من خلال عودتها الى السياسية، وتمسكها بالطريق الديمقراطي لتحقيق أهدافها،

وفي هذه الحلقة الثالثة نخصص حديثنا عن علاقة الخارج بالربيع العربي، التدخل، ومحاولات اختطاف الحراك الثوري وحرفه عن مساره، ومآل هذا الوضع.

المفاجأة والاستدراك

لاشك أن انطلاق حركة الربيع العربي كان مفاجئا للجميع، ولا أدل على ذلك من أن وزيرة الداخلية الفرنسية آنذاك "ميشال اليو ماري" بدأت تبحث مع نظيرها في تونس ما يحتاجه، وما يمكن أن تقدمه فرنسا لقمع هذا الحراك الثوري، ولم تُجد هذه المحادثات شيئا لأن الحسم في الحالة التونسية كان سريعا، لكن انكشاف هذا التحرك الفرنسي كان فاضحا وحاسما في تحديد موقع الخارج مما بدأ يحدث في الوضع العربي، وتكرر الأمر نفسه في مواجهة الحراك الشعبي في مصر حين بدت الدبلوماسية الأمريكية في حالة من التخبط لا تدري ما تفعل، وتدافع وجوه الكونغرس الى القاهرة للتعرف على ما يجري وللقاء جموع الثائرين علهم يستطيعون أن يتعرفوا على ما هو قادم في الحياة السياسية المصرية، وبدت تل ابيب في حالة من الفزع خصوصا وأنها لا تدري السبيل لحماية "كنزها الثمين"، والحفاظ على وجوده.

لكن ككل عمل رشيد إذا فاته أمر يعمل على استدراكه ومحاولة السيطرة على ما يليه، من هنا بدأت محاولات العواصم الغربية للتدخل والسيطرة على مجريات الربيع العربي،

وشهدت مختلف بلدان الربيع العربي مظاهر مختلفة من هذا التدخل:

** منه ما جاء على شكل نصائح ملزمة لمواجهة رياح هذا الربيع، بالاصلاحات، والوعود، وبمحاولة الرشوة المادية، وقد رأينا هذا في مختلف الممالك العربية، وكان بعض هذه الممالك ذكيا وفاعلا فيما قام به وحققه، ونشير هنا الى سلطنة عمان والمغرب، وتحرك بعضها بعقلية العشيرة وعقلية المناورة لإطفاء الحرائق وأبلغ مثال على ذلك المملكة العربية السعودية، وقدمت الطريقة التي اتبعتها قيادة البحرين لمواجهة الحراك الشعبي هناك مثالا ثالثا للمزاوجة بين استنهاض الطائفية والقمع باستخدام القوى المتوفرة داخليا وبالاستعانة بالقوات السعودية.

** ومنها ماجاء على شكل محاولة اعادة انتاج النظام نفسه لكن في اطر واشكال جديدة، فحين تستطيع الحركة الشعبية أن تتخلص من رأس النظام ومن حوله لا يعود مفيدا النظر الى الوراء، وإنما يصبح المطلوب استيعاب ما هو آت، إذ ليس حسني مبارك، أو علي عبد الله صالح، أو زين العابدين بن علي هو مبتغى الغرب وأنظمته، وإنما ما التزم به هؤلاء من رؤى ومصالح تحقق للنظام الغربي ما يريد، وحين يمضي هؤلاء فإن السعي يكون لتأمين استمرار هذه الرؤى والمصالح، والتزام القوى القادمة بها.

إن ما حدث ويحدث في مصر واليمن هو من هذا القبيل، تدخل للقوى الغربية في الشأن الداخلي، في محاولة لتعطيل حركة التغيير، وفي اجهاض فاعلية الديموقراطية وتحويلها الى مجرد شكل.

إن مشهد ترشيح الفريق أحمد شفيق في انتخابات الرئاسة المصرية، ومنافسته عليها في جولة الاعادة هو شكل من اشكال اعادة انتاج النظام القديم من حيث: القوى الاجتماعية، والسياسات الداخلية، والالتزامات الخارجية.

وما آل اليه الوضع في اليمن من عرقلة للتحول عن نظام علي عبد الله صالح، هو من هذا القبيل، لكن برعاية مباشرة من المملكة العربية السعودية، وبارتباط مباشر مع الولايات المتحدة بدعوى محاربة القاعدة، إن واشنطن والرياض تمنعان تصفية النظام القديم في اليمن، وتعملان وبدعم مباشر من قوى يمنية على إعادة توليد النظام السابق، بشكل أقل غلظة واستفزازا، وبوجوه أكثر قبولا ونعومة.

وإذ يسجل لقوى الحراك الثوري في هذا البلد و"للحكمة اليمانية" قدرتها المبدعة في الحفاظ على سلمية الثورة رغم توفر السلاح في يد كل يمني، وقدرتها على تحييد أو تعطيل القوى العسكرية الداعمة للرئيس المخلوع من خلال ما دعي بتوازن الرعب الناجم عن انشقاق الجيش، فإن المستهدف الآن تعطيل الحراك الشعبي، وتحييده، لكي تتمكن القوى القديمة الجديدة من الحفاظ على الوظيفة ذاتها التي كانت لنظام صالح.

** ومنها ما جاء بالتدخل العسكري المباشر والمثال البارز على ذلك متجسد في ليبيا، وهو تدخل تحقق تحت غطاء شكلي عربي، ومثال ليبيا هنا يستحق وقفة مدققة لأنه يقدم نموذجا تستحق الدراسة:

1ـ نظام مستبد متأله، فاسد، وصل في عتوه وجبروته مالا يمكن احتماله.

2ـ وقوى شعبية تحركت فيها رياح الربيع العربي تريد الخلاص من هذا النظام.

3ـ وبلد يختزن ثروة نفطية هائلة، قريبة، وعالية الجودة.

4ـ وايضا بلد يملك موقعا استراتيجيا على البحر المتوسط لا نظير له.

5ـ ونظام عربي وغربي لا يمانع في التخلص من هذا النظام الذي أتعبه من كثرة تقلبه، وتألهه، وتصرفاته التي يصعب التنبؤ بها.

إن دموية النظام الليبي في مواجهة التحرك الشعبي، وصلافته في التعامل مع الأحداث، وقلة صبر الثوار وخشيتهم من الفظائع التي يمكن أن يرتكبها النظام خلال استمرار هذه المواجهة، والإغواء العربي والغربي في تقديم المساعدة العسكرية بدعوى حماية المدنيين، كل هذا فتح ثغرة في الحراك الشعبي الليبي سمح بتدخل حلف الناتو تحت سقف شرعية دولية مزعومة.

وحينما بدأ الناتو عمله في ليبيا، كانت الثورة الشعبية قد تلوثت، ثم خطفت، وصار الصوت الأعلى لأولئك الذين جاءت بهم حجافل الناتو من قيادات ووجوه عاشت خارج ليبيا، وكانت تهيئ لهذه اللحظة، ثم ظهرت بعد ذلك تلك القيادات الميدانية التي تعاملت مع التدخل الخارجي من زاوية الشرعنة الدينية التي وفرتها فتاوى صدرت عن مراجع تعتمدها هذه القوى.

لقد أجهض التدخل العسكري للناتو عملية ولادة الربيع العربي في ليبيا، وأصبحنا أمام بلد يخضع بالكامل لإرادة دول الناتو، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا، وايطاليا.

وإذا كان الثوار قد تخوفوا بداية المواجهة مع نظام القذافي من ارتفاع عدد الضحايا والدمار فيما لو بقي الصراع بين الطرفين في اطاره الداخلي الصرف، فإن تدخل الناتو لم يؤد الى تقليل الخسائر وإنما أسفر عن ارتفاع شديد من عدد الضحايا وفي حجم الدمار، إذ قدرت بعض المصادر عدد القتلى الناجم عن تدخل الناتو ما بين خمسين ومئة الف، وذكرت الغارديان البريطانية على صفحتها الألكترونية في عددها في السادس عشر من مايو 2012 أن عدد الضحايا المدنيين نتيجة العمليات العسكرية للناتو بعد تدخله في مارس 2011 تجاوز ثلاثين الف قتيل في حين كان عدد قتلى الصراع بين نظام القذافي والثورة الشعبية قبل تدخل الناتو ما بين الف والفي قتيل.

كذلك فإن تدخل الناتو وضع ليبيا على بداية طريق التقسيم، بدواعي الجهوية، والعرقية، وهذا بالتحديد مخطط واشنطن في المنطقة، تفكيك الدول وإعادة بنائها على قواعد تقسيم جديدة عرقية وطائفية وجهوية .. الخ، وربط هذه التقسيمات الجديدة بمصالح مباشرة معها. والنتيجة: استمرار السيطرة على هذا البلد، وتعطيل امكانية التغيير الحقيقي فيه.

إن الحديث عن التدخل الخارجي وأشكاله، ابتداء من العمل على إعادة انتاج النظام السابق نفسه، وصولا الى خطف الثورة أو العمل على اغتيالها، يجب أن لا يخفي عن أنظارنا عددا من الحقائق:

1ـ الحقيقة الأولى: أن الدول الغربية، ومؤسساتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية، ليست هيئات نفع عام، وليست جمعيات خيرية، وهي لا تتحرك بدواعي انسانية وانتصارا لقيم عامة تواطأت عليها البشرية، وإنما هي أدوات لتحقيق سيطرة هذه الدول، وفي أي تحرك لها فأول ما يهمها حسابات الربح والخسارة، وتحاول أن تجعل نسب المخاطرة في تحركها محدودة، لأنها في النهاية مسؤولة أمام الناخب المحلي، وأمام أصحاب المصالح والشركات التي تمثلها، وستدفع ثمن أي خطأ قد ترتكبه.

2ـ الحقيقة الثانية: أن أحدا لا يستطيع أن يمنع الخارج من التدخل في الوضع الداخلي، وإنما نستطيع أن نحد من هذا التدخل ونضيق حيزه، ويقع على عاتق قوى المجتمع الواحد أن تحقق ذلك، وتقع المسؤولية الأولى والأهم في توليد الظروف والبيئة التي تسمح بتدخل أو انزواء الخارج على عاتق السلطات القائمة لأنها هي صاحبة الفعل الأقوى، وهي التي تملك زمام الأمور، وهي التي تسيطر على مؤسسات الدولة وتوجهها، وهي التي تملك ما يدعى بالشرعية القانونية، إن ما نقوله هنا لا يعفي القوى الأخرى في المجتمع، قوى المعارضة وما يحيط بها من مؤسسات المجتمع المدني من المسؤولية، لكن لابد من تأكيد أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق قوى السلطة.

إن دموية نظام القذافي، ورفضه سماع صوت الشارع،وصوت الأصدقاء الناصحين، وتمسكه بممارسة التهديد والقتل لآخر لحظة، واستهتاره بكل الأطراف الخارجية الصديقة وغير الصديقة، هو ما خلق البيئة التي سمحت بالتدخل الأجنبي.

المعارضة تتحمل طرفا مما حدث لاشك في ذلك، لكن نظام القذافي هو الأكثر مسؤولية في هذا الجانب، خصوصا وأن مطالب الحراك الشعبي في بدايته كانت مطالب محدودة، وبسيطة، وكانت الاستجابة لها تفتح أفقا ديموقراطيا في ليبيا، وتجنب هذا البلد ما أصابه، وتجنب القذافي ونظامه هذا المآل، لكن نظام القذافي كان قد وصل الى مرحلة لايسمع فيها ولايرى.

3ـ الحقيقة الثالثة: أن التدخل العسكري قد حول الصراع داخل ليبيا بين قوى المعارضة والنظام الى صراع دولي، يعكس مصالح ورؤى الدول الكبرى، وعند هذه النقطة بالتحديد لا يعود لقوى الداخل تأثير مهم على مجرى الصراع ولا على مستقبله ومستقبل البلد الذي كان ميدانا له، وتتحول القوى الداخلة الى مجرد أدوات بيد تلك الدول التي دفعت بقواتها وأبنائها لحسم الوضع. وفي المثال الليبي فإن الميليشيات المحلية والجهوية، مثلها مثل القيادات السياسية والتي نصبت على رأس مؤسسات النظام الجديد لا تعدو أن تكون منفذه لمصالح تلك الدول ولاستهدافاتها، ولعل الصراعات التي نشهدها بين الأطراف الداخلية تعتبر على نحو ما عن صراعات القوى المشاركة في العمل العسكري إزاء تقاسم الكعكة الليبية.

 لقد ضاعت إرادة الداخل في خضم التدخل العسكري الخارجي، وصار الحديث عن الديموقراطية، والكرامة، والمساواة، والحرية، ووحدة الوطن، حديث لا يجري بلغة ليبيا العربية الأصيلة، ولا تلبية لاحتياجات المواطن الليبي وتطلعه للمستقبل، وإنما يجري بلغة الناتو ووفق مصالح دوله وتطلعاتها.

4ـ الحقيقة الرابعة: أن طلب التدخل العسكري الخارجي دائما طلب شائن، تعفه نفس المواطن، وتتحسب منه قيادات العمل السياسي، وتخشى من آثاره على وجودها ومنطقها ونظرة الناس لها، لذلك هي تسعى حينما تريد ذلك الى تغطية هذا الطلب بكل ما تستطيع من مبررات، وجرائم النظام القائم مبرر قوي، لكنه في حياتنا العربية غير كاف لتحريك الشارع وجعله يتجاوب مع هذا المطلب، لذا يصبح مهما تقديم الغطاء الشرعي الديني لهذا التدخل.

لقد رأينا هذا في كل مرة طلب فيها تدخل عسكري أجنبي لحسم شأن داخلي في بلد عربي أو مسلم.

 شرعنة التدخل الخارجي

إن استحضار أوامر الله جل جلاله، والجهاد، ومفاهيم الكفر و الإيمان، والاستدلال من سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم، يصبح ضروريا لجعل هذه المعركة ذات شأن، وللتغطية على طبيعتها المدمرة، ولخلق روح جهادية قادرة على تحقيق الحشد الشعبي اللازم.

لقد رأينا هذا في معركة أفغانستان، وفي المشاركة مع القوات الأمريكية والمتحالفة في حصار العراق أولا ثم في احتلاله، وفي الفتاوى التي صدرت بشأن شرعية طلب تدخل الناتو، وكذلك الفتوى التي صدرت في شرعية طلب التدخل العسكري الأجنبي في سوريا.

الحقيقة الخامسة: أنه في مثل هذه البيئة من الصراع فإن قوى الاسلام السياسي أو معظمها تبدو جاهزة لتقديم الغطاء الديني الشرعي لطلب التدخل الخارجي والتعامل معه، ولايحتاج الأمر هنا الى تقديم أدلة و شواهد، فالفتاوى ما زالت طرية في شرعنة طلب التدخل العسكري الخارجي، وما نريد الوقوف عليه هنا ليس رصد هذه الفتاوى، وإنما محاولة فهم دوافعها، وآليات التفكير التي تسمح بصدورها، وفي اعتقادنا أن هذا هو الأهم والأخطر.

إننا نعتقد أن بنية العقل الديني لهذه الجماعات هي التي تسمح بصدور مثل هذه الفتوى، وهي التي تسمح بتشريع أو تحريم طلب تدخل الخارج، وهي التي تبرر الاتصال بالقوى الخارجية دعما ومشاروة، أو تحرمه، وهذه البنية لا تتصل بالإسلام، وإنما بالفكر الديني الذي يلتزمه هؤلاء، وبالمنهج الذي يعملون من خلاله.

وللحق فإن هذه البنية لا تنحصر بالإسلام السياسي، وإنما تمتد لتكون صفة ملازمة لكل الأحزاب العقدية دينية كانت أو غير دينية، إن الشيوعيين في أكثر مراحل شيوعيتهم صفاء كانوا هكذا، يمكنهم تبرير الشيء وضده في إطار التزامهم، ورؤيتهم لمصالحهم.

إن القضية هنا تكمن في رؤية هذه الجماعات والأحزاب للحقيقة: الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية.

معظم جماعات الاسلام السياسي تعتبر نفسها موئل الحقيقة، وأداة تجسيدها، فالحقيقة، والموقف الاسلامي الصحيح، يدور معها حيث دارت، إذا رأت أن أمرا ما صحيح فهو الأمر الصحيح، وإذا رأت أن موقفا ما منحرف فهو الموقف المنحرف، هي مقياس الحق والعدل والصواب، وهي التجسيد لروح الاسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، حينما تحكم بقتل رجل لسبب ما فحكمها هو حكم الإسلام، وحينما تقرر أن تمد يدها الى جهة ما فهذه مصلحة الاسلام.

إنهم لم يستطيعوا أن يدركوا الفارق بين الدين والفكر الديني، ولا يستطيعون قبول هذا التفريق، ولم يستطيعوا أن يفقهوا معنى مركزيا في الاسلام وهو أن الحق مستقل بذاته، وأن ما نقوم به هو رؤيتنا لهذا الحق، نصيب في هذه الرؤيا أو نخطئ، وأن هذا كان منهج الرسول صلى الله عليه وسلم.

كل هذه الجماعات تقرأ وتعرف وتكرر دائما ما استقر عليه فقهاء الأمة بشأن العلاقة مع الاسلام فكرا ومنهجا:

  "ما أقوله صحيح تحتمل الخطأ، وما يقوله خصمي خطأ يحتمل الصحة"

إن هذا المبدأ العظيم يفتح الباب للتفاعل، وللنقد، وللتقدم، وللقدرة على بناء حضارة، لكن أحدا من هذه القوى لم يستطع أن يتمثل هذا الموقف، أو أن يلتزم هذا المنهج، أو أن يطبق مستلزماته.

وبسبب هذا الخلل الجوهري فإنك نادرا ما تجدي حزبا إسلاميا، وقف ينتقد تاريخه، أو يراجع ممارساته، إن النظرة الناقدة الفاحصة لتاريخ هذه الأحزاب والجماعات مفقود ـ نستثني من ذلك المراجعات التي أجرتها بعض الجماعات الجهادية ـ، ولعل هذا هو السبب نفسه الذي كان يمنع الشيوعيين عن نقد تاريخهم وفكرهم، وحينما فعلوا ذلك سقطت القدسية التي أعطوها لأنفسهم ولهذا الفكر، وسقطت معها وحدتهم وتماسكهم.

هذه القضية المركزية التي أتينا عليها إنما قصدنا منها أن نفهم أكثر دوافع سلوك هذه القوى فيما نحن نتحدث عنه، أي دوافع سلوك هذه القوى في الربيع العربي، وفهم هذه الدوافع يوفر لنا مقدمة لفهم ما قاموا به، وما يمكن أن يقوموا به مستقبلا.

الإسلام السياسي

الحقيقة السادسة: ان دخول قوى الاسلام السياسي بهذه العقلية الى ساحة الصراع، و بالامكانات المتوفرة لها، وبقوى الدعم الخارجي التي تتحصل عليها، تعمل على حرف اتجاه الصراع، من صراع ضد الاستبداد والفساد والديكتاتورية، والطائفية، الى صراع بين الكفر والايمان.

القضية هنا شديدة الخطورة، فهي بالإضافة الى أنها تزًور دوافع التحرك الشعبي، فإنها تعطي قدسية لعمليات القتل التي تستهدف الخصم، وتفتح المجال لكل اشكال الصراع الطائفي والمذهبي.

الناس لم يثوروا على بن علي أو القذافي أو مبارك أو على عبد الله صالح أو بشار الأسد لأن هؤلاء كفرة، وإنما لأنهم ظلمة فاسدون مستبدون و قتلة، ويشترك مع هؤلاء في هذه الصفات الكثير من النظم والقيادات العربية.

إن إدارة الصراع على أساس الكفر والإيمان خطأ جسيم لا يعبر عن حقيقة الربيع العربي، ولا عن دوافعه، وفي الوقت نفسه يعطي السلطات القائمة دعما مباشرا من جموع المواطنين الذين يختلفون بالدين أو المذهب عن غالبية الأمة، أي أن من شأن إدارة على هذا النحو أن تزيد الصراع عمقا وامتدادا، وأن تعطي الأنظمة القائمة الفاجرة عوامل قوة إضافة، وأن تمهد الطريق لانقسامات داخل جسد الوطن تصعب من امكانية جسرها أو تجاوزها مستقبلا،

إن هذا المنطق الذي تعتمده قوى الاسلام السياسي من أسباب ظاهرة امتناع الأقليات العرقية والدينية والمذهبية عن الانخراط في الحراك الشعبي في سوريا إن لم نقل وقوفها الى جانب نظام بشار الأسد، وهذا المنطق هو واحد من أسباب تراجع تأثير القوى القومية والوطنية بين هذه القوى. وواحد من أسباب إطالة أمد الصراع وارتفاع تكلفته.

كذلك فإن وقوف أغلبية من أقباط مصر وراء أحمد شفيق أسهم مساهمة حقيقة في حصوله على المركز الثاني في جولة الانتخابات الأولى ويعطيه حظوظا كبيرة في جولة الحسم.

وأختم هذه الحلقة بالاعتراف بأن هناك خطرا حقيقيا على الربيع العربي، وإذا كان الربيع الليبي قد تم اختطافه وحرفه، فإن العمل جار على تحقيق الهدف نفسه في غير ليبيا، في سوريا، في مصر، وفي اليمن.

كما أختمها بالتعبير عن تقديري بأن موجبات الربيع العربي تفرض انتصاره، والتضحيات الشعبية، واليقظة التي وسمت التحرك الشعبي تعزز هذا التقدير، لكن بكل الأحوال فإن ما يجب أن يكون راسخا في اعتقادنا أن أي ثورة يمكن أن تهزم، وأن هزيمة أي ثورة خير ألف مرة من انحرافها أو خطفها، ذلك أن هزيمة الثورة يدفع بها وبقيمها ورموزها الى عمق الوعي الجمعي للأمة، لتتحول بالتالي الى واحد من أهم عوامل الدفع بالنهوض ثانية وفي أي لحظة، لكن انحراف الثورة وخطفها لا يولد الى اليأس و الإحباط، ولا يثمر إلا التشتت والضياع.

الربيع العربي صناعة ناصرية

في الحلقات السابقة تحدثنا عن موجبات ولادة الربيع العربي، والمعنى الحقيقي لهذا الربيع، وحينما نجعل عنوان حلقتنا الرابعة والأخيرة يتصل بالناصريين وهذا الربيع فإن الواجب يفرض أن نوضح بداية مفهوم الناصريين الذين نتحدث عنهم، ونبحث عن صلتهم بهذا الربيع.

في بحث مضى عليه سنوات، طرحت سؤال لتعريف الناصريين وتحديد معنى هذا المصطلح، ولست أبغي هنا أن أعيد بسط هذا الموضع أو الخوض في تفاصيله ـ وهو معروض في مواقع عدة ـ لكن ما يتوجب التأكيد عليه هنا أن هذا المصطلح من منظور الحراك الاجتماعي يغطي مساحتين متمايزتين، ومتداخلتين.

** فالناصريون هم جميع القوى الاجتماعية التي رأت في برنامج جمال عبد الناصر الاجتماعي والقومي والسياسي تعبيرا عن مواقفها، وتجسيدا لتطلعاتها، ورأت في شخصه نموذجا للصدق التعفف والالتزام والنقاء، فاندفعت تعطي قائد هذا التغيير نُصرتها ودعمها، واستمد منها هذا القائد زخما وقوة لم يكن لها نظير، خاض بها كل معاركه، انتصر في بعضها وانهزم في أخرى، لكن في النصر والهزيمة على السواء كانت هذه القوى الى معه، تشد من عضده، وتحسم لصالحه اللحظات الحرجة في كل معركة، حتى بدا من خلالها قائدا تاريخيا لهذه الأمة.

في عز تألقه كانت تصنع معه مجد الأمة وتحيط به من كل جانب، ولحظة انكساره كانت معه ترفض السقوط وتمنع هزيمة الإرادة، وتعطي عطاء لا حدود له لاسترجاع القوة اللازمة لاستمرار مسيرة التغيير، وحينما رحل القائد الى جوار ربه، شهد العالم كيف أن جمال عبد الناصر كان يسكن عقل وضمير الأمة كلها من الدار البيضاء الى دمشق وبغداد ومن دول الخليج العربية الى السودان والصومال، وعلى مدى سنوات الردة كانت هذه الجماهير تسترجع صلتها بهذا القائد ومشروعه المرة تلو الأخرى.

هذا التحديد لمفهوم الناصريين، أو قوى الثورة العربية، لا يعني أبدا أن هذه القوى الاجتماعية لا ترى نقصا، أو لا توجه نقدا لتجربة عبد الناصر، أو لا ترى أخطاء في سلوك القائد نفسه، أو أنها تريد أن تعيد التجربة السابقة لجمال عبد الناصر، أو أن تلتزم الوسائل نفسها التي حكمت تلك التجربة.

إن النواقص الحقيقية في التجربة، وأخطاء الممارسة، وكل نقد يمكن ويجب أن يوجه لهذه التجربة، تُعتبر هذه القوى الاجتماعية هي الأولى به، وهي الأكثر استفادة منه، لأنها وهي تفعل ذلك إنما تفعله من منطلق التزامها بالأهداف العامة التي التزمتها تلك التجربة، ومن منطلق تطلعها لنموذج قيادي كمثل نموذج عبد الناصر صدقا ونقاء وصلابة، والتزاما بسواد الأمة.

الناصريون والربيع العربي

في إطار هذا التحديد يصبح الربيع العربي صناعة ناصرية، أي صناعة قوى الأمة الحقيقية، صناعة السواد الأعظم لهذه الأمة.

إن ارتباط رغيف العيش بمحاربة الفساد، وبالكرامة الوطنية، وارتباط مستقبل التنمية بالعودة عن طريق الارتباط بالخارج دولا و مؤسسات، واستعادة روح وحدة الأمة العربية في مختلف أقطارها لمواجهة التحديات القائمة، واستعادة فلسطين لتكون قيمة حاكمة على تصرفات القوى والدول، والمطالبة بجعل أجهزة الدولة العسكرية والأمنية في خدمة المواطن والوطن، وليست لإحكام السيطرة عليه. كل هذه المعاني مما عايناه في مليونيات الربيع العربي، وهو نفسه ما كان يميز حركة الثورة العربية في مرحلة جمال عبد الناصر، وأضافت الحركة الشعبية على مرحلة ذلك القائد التمسك بالديمقراطية السياسية كأداة للحكم، ولاختبار برامج القوى السياسية وسلوكياتها، وجاءت هذه الإضافة استيعابا لدرس قاس استمر لأكثر من اربعين عاما عانت فيه هذه الحركة الشعبية وعانت فيها الأمة كلها من ديكتاتوريات غاشمة عاثت في حياة الوطن والمواطن فسادا وتخريبا، وضيعت الوطن والمواطن على السواء.

مفاهيم أكثر دقة

** هذا مستوى من تحديد مفهوم " الناصريين"، ومن قلب هذا المفهوم برز مفهوم آخر أدق تحديدا، وأضيق مساحة، وألصق بالعمل السياسي، وهو ذلك الذي يعني القوى السياسية المنظمة التي التزمت بالناصرية وجعلتها المحددة لرؤاها، ولبرامجها.

واتخذت هذه القوى أسماء عديدة وعناوين متنوعة، بعضها التزم اسم الاتحاد الاشتراكي العربي، وبعضها ذهب الى تسمية تظهر القوى الاجتماعية التي يتطلع اليها ويلتزمها مثل: التنظيم الشعبي، أو الطليعة العربية، أوتحالف قوى الشعب العامل، وذهب آخرون الى جعل الصفة الناصرية واضحة في اسم حركته وحزبه.

وأياً ما كانت التسمية فإن هذا المستوى يتصل بالعمل السياسي والتكوين السياسي، ويمتاز هذا المستوى بأنه محدد ومؤطر، بما يتيح خضوعه للقياس والنقد: فكرا وتجربة وقيادة

إذا كان الربيع العربي وفق المستوى الاجتماعي العام صناعة ناصرية، فأين تقف الأحزاب والتشكيلات الناصرية من هذا الربيع؟.

هذا سؤال مركزي لابد من الإجابة عليه بوضوح لا يبقي لبسا، وبجرأة لا تخشى نقدا.

1ـ بداية لابد من تأكيد حقيقة أن تصحر الحياة السياسية العربية والذي أتينا على دواعيه في الحلقة الأولى حينما تحدثنا عن بؤس النظام العربي، أصاب أول ما أصاب التشكيلات السياسية الناصرية, باعتبار حقيقة أن المرحلة التي استهدفتها الردة كانت هي نفسها المرحلة التي تنتمي اليها هذه الحركات، وباعتبار أن الانجازات أو البنى الاجتماعية والفكرية التي أغارت عليها قوى الردة كانت هي نفسها التي قامت عليها هذه الحركات السياسية.

2ـ ثم لابد من تسليط الضوء على حقيقة أخرى وهي أن نظم الردة العربية استخدمت القوى السياسية الدينية ومكنت لها لمواجهة قوى التيار الناصري مستثيرة فيها رغائب الثأر من الناصرية بقضها وقضيضها، ومستنهضة الصراع الذي كان بين هذه القوى والقيادة الناصرية على مدى التجربة الناصرية كلها.

3ـ أن هذه التنظيمات أصيبت نتيجة حالة التصحر وانقطاع الصلة بين الأجيال بالعجز عن تجديد قيادتها، فكل تفكير بالتجديد كان حذفا من قوتها وخبرتها بدل أن يكون تجديدا لهما، ومن هنا بدت قيادات العمل الناصري وكأنها صورة أخرى من صور أنظمة الحكم القائمة من خلال صفتة ديمومة القيادة، وعدم تبديلها إلا بما يشبه الانقلاب، الذي يولد بالطبيعة انشقاقات لا اساس موضوعي لها.

4ـ وقد افسح هذا الوضع أمام القوى الحاكمة للتلاعب بهذه القوى، والتأثير في مسارها، وفي العمل على زيادة عوامل الضعف فيها.

ولأن العوامل التي أشرنا اليها لم تكن مختصة أو مقتصرة على الحركة الناصرية، وإنما كانت تحيط بكل قوى العمل السياسي المعارضة، وكانت آثارها واضحة على مختلف هذه القوى لذلك بقيت القوى الناصرية هي الأكثر تأثيرا بين قوى المعارضة ـ باستثناء الحركات الدينية ـ ، وبالتالي بقيت قوى التيار الناصري الأهم في تشكيلات وتحالفات المعارضة، لقد كان هذا واضحا في مختلف الأقاليم التي تجسدت فيها الحركة الناصرية بوجود تنظيمات ناصرية من موريتانيا الى اليمن، ومن سوريا الى السودان، ونكتفي أن نسلط الضوء في هذا المقام على الحركة السياسة الناصرية في كل من سوريا واليمن ومصر.

الحركة الناصرية في سوريا :

كان الناصريون ـ على ضعفهم ـ القوة الأكبر في كل التحالفات التي أقاموها أو شاركوا فيها في الفترة التي سبقت انطلاق الحراك الثوري منتصف مارس 2011، وحينما بدأ هذا الحراك، كان منطق الناصريين مختصر في خمسة شعارات:

** تغيير السلطة المستبدة والفاسدة.

**سلمية التحرك الشعبي وعدم اللجوء الى السلاح.

** رفض التدخل العسكري الخارجي بأي صورة جاء.

** التمسك بوحدة وعروبة سوريا

** التمسك بالتزام سوريا تجاه القضية الفلسطينية وقوى وفكر المقاومة.

ومع تطور الصراع وحجم الجرائم التي ترتكبها السلطة، وحجم الاستهتار الذي قابت به المطالب الشعبية تحول شعار تغيير النظام الى إسقاط النظام بدل تغييره، مع التمسك بالشعارات الأربعة الأخرى.

وشاركت كوادر وأعضاء التنظيم في الحراك الشعبي وفي توجيهه في درعا وإدلب ودوما وفي حمص ومناطق عدة أخرى، واستمر وجودهم حاضرا الى حين بدأ تأثير القوى الخارجية بالظهور ممثلا بقوى الاسلام السياسي السلفي والإخواني، وبالقوى اليمينية التي صنع جيلها الأول الانفصال الرجعي في 28 سبتمبر/ ايلول عام 1961.

وكان استبدال العلم السوري القديم ـ علم مل قبل الوحدة بعلم الوحدة وهو نفسه علم الدولة السورية الراهنة أهم مظاهر هذا التحول في القوى المؤثرة في الحراك الثوري، وتضمن التحول المطالبات المتكررة بتدخل حلف الناتو كمثل ما حدث في ليبيا، وبالدعوة الى عسكرة الثورة، وبالدعوة الى انشاء مناطق آمنة، وهذه جميعا تعبير عن موقف واحد ينطلق من تحويل المعركة في سوريا من معركة ضد الاستبدال والفساد والطائفية والنظام القاتل، الى معركة اقليمية ودولة تستهدف إعادة تموضع سوريا "المرجوة" في معسكر النظام العربي الرسمي المتحالف مع الولايات المتحدة ووفق أولوياتها.

إن هذا الاتجاه الذي دفعت اليه حركة الثورة في سوريا كشف عن ضعف أداء القوى الناصرية والقومية عموما في هذا الحراك الثوري، حيث لم تستطع هذه القوى الإرتقاء الى مستوى متطلبات هذه الحراك التي بدأت تتكثف مع تصاعد عمليات القتل والمجازر التي يرتكبها النظام، كما كشف عن بدء عمليات خطف الثورة لصالح القوى الأخرى التي تمثل المعادل الموضوعي لقوى النظام الباغية.

لقد وضعت سوريا الآن بين نظام لا يعرف غير القتل في مواجهة حراك الشعب الثوري، ولا يهتم لغير متطلبات بقائه حتى لو كان هذا البقاء يمر عبر تقسيم سوريا جغرافيا، وتحطيمها اجتماعيا من خلال الصراعات الطائفية، وبين قوى ترى نفسها أمام فرصة تاريخية في تحقيق هيمنة على هذا البلد تنهي أي مكانية لاستعادة سوريا لوجهها القومي التقدمي الحقيقي، وتضع سوريا في إطار إصفافات دينية طائفية مدمرة.

الوضع في سوريا الآن خطير جدا، شعب يذبح، وثورة يجري خطفها، والقوى القومية ذات الموقف الثوري المتوازن تتراجع قوتها وتأثيرها في الحراك الشعبي باستمرار.

إن الموقف القومي الناصري من حاضر سوريا ومستقبلها، ما زال يمثل طريق الخلاص الوحيد الذي يبقى هذا البلد في الموقع الذي يعبر عن طبيعة شعبه وعن لوازم الجغرافيا السياسية التي يحتلها، ولعل هذا الموقف هو الذي يعطي القوى القومية والناصرية في سوريا مكانة في صنع مستقبل هذا سوريا، لأن أي تصور آخر لا يحمل لسوريا الى الدمار أرضا وشعبا، وأعتقد أن هذا الموقف هو الذي يعطي للتيار الناصري القومي قوته المعنوية، وهي قوة أكبر بكثير من قوته التظيمية أو قوة التحالف الذي يلتزمه أو يقوده.

الحركة الناصرية في اليمن

استطاع الناصريون أن يعيدوا بناء أنفسهم عقب مذبحة أكتوبر 1978، وقد عانى هذه التنظيم الظروف نفسها التي عانت منها الحركة الناصرية في سوريا، وواجه نظاما فيه الكثير من أوجه الشبه مع النظام السوري، واستمر منطقهم وفكرهم موجها رئيسيا لحركة المعارضة اليمنية وائتلافها، ولعل تسمية عدد من الجمع بأسماء ذات ارتباط بتاريخ الحركة الناصية أو ارتباطاتها جاء دليلا على ما نذهب اليه، جمعة "النصر لشامنا ويمننا، جمعة الشهيد ابراهيم الحمدي" وكانوا ـ مثلهم مثل اخوانهم في سوريا ـ أحد أبرز صناع الحراك الثوري الذي تفجر في شباط / فبراير في اليمن، لكن امكاناتهم كانت ـ للأسباب نفسها التي عرضناها في غير هذا المكان ـ أقل من احتياجات هذا الحراك الثوري.

واستطاع الوضع اليمني ممثلا بالبيئة القبلية، وتركيبة الجيش، والانقسامات السياسية، والحكمة اليمانية أن يميزهم، ويميز الحراك الثوري في اليمن، حيث تم تجنب اللجوء الى السلاح لحسم الوضع مع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح. وحافظت الثورة على سلميتها رغم الدماء الكثيرة التي أريقت برصاص قوى النظام، وتم رفض اي دعوات لتدخل خارجي.

وإذا كان الحراك الثوري في سوريا قد واجه عملية اختطاف عبر اعتماد التسلح وطلب التدخل العسكري الخارجي لمواجهة عنف السلطة ودمويتها، فإن الحراك الثوري في اليمن واجه عملية اختطاف مماثلة لكن من خلال ضغوط سياسية ومالية، إقليمية ودولية هدفت الى التضحية بعلي عبد الله صالح مع الإبقاء على نظامه، والتزامات هذا النظام اقليميا ودوليا.

ولأجل ذلك تتم خلال الترتيب ليمن المستقبل محاولة تجاوز الحركة الناصرية، وتنظيمها، وذلك بهدف إضعافها، وإخراجها من المعادلة، وسيبقى مستقبل اليمن الذي نشدته الثورة الشعبية رهن بمقدار ما يتحقق من الشعارات التي رفعها شباب الثورة في مختلف مراحلها:

** يمن موحد، مستقل، ملتزم بقضايا أمته.

** يمن لامكان فيه للفساد والفاسدين.

** يمن ملتزم باحتياجات القوى الشعبية ومصالحها.

** يمن يلتزم الديمقراطية الحقيقية، ويمتلك ادواتها من قضاء وصحافة ومنظمات مدنية

** يمن قوى يستطيع ان يحمي واحدة من أهم بوابات أمته العربية.

** يمن تتساوى حظوظ ابنائه في مؤسساته العسكرية والأمنية والإدارية،بعيدا عن الاعتبارات الطائفية او العائلية أو القبيلة أو الجهوية.

الحركة الناصرية في مصر

ومصر نموذج مهم في دراسة العلاقة بين الربيع العربي والحركة الشعبية الناصرية، خصوصا وأن هذا البلد كان بلد التجربة الناصرية وقائدها.

نستطيع عرض الكثير عن التشكيلات الناصرية المنظمة في مصر منذ انقلاب السادات وحتى يومنا هذا، وما واجهته وما تعرضت له، لكن لمثل هذا الحديث مكان آخر، ويكفي في هذا المقام أن نستعرض دلائل معركة الرئاسة للإستدلال على طبيعة الحركة الناصرية في هذا البلد وصلتها بالربيع العربي.

دون الدخول في تفاصيل كثيرة فقد رأى المواطن المصري والمراقب أيضا أن نتاج العملية السياسية التي أعقبت ثورة يناير وضع الوطن بين نظام سابق يريد أن يستعيد دوره ومكانته، ويصد عنه رياح التغيير والثورة على الصعد كلها، وبين التيار السياسي الديني الذي يريد أن يبني تجربته وقد استشعر بعد انتخابات مجلس الشعب قدرته على بسط السيطرة على مختلف أجهزة الدولة.

ودون انتظار نتائج انتخابات الدورة الثانية من انتخابات الرئاسة التي جعلت التنافس بين الفريق أحمد شفيق ممثل النظام السابق، وبين محمد مرسي ممثل جماعة الاخوان المسلمين، فإن النتيجة الوحيدة الواضحة أن مصر تدخل الآن مرحلة خطرة عنوانها اختطاف الثورة أو إجهاضها.

وسيكون على قوى الثورة أن تستمر في معركتها ضد هذا الوضع، عليها أن تحارب عبر ميادين التحرير لمواجهة عودة النظام القديم، وأن تحارب عبر ميادين التحرير لمواجهة محاولة استئثار التيار السياسي الديني بالسلطة.

وإذا كان من سمات هذا التيار السياسي الاسلامي المساومة، وإبقاء نقاط اتصال بينه وبين النظام السابق، فقد يكون على قوى الثورة ان تواجه الطرفين معا، ولو بأشكال مختلفة.

لاشك أن سقوط الفريق شفيق في معركة الرئاسة يمثل ضرورة وطنية وقومية ودينية، وأن على جميع قوى الثورة أن تعمل للحيلولة دون نجاحه في مسعاه، لكن نجاح محمد مرسي الذي كشف عن فكر سياسي بائس لا يمثل أي تقدم في اتجاه استهدافات الثورة وقواها.

إن روح الاستئثار التي ظهرت في أعقاب نتائج انتخابات مجلس الشعب، وفي محاولات وضع الدستور الجديد، والجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، تكشف أن هذه الجماعة كانت عاجزة عن الاستفادة من تجربة جبهة الانقاذ الجزائرية، أو الاستفادة من تجربة نجم الدين أربكان في تركيا، أو الاستفادة من تجربة حركة النهضة في تونس، وأنها تسير على درب التصادم مع المكونات الرئيسية للثورة وللمجتمع معتمدة على رصيد العضوية الحزبية لديها.

نحن هنا لا نقيم مسلك الأخوان المسلمين في مرحلة ثورة يناير، وما تضمنه من مساومات ومن مواقف أثارت الكثير من الشكوك، وما أتينا عليه يهدف فقط الى التوطئة للنظر في الموقف الناصري، وهو الذي جسده موقفا وبرنامجا مرشح الرئاسة حمدين صباحي.

لا اريد الذهاب الى القول بأن صباحي بات يجسد ظاهرة في الحياة السياسية المصرية، لكنه للحق استطاع أن يميط اللثام عن الموقف الشعبي الحقيقي المتحرر من كل الضغوط والمؤثرات.

الرجل خاض تجربة الترشح للرئاسة وحقق النتيجة التي حققها وهو يفتقد الى عاملين جوهريين ميزا منافسيه في هذه المعركة:

**إذ افتقد التنظيم السياسي الفاعل الذي يحشد له ويكون أداته الدعائية والحركية، ليواجه به فعالية تنظيم الاخوان المسلمين الداعم لمحمد مرسي، أو تنظيم الدولة ومؤسسات الفلول التي وقفت وراء أحمد شفيق.

** وافتقد ـ الى حد الشح الدعم ـ المالي، وهو أمر ضروري في مثل هذه المعركة، إذ ضخ الاخوان المسلمون، وكذلك الفلول مئات الملايين من الجنيهات المصرية تأمينا لعمليات الحشد المختلفة الطبائع.

إن معركة الرئاسة التي خاضها حمدين صباحي أثبتت مجموعة أمور جوهرية لابد من الوقوف عليها ونحن نتحدث عن الناصريين في مصر:

1ـ أن الذين وقفوا الى جانب حمدين وقد وصل عددهم الى نحو أربعة ملايين وثمانمئة الف صوت وفق التعداد الرسمي وقفوا قناعة ببرنامجه السياسي والاجتماعي، وبمجمل القضايا التي طرحها خلال حملته الانتخابية، أي وقفوا معه قناعة بهذا الخط الذي يمثل الرؤية الناصرية للمرحلة الراهنة.

2ـ أنه استطاع بشخصه أن يقدم نموذجا للقيادة تحتاجه جموع المصريين، القيادة الواضحة الشفافة الصادقة، والمرتبطة بعامة الناس، إنه حين عرض كل ما يخص شخصه ماليا وصحيا، وما يخص أسرته، وما يخص حملته وتكلفتها، كان يجسد الشعار الذي ميز حملته "حمدين واحد مننا"، ولم يستطع أحدا غيره من المرشحين أن يفعل ذلك.

3ـ أنه استطاع أن يجمع من حوله كماً من المؤيدين الحركيين الذين قاموا بكل احتياجات حملته على طول مصر وعرضها في المدن الكثيفة السكان، وفي الأرياف والنجوع المتباعدة، وهؤلاء يمثلون محيطا قادرا على التحول الى حركة سياسية ذات تأثير فعال لم تستطعه تجارب العمل السياسي الناصري المختلفة.

4ـ أنه جسد ثورة 25 يناير التي كان معها في ميدان التحرير منذ اليوم الأول بل إنه كان وحركة كفاية التي عمل من خلالها من أهم الحركات التي مهدت الطريق للثورة، لم يهادن النظام السابق قبل الثورة، ولم يدخل معه في حوار على مدى أيام الثورة الى أن سقط رأس النظام، ولم يدخل بمساومات مع المجلس العسكري، وكانت له رؤية واضحة بشأن الدستور أولا، وهو رأي لو أخذ به كان من شأنه أن يقطع السبيل على التلاعب الحاصل بمسار الثورة، وعلى العمل الدؤوب الجاري لإعادة انتاج النظام السابق.

في الحسابات الديموقراطية الشكلية فإن حمدين صباحي لم يستطع الانتقال الى الدور الثاني، وتقدير الكثيرين أنه لو حقق ذلك الانتقال لكان حظه في الفوز بالرئاسة في الدور الثاني لا ينافس.

 لكن في الحساب الموضوعي فإني ممن يعتقد أن حمدين صباحي هو الفائز الحقيقي، هو الذي التف الناس حوله دون أي مؤثرات غير برنامجه، وصدقيته، وقدرته على استعادة روح مرحلة العزة والكرامة التي مثلتها مرحلة جمال عبد الناصر.

وكما في كل دول الربيع العربي فإن محاولات خطف أو حرف الربيع العربي في مصر ما زالت في أوجها، ولن يكون لهذا الربيع من حارس يحميه، ويدافع عنه، إلا هذا يقظة الشارع الذي صنع هذا الربيع وأطلقه، وهنا تبرز الأهمية الخاصة لرجل مثل حمدين صباحي وللتيار الذي وقف معه، وللطلائع التي صنعت هذا الانجاز في العمل الدؤوب والمصمم على التصدي لكل محاولات إجهاض الربيع العربي في مصر أو حرفه.

خيارات بائسة

وأختم حديثي بتأكيد أننا لا يجوز أن نضع أنفسنا، أو نقبل أن يضعنا أحد أمام خيارين بائسين لا ثالث لهما:

** أن نكون مع أنظمة الاستبداد والفساد والقتل بدعوى الحفاظ على الوحدة الوطنية، وعلى تماسك الوطن، وعلى فكر المقاومة وثقافتها ... الخ.

** أو أن نكون مع التغيير والثورة تحت رايات منحرفة، أو بوسائل منحرفة، داعين للتدخل الخارجي أو مستعينين به، ... الخ.

فمثل هذين الخيارين لا يعبران عن حقائق موضوعية، وإنما عن مجرد أوهام لاحظ لها على أرض الواقع:

** فليس هناك وحدة وطنية ولا وحدة وطن، ولا ثقافة مقاومة، ولا التزام بفلسطين وبتحرير الأراضي المحتلة، ولا التزام بالعروبة ومقتضياتها، من خلال أنظمة الفساد والاستبداد، ومن خلال القهر والقتل الذي يمارس على الشعوب، يجب أن نكون على يقين أن أنظمة الفساد والاستبداد هي التي دمرت الوحدة الوطنية، وأنبتت في مجتمعاتنا الانقسامات الطائفية والعرقية، وهددت الوحدة الجغرافية لكل إقليم، والوقوف الى جانب مثل هذه الأنظمة استنادا لمثل هذه الأسباب والدواعي، هو في أحسن حالاته جري وراء وهم، وتمسك بسراب لاقيمة له ولا وجود، ومخادعة معيبة للنفس.

** كذلك ليس هناك خلاص من نظم الاستبداد والفساد والطائفية بالاستناد الى قوى الخارج أياً كانت هذه القوى، ولا بالاعتماد على منظومة القيم نفسها التي تثور عليها مثل الطائفية والانقسامات العرقية، ولا من خلال التبرع بإعطاء التعهدات والوعود للجهات الخارجية استجلابا للتأييد أو الدعم، كل هذا أيضا وهم لا ينتج عنه إلا أنظمة أشد ارتباطا وأكثر تفتيتا من الأنظمة التي ندعوا للثورة عليها.

نحن مدعوون للوقوف في وجهة أنظمة الاستبداد والفساد والتفتيت حتى إسقاطها، وللوقوف أيضا في وجه دعوات الارتباط بالخارج ودعوته للتدخل، حتى إسقاطها أيضا، ولا يضيرنا هنا ما يرفع في حركة الشارع ـ الذي يواجه بشلالات الدم وبالمذابح اليومية ـ من شعارات.

إننا ونحن نتابع مشهد رفع هذه الشعارات في حركة الشارع نشعر بأن هناك استغلالا مقيتا للدم الزكي الذي يتفجر كالشلال بفعل ما يرتكبه النظام من مذابح، ومتاجرة بهذا الدم لا يجوز القبول بها، ولا يجوز التهاون مع من يفعل ذلك.

هذا الموقف الذي ندعوا إليه وهو على ما نعتقد الموقف الحق: الموقف الصحيح الذي يلبي شروط الحاضر والمستقبل، ويلبي احتياجات كل إقليم، واحتياجات الأمة، وهو الموقف الذي يمكن البناء عليه، ولو بدا مرحليا أنه موقف غير شعبي ولا يستجيب لحجم القهر والغضب الذي تفجره يوميا جرائم النظام ودمويته.

[email protected]

نقلا عن موقع البديل نت