Home Articles Orbits الثورة والدولة والقبيلة في اليمن
الثورة والدولة والقبيلة في اليمن
د. أحمد قايد الصايدي
د. أحمد قايد الصايدي
 

إنبثقت ثورة سبتمبر، عام 1962م، في واقع سياسي واقتصادي واجتماعي شديد التخلف، تغلب عليه بنية اجتماعية (قبلية)، تنتمي إلى عصور مغرقة في القدم، تعاظم دورها بعد الثورة، فبدت وكأنها في أوج قوتها وحضورها، بحيث استطاعت أن تفرض تفكيرها وأساليب حياتها وأعرافها وتقاليدها على المجتمع بكامله، وعلى كامل حياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية، مشكلة بذلك عائقاً أمام التطور والتحديث وبناء الدولة، صعب على الثورة تجاوزه حتى الآن. 

هذا هو الوجه الأول، من وجهي المشكلة الجوهرية، التي عانى منها اليمن، منذ فجر الثورة، ومايزال. أما الوجه الآخر فهو دور العامل الخارجي، الذي لم ير من مصلحته بناء دولة حديثة في اليمن، دوره في تفعيل عوامل الإعاقة الداخلية، وفي استمرار البنى الإجتماعية القديمة وتماسكها واشتداد عودها واتساع نفوذها، بما يتعارض مع منطق التاريخ، الذي شهد في مراحله المختلفة تحلل البنى القديمة، واندثارها، لتحل محلها بنى أكثر ملاءمة للعصر وأكثر تعبيراً عن الحاضر والمستقبل.

لقد نشأ تزاوج بين البنية الإجتماعية القبلية، بنمط حياتها، المتسم بالصراع الدائم، تحت ظروف بيئية صعبة، أصبح القتال فيها مصدراً رئيسياً للرزق، وأصبحت العصبية القبلية ملاذاً للفرد، يكفل له الأمن والحماية، نشأ تزاوج بين هذه البنية وبين الإمامة الزيدية، التي أعلنت مبدأ الخروج ورفضت مبادئ الشيعة الإمامية بفرعيها (الإثناعشري والسبعي، أي الإسماعيلي)، وعلى وجه الخصوص، مبادئ التقية والعصمة والرجعة والمهدية، فتخلصت بذلك من كثير من الأساطير والأوهام الغيبية، وأضحت إمامة واقعية، تحقق حلمها، على الأرض، بالسيف، ولا تنتظره حتى يهبط من السماء، أو يأتي من وراء الغيب، وتجاهر أعداءها بالعداء، ولا تتقي أذاهم بالمخاتلة وتصنُّع الولاء الزائف. هذه الخلفية الفكرية السياسية ناسبت حياة القبيلة اليمنية، فاستوطنت الإمامة الزيدية في اليمن، في تربة وجدتها صالحة لها، وتداخلت مصالح القبيلة بمصالح الإمامة، لتغدو نسيجاً واحداً، مما سهل بقاء الإمامة وامتداد عمرها، حتى جاوز ألف عام. 

ومع أن الوجود السياسي للإمامة قد انتهى، بقيام ثورة سبتمبر،عام 1962م، فإن روحها استمرت في الوجود، متجلية في الحاكم الجمهوري، الذي ورث من الإمامة أسوأ مافيها، وهو نهجها الفردي الإستبدادي، مع افتقاره إلى أهم شروطها، ولاسيما العلم، الذي يبلغ درجة الإجتهاد. أما القبيلة فقد بقيت، بكيانها وبإرثها التاريخي، تمارس حياتها وتأثيرها، رغم انتهاء كيان الإمامة السياسي. وذلك لأن كيان القبيلة لايمثل وجوداً سياسياً طارئاً، كالإمامة، يمكن إنهاؤه بثورة، بل هي بنية اجتماعية وأسلوب في الحياة ونمط في التفكير وطرائق في السلوك، لا يمكن تجاوزها إلا عبر عملية تطور طبيعي طويل، أو عملية تطوير مدروسة، للواقع الإقتصادي والسياسي، مسنودة بجهد عالٍ، في مجال الإقتصاد والتعليم والتثقيف وتنمية القيم الملائمة للعصر، كقيمة العمل واحترام الوقت وتكريس مفهوم الكسب المشروع، الناجم عن العمل، ليحل محل مفاهيم الفيد والإستيلاء على المال العام ووضع اليد على المال الخاص، مع تأكيد مرجعية الدستور والقانون وتعزيز سلطة الدولة وحسن أداء أجهزتها وعدالة القضاء واستقلاله، وبناء أجهزة عسكرية وأمنية، ذات طابع وطني شامل. مما سيؤدي إلى تذويب الولاءات العشائرية والمناطقية والمذهبية، وتصعيدها إلى مستوى الولاء الوطني والتبعية للدولة وللعمل المنتج، بدلاً من التبعية للقبيلة ولشيخ القبيلة.

لقد تسلمت ثورة سبتمبر من العهد الإمامي وطناً بلا إدارة حديثة وبلا إقتصاد وبلا مرافق خدمية، أي بلا دولة، بالمعنى الحديث للدولة. وهذا ماسهل للبنية الإجتماعية (القبيلة)، التي ارتكزت عليها الإمامة، أن تواصل دورها القديم في إطار العهد الجديد (العهد الجمهوري)، بل وتُعظّم هذا الدور، بفعل عوامل داخلية وخارجية مستجدة، محبطةً كل جهود التحديث، لتستمر روح الإمامة، في ثوبها الجمهوري الجديد، وتعود في نهاية الأمر إلى أصلها، المتمثل بحكم الأسرة وولاية العهد. علماً بأن ولاية العهد، في حد ذاتها ليست جزءاً من بنية الفكر السياسي الزيدي، بل هي فكرة دخيلة عليه ومناقضة له، فُرضت في بعض مراحل تاريخ الإمامة الزيدية، بحكم الواقع، لابمقتضى الفكر. فالفكر السياسي الزيدي يضع شروطاً لتولي منصب الإمامة، أقل مايقال فيها أنها تتوخى الكمال في شخص الحاكم، من علم يبلغ درجة الإجتهاد وورع وأمانة وكرم وشجاعة ...إلخ، وإن كان قد تم التفريط ببعضها، وأحياناً بمعظمها، خلال تاريخ الإمامة الممتد في اليمن، وتم إهمالها في العهد الجمهوري. ومن اللافت للنظر، أن وجود القبيلة ودورها ظل الثابت الأبرز والأهم، في العهدين الإمامي والجمهوري. مع التأكيد على أن دورها السياسي والإقتصادي، على وجه التحديد، قد تضخم في العهد الجمهوري، تضخماً لم تشهده كل عهود الإمامة، من الإمام الهادي، يحي بن الحسين، إلى الإمام المنصور محمد، البدر.

فمنذ فجر السادس والعشرين من سبتمبر عام1962م، ونظراً لعدم توفر الجيش الحديث، القادر على الدفاع عن النظام الجديد، لجأت قيادة الثورة والقيادة المصرية، بحكم الضرورة، إلى الإعتماد على القوة القتالية للقبيلة اليمنية. ومن هذا الباب تسلل النفوذ القبلي، وانفتحت شهيته، بسبب ضعف قيادة الدولة الجديدة، وافتقارها إلى مشروع وطني واضح، يتضمن رؤية  لبناء الدولة المدنية الحديثة، انفتحت شهية النفوذ القبلي لممارسة دور سياسي واقتصادي متعاظم، لم يكن متاحاً في عهود الإمامة، كما أسلفنا. وبلغ الأمر مداه، في الثلاثة العقود المنصرمة، التي أضحى دور القبيلة في الحكم وسيطرتها على مفاتيح النشاط الإقتصادي، دوراً سافراً ومشروعاً، ويتجاوز الضوابط والقواعد الدستورية والقانونية. فغدت القبيلة هي الدولة والدولة هي القبيلة.

وبعد تحقيق الوحدة اليمنية، تمكن نظام الحكم في الشمال، بخصائصه القبلية، من مد نفوذه إلى الجنوب، الذي كان قد تجاوز، ولو نظرياً، المرجعيات العشائرية والمناطقية وتأثيراتها السلبية على الدولة. وإن بقيت هذه المرجعيات كامنة تحت الرماد، تنبعث، بين الحين والآخر، في لحظات الصراعات السياسية، التي كانت تنشب بين أطراف النخبة السياسية الحاكمة، فيستدعي كل طرف الإرث القبلي والمناطقي المتخلف، ليستقوي به على الطرف الآخر، دافعاً إلى الخلف ماحققته عملية التوحيد والتنمية والتحديث، وملحقة الضرر بالقيم الحديثة، الحاكمة للعلاقة بين الدولة والمواطنين، بمختلف انتماءاتهم المناطقية والعشائرية. 

وكانت حرب عام 1994م، التي أسميها (حرب الإستحواذ)، كانت هي المدخل الأوسع، الذي ولج منه تأثير النظام في الشمال، أي نظام سلطة القبيلة، إلى المحافظات الجنوبية. وقد سهل إعلان الإنفصال، في سياق الحرب، من قبل طرف واحد، سهل للطرف الآخر، أن يحولها إعلامياً إلى حرب للحفاظ على الوحدة. وهي مفارقة، تسبب فيها بعض قصيري النظر من السياسيين في الجنوب، مفارقة أن يتحول الوحدويون إلى إنفصاليين ويتحول من ينقصهم الوعي الوحدوي الحقيقي والمشروع الوطني العام، إلى حماة للوحدة. مفارقة، ماكان ينبغي أن تحدث، لولا شطط بعض القادة في الجنوب واستعدادهم النفسي، للإنتقال من النقيض إلى النقيض، من الإندفاع الأعمى نحو وحدة إندماجية متسرعة، غير مبنية على أسس متينة، تضمن بقاءها واستمرارها وتطورها، إلى الإندفاع الأكثر عمى نحو الإنفصال والبحث، كما هو حاصل الآن، عن هوية جديدة للشعب والأرض. 

وقد مثلت تلك الحرب حدثاً مفصلياً، أضحى الجنوب بعده ملحقاً بالشمال. ومختبراً لعمليات استنساخ التجربة الشمالية، سياسة واقتصاداً وثقافة وتعليماً وقيماً، وتعميمها على الساحة الجنوبية بكاملها. ولم تسلم حتى مدينة عدن، من عواصف التخلف المدمرة، القادمة من الشمال. مدينة عدن هذه، التي كانت إلى وقت قريب حاضرة الجزيرة العربية كلها، ومركز الإشعاع والتحديث الأكثر أهمية فيها، أريد لها أن (تَتَقَبْيَل)، وأن يكون لها شيوخ، على رأسهم شيخ مشايخ. هل يمكن لعاقل أن يتصور هذا الإسفاف والسفه. عدن المدينة، التي لم تعرف معنى القبيلة والعشيرة، والتي يتكون نسيج سكانها من مختلف مناطق اليمن وغير اليمن، ومن مختلف الطوائف والعشائر والأجناس، عربية وغير عربية، نسيج تكون عبر الزمن وتيمنن فيه الهندي والباكستاني والإيراني والصومالي وغيرهم، وأصبحوا جميعاً بنية اجتماعية مدنية واحدة، يصعب التفريق والتمييز بين مكوناتها. عدن هذه أريد لها أن تنقسم إلى عشائر ومشيخات. هذا معلم بارز من معالم الدولة _ القبيلة، أو دولة القبيلة، التي كرستها سلطة الشمال، وعمدت إلى تعميم ثقافتها وقيمها وسلوكها ونظرتها إلى الوطن وإلى الحياة، على كل ربوع اليمن، بمافيه المحافظات الجنوبية، التي كانت تعيش قبل الوحدة وضعاً أكثر رقياً بمقاييس الحياة المدنية الحديثة، من المحافظات الشمالية. وهو تعميم كان هدفه تدمير كل مابني في عدن، وفي عموم المناطق الجنوبية، من مظاهر التقدم والتحضر والتحديث، منذ العهد الإستعماري، وعهد الإستقلال، حتى قيام الوحدة اليمنية. تماماً مثلما دُمرت إمكانيات وفرص بناء الدولة المدنية الحديثة، في شمال الوطن، ومحيت أهداف ثورة سبتمبر وقبرت أحلام المواطن اليمني، التي علقها على الثورة، وقدم تضحياته من أجل تحقيقها، وأصبحت تبدو اليوم أبعد منالاً، مما كانت عليه في فجر الثورة.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: أليس هناك من سبيل للخروج من هذا التزاوج التاريخي، بين الدولة والقبيلة، الذي تحول في الثلاثة العقود الأخيرة إلى ابتلاع القبيلة للدولة، وتحويلها إلى أجهزة، تعمل تحت هيمنتها وتوجيهها وتسخر لخدمة مصالح المتنفذين فيها؟ والجواب: نعم، هناك سبيل واضح وممكن، ولكن البعض لايريد أن يسير فيه. إما لتعارضه مع مصالحه، أو لتشوش في الرؤية، أو لخضوعه للإرادة الخارجية.

ففي تقديري أن الخروج من هذا التزاوج، الذي تحول إلى ابتلاع، وإلى عائق حقيقي أمام التطور، يبدأ بالنظر إلى القبيلة نظرة موضوعية، بعيدة عن التهويل وبعيدة عن التهوين. نظرة تضع في اعتبارها أن اللوم في ابتلاع القبيلة للدولة يقع، بالدرجة الأولى، على الدولة نفسها، وعلى العامل الخارجي، المتحكم بإرادة الدولة. 

لقد أثبت التاريخ اليمني أن هناك علاقة عكسية بين قوة الدولة ونفوذ القبيلة. فكلما قويت الدولة ونهضت بوظائفها بكفاءة، كلما ضعف نفوذ القبيلة إلى حد التلاشي. وكلما ضعفت الدولة، أو أُضعفت عمداً، كما حدث في العقودالثلاثة الأخيرة، كلما طغى نفوذ القبيلة واتسع.

 وانطلاقاً من هذه القاعدة يمكننا أن نفهم البنية القبلية ودورها في الحياة اليمنية وعلاقتها بالدولة. فالبنية القبلية هي البنية الغالبة في المجتمع اليمني، شماله وجنوبه شرقه وغربه. وتتباين متانة هذه البنية وتماسكها من منطقة إلى أخرى، فحيث يغلب النشاط الزراعي، على الحياة الإقتصادية، يتحول القبيلي إلى فلاح، وتتفسخ الروابط القبلية، وتتغلب عليها الروابط الناجمة عن علاقة الإنتاج، بين الفلاح ومالك الأرض، وتبرز فيها شخصية، رأيت أنها تختلف، في سماتها وسلوكها وعلاقتها مع الفلاحين، عن شخصية (شيخ القبيلة)، فعمدت في كتابي (حركة المعارضة)، إلى تسميتها ب (شيخ الأرض)، للتمييز بينهما . أما في المناطق القاحلة، أو الضعيفة زراعياً فتستمر العلاقة القبلية، التي طبعت بطابعها مجمل حياة القبيلة ونشاطها الإقتصادي والعسكري وعاداتها وتقاليدها. هنا تتخذ البنية الإجتماعية طابعاً عسكرياً، وتنزع نحو القتال والغزو وتتخذ من الحرب مهنة يتوارثها الأبناء عن الآباء. وقد لامست هذه المسألة، في محاضرة بعنوان (الديمقراطية والمجتمع اليمني)، ألقيتها في ندوة الحوار اليمني _ الفرنسي، التي نظمها في باريس معهد العالم العربي، بتاريخ 18 ديسمبر عام 1992م. ثم نُشرت في الصحافة اليمنية، تحت عنوان (الديمقراطية بين الحلم والواقع) . وما أود إضافته هنا هو أن القبيلة مكون إجتماعي يمني، أي أنها تتكون من مواطنين يمنيين، ننتمي إليهم وينتمون إلينا، ولديهم قابلية للتغيُّر والتطور، بقدر مالدينا، ومن بينهم اليوم أساتذة وأطباء ومهندسون وموظفون ومثقفون، يتبنون هذه القناعات، التي نطرحها. بل إنناجميعنا ننتمي إما إلى قبيلة، مازالت روابطها القبلية متماسكة، بفعل شروط حياتها الإقتصادية وسياسة الدولة والعامل الخارجي، أو إلى قبيلة فلاحية، وهت روابطها القبلية، مع مرور السنين، بفعل شروط حياتها الإقتصادية. وهذا يفرض علينا ونحن نتناول البنية القبلية، كظاهرة إجتماعية - تاريخية، وتأثيرها في الحاضر، أن ننظر إليها باعتبارها مكون أساسي من مكونات مجتمعنا، لايمكن تجاهله، ولايمكن النظر إليه، كما يفعل البعض، ككيان خارج عنا، بيننا وبينه حواجز وحدود، وكأننا نقف في مواجهته ويقف في مواجهتنا. بل إننا، نحن وهو، نشكل كياناً اجتماعياً يمنياً واحداً: جزء منا تمر حياته بمرحلة التحول الحضري وجزء آخر مايزال مشدوداً إلى الحياة القبلية، بأفقها المحدود، الذي لايتجاوز غالباً حدود القبيلة والجوار القريب. والمطلوب منا أن نجد السبل الكفيلة بنقل هذا الجزء منا إلى الأفق الوطني الأرحب. وأن ندرك أن النظام السياسي والفعل الخارجي، هما اللذان تعمدا، منذ فجر ثورة سبتمبر، وحتى اليوم، ولاسيما خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أن يبقيا القبيلة قوة عسكرية احتياطية بأيديهما، ويعززا وجودها الإجتماعي ودورها الإقتصادي ويمكناها من ممارسة دور سياسي متعاظم، ليستخدماها أداة، لإعاقة التطور وللحيلولة دون بناء الدولة المدنية الحديثة. كما يجب أن نسلم بأن قابلية الإنسان اليمني، في المدن والأرياف، وحتى داخل البنية القبلية المتماسكة، قابليته للتطور ونزوعه للتعليم واستعداده للإنتظام في مجتمع حديث يسوده النظام والقانون والمساواة والعدل، قابلية عالية، والشواهد على ذلك كثيرة، في مقدمتها نحن، الذين أتيحت لنا فرص التعليم وملامسة حياة العصر وعلومه وأساليب حياته وأنماط تفكيره. وليس آخرها السلوك المنضبط المتمدن للمهاجرين اليمنيين، في أصقاع الأرض، يستوي في ذلك المتعلم وغير المتعلم، من ينتمي إلى مناطق القبائل ومن ينتمي إلى المناطق الفلاحية. 

فاللوم إذاً يجب أن يوجه، بالدرجة الأولى، إلى الدولة، التي انتهجت نهجاً متخلفاً، وأصرت على أن (تتقبيل)، بدلاً من أن (تتمدن)، وأضعفت أجهزتها عمداً، بعد أن أفسدتها. وعندما تضعف أجهزة الدولة، يحدث فراغ، تملأه القبيلة حتماً، كما تؤكد القاعدة المذكورة. حيث تصبح القبيلة ملاذاً ينشُد فيه الفرد، الأمي والمتعلم، الأمن والحماية، اللذين عجزت الدولة عن تأمينهما للمجتمع بكامله. ولذا ليس من المستغرب أن تسمع من رجال القبائل عبارة "أمِّنِّي وخذ سلاحي". وهي عبارة حتى وإن لم تعبر عن الموقف الحقيقي للشريحة المتنفذة في القبيلة، وهي شريحة محدودة على أية حال، فإنها تعكس المزاج العام في الوسط القبلي وتؤكد استعداد اليمني، في جميع مناطق اليمن، بما فيها المناطق القبلية، استعداده للحياة المدنية، إذا احترمت الدولة نفسها واضطلعت بجميع وظائفها، على الوجه الأكمل، وامتلكت قرارها الوطني، المستقل عن التأثير الخارجي المدمر، وسارت بحزم، في طريق البناء والتطوير المدروس، للواقع الإقتصادي والسياسي والتعليمي والثقافي والقيمي، الذي سيؤدي إلى تذويب الولاءات العشائرية والمناطقية والمذهبية، وتصعيدها إلى مستوى الولاء الوطني والتبعية للدولة وللعمل المنتج، بدلاً من التبعية للقبيلة ولشيخ القبيلة، كما ذكرنا سابقاً. وهذا ما سيشكل المخرج الطبيعي، من التزاوج التاريخي، بين القبيلة والدولة، في عهود الإمامة، الذي تحول إلى ابتلاع القبيلة للدولة، في العهد الجمهوري، ولاسيما في العقود الثلاثة المنصرمة.