ستظل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، فى منتصف القرن العشرين، واحدة من محطات التاريخ المعاصر شديدة الأهمية والتأثير فى كل ما جرى بعدها بمنطقة الشرق الأوسط. وها نحن فى «الأهرام»، نتوقف عند تلك التجربة.. لنعيد التذكير لمن يريد التعلم من التجارب .
ولأن الحاضر هو الابن الشرعى للماضى.. فلا شك فى أن العودة للجذور هى بداية الطريق لفهم مغزى الأحداث التى تمر بها سوريا- ومصر- هذه الأيام. سوريا التى توشك على التفتت الآن( ونسأل الله ألا يحدث) كانت موشكة على التفتت أيضا قبل نيف وخمسين سنة لولا مسارعة جمال عبد الناصر إلى التدخل وإتمام مشروع الوحدة. وطبعا- وكما نعلم جميعا- ما كان الغرب ليسمح ببقاء التجربة فانهارت.. ومع ذلك فإنها، ورغم الانهيار، تركت لنا دروسا ما أحوجنا اليوم للتوقف عندها لنتذكر ونعتبر.. أليست الذكرى تنفع المؤمنين؟ .
اليوم - 22 فبراير - تطل علينا الذكرى السابعة والخمسون لإعلان الوحدة وقيام الجمهورية العربية المتحدة.. تلك الوحدة التى لم تدم إلا لثلاثة أعوام ونصف العام( من 22 فبراير 1958 وحتى 28 سبتمبر 1961).. فما الذى بالضبط جرى؟ كيف ولدت الفكرة.. ومتى؟ ما الخطوات التنفيذية التى تم اتخاذها؟ كيف كانت ردود الفعل، سواء بين الأطراف العربية المختلفة، أو فى الغرب، وفى الولايات المتحدة تحديدا؟ ما تأثير الأزمة اللبنانية حينئذ على الوحدة؟ وما حكاية الأزمة بين عبد الناصر وخروشوف؟.. ثم.. ما تأثير الأزمات العربية والدولية على دولة الوحدة؛ كأزمات الكونغو، وكوبا، والقضية الفلسطينية، وأزمة محاولة العراق ضم الكويت.. وأخيرا.. كيف تم الانفصال؟ .
تلك وغيرها.. أسئلة تجيب عنها الدكتورة هدى عبد الناصر أستاذة العلوم السياسية، من خلال غوص فى الوثائق. وقد أرسلت الدكتورة هدى قراءتها لتجربة الوحدة إلى «الأهرام».. وها نحن نقدم فى هذا الملف تلخيصا لتلك الرؤية التى تقع فى خمسة فصول، والتى اعتمدت فيها الدكتورة هدى على خطب الزعيم جمال عبد الناصر فى هذه الفترة، والخطابات المتبادلة بينه وبين زعماء العالم وقادته. وكذلك الرسائل التى تلقاها وأرسلها الرئيس، ومحاضر اجتماعات مجلس الوزراء المصرى.. وغيرها.. فهيا إلى الملف :
السوريون طلبوها.. وناصر استجاب
فى الفصل الأول من أوراق الدكتورة هدى عبد الناصر، والذى حمل عنوان« قيام الوحدة وتداعياتها«، تستعرض اجتماع مجلس الوزراء المصرى، الذى رأسه عبد الناصر يوم 19 أكتوبر 1961 ، أى بعد الانفصال بعشرين يوما، وشرح ناصر فيه كيف كانت بشائر الوحدة .
قال ناصر إنه فوجىء- فى 14 يناير 1958 ( وكان آنذاك فى الأقصر برفقة رئيس أندونيسيا أحمد سوكارنو) بوصول طائرة سورية إلى مطار القاهرة وعلى متنها 20 ضابطا سوريا. وقد التقى الضباط بالمشير عبد الحكيم عامر، وأخطروه بأن سوريا فى خطر، وتقابلها كارثة، وهناك مخاوف من أن ينقض الشيوعيون على الحكم فى دمشق.. ورأوا أن الحل هو إتمام الوحدة مع مصر .
وفى اليوم التالى قابلهم ناصر. ورغم أنه أبلغهم بأنه لن يقبل إقامة وحدة بهذه السرعة لأن الوحدة يجب ألّا تقوم على أساس عاطفى، وأنها تحتاج إلى 5 سنوات، إلا أنهم أصروا وقالوا له إن سوريا ستضيع فهل سوريا لا تهمك؟.. وبعدها بعشرة أيام حضر الرئيس السورى شكرى القوتلى فى 26 يناير، وتم التوقيع على طلب الوحدة بين الرئيسين.. ثم أعلنت الوحدة رسميا فى مثل هذا اليوم قبل 57 سنة .
ومن هذا العرض لكلام عبد الناصر.. يتضح لنا أن عبد الناصر كان يرى ضرورة التروى والتدرج لإتمام الوحدة.. إلا أن السوريين هم الذين دفعوه دفعا إليها. فلنقرأ معا ما قاله عبد الناصر فى اجتماع مجلس الوزراء.. قال:« الجيش والحكومة يطلبان الوحدة، ونحن فى مصر تزعمنا حركة القومية العربية، ونطالب بالوحدة العربية ثم نرفضها حين تعرض علينا؟ إن حجة هؤلاء فى طلب الوحدة أنها إذا لم تتم فسوف تضيع سوريا «.
وتأخذنا الدكتورة هدى عبد الناصر بعد ذلك إلى عنوان فرعى يقول« بدأت الوحدة.. وظهر التآمر«.. فتقول إن الوحدة فرضت من الجيش السورى.. وقد بدأت العناصر الموجودة- التى طلبت الوحدة- كل منها يريد استخدام الوحدة لتحقيق هدفه؛ الرأسماليون والبعثيون ورجال الجيش.. إلا أن الرئيس عبد الناصر رفض أن تكون الوحدة مطمعا أو مغنما لأى كان؛ فمصر لها مبادىء تسير عليها .
لقد انكشفت إذن العناصر المضادة للوحدة.. وهى: 1_ الدول الغربية التى أقامت الاتحاد الهاشمى بين العراق والأردن فى فبراير58 للوقوف فى وجه الاتحاد المصرى السورى. 2_ العناصر السياسية فى سوريا كالرأسمالية والأقليات؛ كالتركمان والأكراد وغيرهم. 3_ المعسكر الشرقى والشيوعية العربية. 4_ الرجعية العربية .
.. ثم حاولت واشنطن استمالة ناصر !
لو أننا عدنا إلى ما قبل إعلان الوحدة بعدة أشهر.. لوجدنا أن مصر كانت قد رفضت مشروع أيزنهاور، الذى أطلقته الولايات المتحدة لتدعيم تدخلها فى الشرق الأوسط. وقال وزير الخارجية الأمريكى دالاس:« لابد من درس قاس لعبد الناصر.. هذا المشاغب فى الشرق الأوسط، الذى يحاول أن يغير الأوضاع فى منطقة عاشت قرنين على الأقل تحت نفوذ الغرب!«. وكان تحليل دالاس للموقف فى بداية 1957 أن القومية العربية هى شحنة البارود فى القنبلة، وناصر هو إبرة التفجير!«.. فماذا فعلت أمريكا؟
.. عند قيام الوحدة ، اعتبرت واشنطن أن تداعيات الوحدة تحقق مساوىء طويلة المدى بالنسبة لمصالحها، منها تسهيل السيطرة المصرية على العالم العربى.. ومن ثم إحداث تأثير معاكس على الأنظمة العربية الموالية للغرب، وانتشار الحياد الإيجابى الذى تعارضه الولايات المتحدة.. وأخيرا تعقيد المشكلة الفلسطينية. إلا أن الميزة الوحيدة للوحدة- التى توازن هذه المساوىء على المدى الطويل- هى الإقصاء الكامل للنفوذ الشيوعى فى سوريا .
ومن جانب آخر، فإن الوحدة سوف تعقد العلاقات المصرية السورية مع إسرائيل، وتعرض الدول العربية الأخرى- خاصة الأردن- لضغوط للانضمام إليها، وتبعد تأثير السعودية عن سوريا، وتقلق حكومتى العراق وتركيا، اللتين لا ترحبان بسيطرة ناصر على حدودهما .
وبعد حوالى شهر من إعلان الوحدة، حاولت أمريكا جذب ناصر إلى صفها؛ فأفرجت عن أموال مصر المجمدة لديها، وقررت برنامجا للمعونة الأمريكية على عدة مراحل، وتبع ذلك برنامج لتبادل الأفراد بين الدولتين. وقد تعهدت واشنطن لناصر بألا تتدخل فى الشئون الداخلية للجمهورية العربية المتحدة، وألا تبحث فى إقالته هو أو نظامه
.. وطبعا إسرائيل قالت «لا » !
أما بالنسبة للموقف الإسرائيلى، فإنه كان من الطبيعى أن تعادى إسرائيل مشروع الوحدة بين مصر وسوريا. لقد كانت إسرائيل تعلم- بكلام قادتها- أن وحدة العرب تستطيع أن تمكنهم من التصدى لها؛ وقال بن جوريون إن الاتفاقية العسكرية بين مصر وسوريا ستجعل إسرائيل كالجوزة فى كسارة البندق ! .
وهكذا افتعلت إسرائيل تهديدا للجمهورية العربية المتحدة، بعد سنة واحدة من الوحدة، وتعللت بنشاط الفدائيين على الحدود مع سوريا، وقامت بحشد قواتها.. فأمر عبد الناصر بحشد القوات المصرية فى سيناء.. ومن ثم نجح فى إنهاء التهديد الإسرائيلى.. وأيضا أثارت إسرائيل مشكلة حول مرور سفنها فى قناة السويس، وافتعلت حادث السفينة الدانمركية« إنجه توفت«.. إلا أن هذه اللعبة الإسرائيلية لم تفلح أيضا .
.. ورفضتها الأردن أيضا !
وفى الأردن، اعتبر الملك حسين أن الدولة الجديدة(الجمهورية العربية المتحدة) تشكل تهديدا خطيرا، ليس فقط على الأردن ولبنان، وإنما على الشرق الأوسط كله. وعلى الفور بادر الملك حسين بطرح فكرة إقامة تنظيم من دول عربية أخرى؛ السعودية والعراق ولبنان والأردن. وبالفعل تم الإعلان- فى عمّان فى 14 فبراير 1958- عن إنشاء الاتحاد العربى، بين العراق والأردن .
وهنا قد يكون لافتا التذكير بموقف الرئيس عبد الناصر من هذا الاتحاد، حيث رحب به، وأرسل برقية تهنئة إلى الملك فيصل.. وأكد ناصر أن أى اتحاد عربى سيكون قوة لكل العرب .
.. ثم دخلت القوات الأمريكية إلى بيروت !
تأخذنا الدكتورة هدى عبد الناصر- فى الفصل الثانى من قراءتها تداعيات إعلان الوحدة المصرية السورية - إلى واحدة من أخطر الأزمات التى مرّت بالعرب فى هذا الوقت؛ وهى الأزمة اللبنانية، فتقول إن كميل شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية حينئذ شعر بالقلق من تأثير تلك الوحدة على سكان لبنان المسلمين، فطلب من الولايات المتحدة تحريك وحدات من الأسطول الأمريكى إلى شرق البحر المتوسط. ولم يكتف شمعون بذلك بل حاول أن يعاد انتخابه مدة رئاسية ثانية، وهو الأمر الذى يخالف الدستور اللبنانى، إلا أن واشنطن تحفظت على محاولات تعديل الدستور اللبنانى لتمكين شمعون من غرضه .
وبطبيعة الحال، تحركت القوى الإسلامية فى لبنان لإفشال خطة شمعون.. واجتمعت المعارضة.. وطالبت بضرورة استقالته.. فطالب شمعون أمريكا بالتدخل العسكرى، فمضت فى خطة عسكرية سرية تهدف إلى التدخل مع الجيش البريطانى فى لبنان.. واتضح للجميع أن الحكومة الأمريكية هى التى توجه كل هذا التخطيط. وقد انتهى الأمر بتراجع كميل شمعون عن تعديل الدستور .
غير أنه وقعت مفاجأة من العيار الثقيل للغرب وللعالم، وهى قيام ثورة العراق فى 14 يوليو 1958 التى قتل فيها الملك العراقى فيصل الثانى، وولى عهده، ونورى السعيد، وفاضل الجمالى، وكثير من المسئولين العراقيين فى ذلك الوقت.. فانقلبت الموازين فى الشرق الأوسط. لقد بدا منذ اللحظة الأولى أن هذه الثورة معادية للغرب، وموالية لعبد الناصر فى توجهاتها.. ومن ثم كان على أمريكا أن تسارع بالتدخل .
لقد قال أيزنهاور أمام قادة الكونجرس إن ما يحدث فى لبنان هو حرب أهلية يثيرها ناصر، وأن الولايات المتحدة لا تستطيع ضمان حرية لبنان إذا لم تتدخل.. وبالفعل وصلت القوات الأمريكية إلى بيروت فى 16 يوليو 1958
وقد تلقى الرئيس عبد الناصر أنباء الثورة العراقية والغزو الأمريكى لبيروت وهو على متن السفينة «الحرية» ومعه أسرته وهو عائد من بريونى بيوغوسلافيا، فأصدر أوامره بإعلان التعبئة العامة فى الجمهورية العربية المتحدة، كما اعترف بالنظام الجديد فى بغداد. وبعد 4 أيام من ثورة العراق، أعلن ناصر فى خطاب ألقاه فى دمشق:« إننا نسالم من يسالمنا.. ونعادى من يعادينا.. وإن عادونا فإننا سنقاتل حتى آخر قطرة فى دمائنا.. هذا هو سبيلنا.. وهذا هو شعارنا «.
ثم كانت الأزمة مع خروشوف !
وفى الفصل الثالث، وفى 28 صفحة- نقرأ مع الدكتورة هدى تفاصيل الأزمة بين عبد الناصر ورئيس الوزراء السوفيتى فى تلك الفترة خروشوف. تقول: إن الأزمة بدأت عندما هاجم ناصر الحزب الشيوعى السورى، فى خطابه الجماهيرى، فى عيد النصر ببور سعيد، فى 23 ديسمبر 1958( أى بعد عشرة شهور من قيام الوحدة)، وقال إن هذا الحزب يعمل ضد الوحدة والقومية العربية .
كان عبد الناصر يرى أن الشيوعيين فى سوريا يتبعون سياسة معادية للحكومة فى الجمهورية العربية المتحدة، سواء فى الإقليم الشمالى( مصر) أو فى الجنوبى( سوريا)، وبدأوا يعملون بخطة موحدة ضد الوحدة. وكانت هناك اتصالات بين شيوعيى سوريا ومصر والعراق والأردن .
وقد اتخذ ناصر العديد من الإجراءات ضد الشيوعيين فى مصر وسوريا؛ منها اعتقال العناصر النشيطة بمصر، وإخراج العناصر الشيوعية من النقابات، واعتقال عناصرهم بالريف .
الأزمات الدولية.. عقبة فى طريق الوحدة
تأخذنا الدكتورة هدى عبد الناصر، فى الفصل الرابع من رؤيتها - الذى حمل عنوان« دولة الوحدة والأزمات والقضايا العربية والدولية- إلى عومل أخرى خارجية ساعدت على إنهاء هذه التجربة الوحدوية الرائدة؛ ومن بينها أزمات الكونغو، وكوبا، والكويت، و تداعيات تطورالقضية الفلسطينية.. فتقول :
.. إنه بشأن أزمة الكونغو، فإن عبد الناصر كان قد أعلن منذ اليوم الأول لثورة 23 يوليو، أن مصر تؤيد حقوق إفريقيا وشعوبها من أجل الاستقلال. ومن هذا المنطلق أعلن ناصر تأييد الشعب المصرى لشعب الكونغو وحقه فى التخلص من الاستعمار، ومن ثم فقد أيدت مصر الرئيس الشرعى باتريس لومومبا فى مواجهة الرئيس مويس تشومبى المدعوم من الغرب. غير أن تشومبى قتل لومومبا بنفسه، فانفجرت ثورة الشعب هناك.. وكانت مصر مع الشعب.. وفى هذا السياق تستعرض الدكتورة هدى الرسائل المتبادلة بين ناصر وكيندى حول الأزمة .
وبالنسبة لما جرى فى كوبا.. فقد أيّد الرئيس ناصرثورة فيديل كاسترو فى مواجهة الإمبريالية الأمريكية.. والتقى ناصر كاسترو مرتين فى نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للمنظمة الدولية سنة 1960، وصرح كاسترو آنذاك بأن ناصر كان مصدر قوة روحية وأدبية لرجاله، وبأنه استمد كثيرا من شجاعته من الطريقة التى صمدت بها مصر فى وجه العدوان الثلاثى؛ البريطانى الفرنسى الإسرائيلى، على مصر فى 1956 . وهنا تستعرض الدكتورة هدى خطاب كينيدى الذى عاتب فيه عبد الناصر على موقفه من الأزمة الكوبية.. وأيضا رد ناصر على كينيدى.. وطبعا ما كانت واشنطن لتنسى هذا الموقف لعبد الناصر ضدها فى كوبا !
وأما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فمعلوم للجميع أن ثورة المصريين فى 23 يوليو تبنت قضية الشعب الفلسطينى، وهو الأمر الذى ما كان للغرب، ولا للولايات المتحدة، أن يسامحا عبد الناصر عليه.. ومن ثم كان التكتل ضد مصر لإفشال التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا. فإذا انتقلنا إلى أزمة محاولة العراق ضم الكويت فى عام 1961 فسنجد أن الجمهورية العربية المتحدة كانت ضد هذا الضم منذ البداية، وأصدرت بيانا أكدت فيه أنها لا تقبل منطق الضم، وأنها على استعداد لبذل كل جهدها لتأييد منطق الوحدة الشاملة.. والمهم أن موقف عبد الناصر من هذه القضية كان بمنزلة تنبيه جديد لقوى الغرب بأن ناصر لا يمكن السكوت على ما يمثله فى المنطقة العربية.. ودفعت الوحدة بين مصر وسوريا الثمن !
.. ثم كان الانفصال !
فى الفصل الخامس والختامى لدراسة الدكتورة هدى عبد الناصر عن تجربة الوحدة بين مصر وسوريا - الذى جاء بعنوان« مؤامرة الانفصال« - تستعرض كيف انتهت تلك الوحدة، وتفاصيل الانفصال.. وتعود بنا إلى فجر 28 سبتمبر 1961 عندما تمردت مجموعة من الضباط السوريين فى معسكر قطنة قرب دمشق. وقد انتقل ناصر إلى دار الإذاعة المصرية.. وتحدث للشعب فقال:« ما هو موقفنا الآن؟ إننا نريد تجنب سفك الدماء.. اليوم أشعر بالأسى، لأنى لا أتصور أن تسفك دماء العرب بيد العرب.. لكننى فى الوقت نفسه أقول« ستبقى الجمهورية العربية المتحدة طليعة الكفاح العربى ».
إلا أن عبد الناصر - بعد أن سيطرت قوات الانفصال على حلب واللاذقية - راح يشرح للشعب أن الموقف كان يستدعى التفكير؛ هل يسفك الدم العربى بيد العربى؟ هل يتقاتل العربى مع العربى؟ ولمصلحة من نسفك الدماء وهناك أعداء يتربصون؟ وفى خطاب آخر قال:« هناك من يقول وهل نحن طلبنا الوحدة؟ هم الذين طلبوا الوحدة، وهذا حقيقى، ولكنّا أمة عربية واحدة.. وهل نحن نادمون على كل ما فعلناه؟ أبدا.. لم نندم لأننا استجبنا إلى ضميرنا، إلى عروبتنا، إلى روحنا.. ولكن أجد من واجبى فى هذه اللحظات أن أرفع صوتى محذرا؛ إن هذه الجمهورية يجب أن تبقى دائما قلعة للقومية العربية، وسندا للحرية العربية.. إن الوحدة إرادة شعبية، ولن أرضى من جانبى بأن أحوّل الوحدة إلى عملية عسكرية ..«.
وفى النهاية تقول الدكتورة هدى:« إن الانفصال السورى عن مصر جاء نتيجة لعوامل متعددة؛ داخلية وخارجية، منها أخطاء فى العمل السياسى، والعداء للوحدة فى المنطقة من النظم العربية الرجعية، وكذلك من الغرب والشرق. لقد رفض الجميع الوحدة خوفا من أن تكون مقدمة لنشأة دولة عربية كبرى معادية للاستعمار والشيوعية.. ومع ذلك فإن تلك التجربة الوحدوية ستظل علما فى التاريخ العربى المعاصر.. ويحسب لناصر أنه لم يفرضها بالقوة.. وكان قادرا على ذلك.. ولكنه اشترط الإجماع الشعبى لاستمرارها.