Home News Arabic and International

قائد المصري الغائب الحاضر.. ماذا فعل لنا وماذا فعلنا به؟

تشويه عصر عبد الناصر كان جسر العبور إلي الثروة والنفوذ

 تشويه عصر عبد الناصر كان جسر العبور إلي الثروة والنفوذ

مرت ذكري رحيل عبد الناصر، هذا العام، والظروف العامة، مصريا وعربيا، لم تختلف كثيرا عن سوابقها في أعوام خلت، حسني مبارك ما زال متشبثا بالسلطة، وحرمه استطاعت السيطرة علي كافة مفاتيح الحكم، وتشير معلومات خاصة إلي أن حرم الرئيس تعتبر أن ترتيباتها ومخططها هو ما أنجح التمديد ، وهي علي ثقة بأنها ستنجح في توريث الحكم لإبنها. ولم يكن لكل هذا أن يتحقق بدون الالتزام بمخطط التفتيت والتقسيم والحروب الأهلية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي ورعايته، أو بدون توفير الغطاء الشرعي للاحتلال الأنكلو أمريكي للعراق، وبغير الغطاء العربي للحل الشاروني في التعامل مع القضية الفلسطينية.
وإذا كان هذا هو واقع الحال فلماذا نكتب عن هذه الذكري هذا العام، مع عدم ميلنا إلي الكتابة عن الذكري والذكريات، فالقيم والمبادئ أو تمثل السير ليس عملا موسميا، إنما هي سلوك وعمل دؤوب لترجمة هذه القيم والمبادئ إلي مواقف تجسدها، وسبب كسر هذه القاعدة هو لقاءين تما يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين. الأول كان لزوار من القاهرة يطلبون المشورة فيما وصلت إليه عملية الإفقار المنظم للبلاد، الذي تجاوز طاقة وقدرة أي جماعة أو جمعية، صغيرة أو كبيرة علي مواجهته أو علاجه. وكان اللقاء الثاني مع واحد من السفراء العرب المرموقين، وذوي المكانة والمخضرمين، ممن عاشوا فترة المد القومي، وتابعوا دور مصر المؤثر في الوطن العربي والعالم عن قرب.. حمل حديثه نبرة عتاب موجهة للمصريين علي موقفهم من عبد الناصر وانجازاته ومواقفه، وحكي عن نماذج مصرية تعامل معها، لا تذكر الرجل بالخير أبدا، وتستغرب كثيرا حب العرب له ، وهو الذي خرب مصر علي حد تعبيرهم.
صورتان تبدوان متناقضتين، وهما، في الحقيقة، وجهان لعملة واحدة. فالذين انتهزوا فرصة زيارتهم للندن طلبا للرأي والنصيحة في أمر لا يمكن السكوت عليه، كانوا أكثر استغرابا من سلوك بعض المستفيدين من مكاسب عصر عبد الناصر، ومنهم من لا يختلف، في رأيه، عن هؤلاء الذين تعامل معهم ذلك الدبلوماسي العربي المرموق، وهم هنا لا يمارسون إلا احتقار الذات، وإنكار أوضاعهم السابقة بالإساءة لعبد الناصر، الذي أنصفهم، كأبناء فلاحين وعمال وصغار كسبة ومتوسطي حال وطبقة وسطي، وهذا في جانب منه نكران لكفاح الأهل، وعدم الاعتراف بفضلهم وبما انعكس عليهم من هذه التحولات من حراك نقلهم من شرائح محدودي الدخل إلي حياة ذوي المكانة العلمية والوظيفية، ولولا هذه التحولات، وطموح الأهل وتحملهم، واستثمارهم للفرص التي أتاحتها ما كان هؤلاء قد احتلوا مكانتهم الحالية وأوضاعهم الجديدة، والمؤسف أن عداء هؤلاء لذويهم وأسرهم أشد وأنكي من عدائهم لعبد الناصر، أو عداء الإقطاعيين ولصوص الانفتاح والخصخصة له.
هذا يعكس مستويين للصورة، داخليا وخارجيا، فالقادمون من الداخل نقلوا ما يجري هناك، والسفير العربي، نقل صورة أخري مكملة تابعها وعايشها من الخارج، وهذا يكشف وجهين لعهدين، واحد ارتفع بالطموح إلي عنان السماء، وآخر نزل به إلي الحضيض. حكي الزوار ما شاهدوه وعايشوه في عشوائيات القاهرة، في منشية ناصر و الأبجية ، باعتبارهما نموذجين للعشوائيات الأخري، التي تحيط بالقاهرة وعواصم المحافظات.. انتشر الفقر والإهمال بفعل غياب الدولة وفساد مسؤوليها واستبداد رئيسها وعائلته.. قلة استحوذت علي القصور والمنتجعات، والإقطاعيات والعزب، والقري السياحية وفنادق النجوم الخمس، وتركت لباقي الشعب البطالة والفقر والجهل والمرض والموت.. مما نشر السل والجزام والفشل الكلوي والكبد الوبائي والسرطان بين سكان هذه العشوائيات، فيموتون بلا حساب، في أزقة هذه الأحياء المحرومة من أي نوع من الخدمة أو الرعاية.
وقالوا، كشهود عيان، أنهم وجدوا من يبحثون عن صناديق الورق المقوي القديمة، ليفترشوا بها الأرض، العارية الأسمنتية، الباردة الرطبة، فإمكانياتهم لا تسمح لهم بشراء فرش أو غطاء، ولو كان مستهلكا، وهذا الفقر المدقع استقطب جماعات التبشير، التي بدأت تقدم خدماتها، وهذا يجري علي مسافة ليست بعيدة عن قلب العاصمة.
تحركت نساء قادرات، ومن بين متوسطي الحال، جمعن المال وطلبن من بعض أصحاب المهن تدريب الصبيان والفتيات علي أعمال تساعدهم علي تحسين أحوالهم. مثل البياض والحياكة والبناء والحدادة، وجمعن بعض المبالغ الصغيرة، التي مكنت البعض من شراء سلع صغيرة تباع علي قارعة الطريق. وأخذن في تعليم الأطفال القراءة والكتابة، وهن بصدد شراء مبني في قلب المنطقة، يحولنه إلي مركز للخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية، وهن في خوف شديد من الجهات الرسمية والأمنية، من أن تمنع مثل هذه الأنشطة وتضع العراقيل أمامها.
تذكر الجميع عبد الناصر، الذي ما كان يقبل بتفشي هذا الإفقار المذل، وما كان يتحمل هذا الإهدار المتعمد لآدمية المواطنين، من سكان العشوائيات والقري النائية والمقابر، وهو الذي كانت له عبارة شهيرة، يقولها عندما يشاهد عمال التراحيل. فكان يقول: عندما أري هؤلاء أشعر أننا لم نفعل ما يكفي، أما الوجه الآخر الذي كشفه السفير العربي المخضرم، بحكم علاقاته وظروفه وخبرته، كان وجها لأناس لا علاقة لهم بالشعب.. انفصلوا عنه يكرهونه ويحقدون علي فقرائه ومحدودي الدخل فيه، يعاقبونهم لأنهم أيدوا عبد الناصر وكانوا سنده ومصدر قوته وصانعي شعبيته الجارفة، وكان هذا الصنف من البشر لا يملك حولا ولا طولا أمام شخصية ذلك الزعيم الطاغية، وظاهرته الفريدة. كانوا يرونه وهو يغوص في بحر الشعب، ويحلق في فضائه، ويتوحد مع مطالبه، ومهما كان حجم وعدد الحجاب والحراس، ما استطاعوا أبدا الفصل بينه وبين الشعب. انحاز للفقراء وقاد كفاحهم، فدعموه في شدته ومحنته، ومنذ أن رحل من خمسة وثلاثين عاما لم نر حاكما ينزل إلي الشارع أو يحتك بالناس.
سيدي السفير: هؤلاء الذين آلموك وأغضبوك ليسوا في حقيقتهم أعداء لعبد الناصر إنما هم موالو وأتباع وخدم للقوي التي تعودت علي إذلال الأمة واغتصاب أرضها والاستيلاء علي خيراتها، إنهم ليسوا أْعداء فرد، أنهم مرتعدون من كل ما يرمز إليه عبد الناصر من قيم المقاومة والتحرير، ومن دوره كمدافع صلب عن كرامة الشعب وعزة الأمة.. وكان عيبه، من وجهة نظرهم، أنه مهموم بالشعب ومستقبل الأمة، ومشغول بالتحرر من الاستعمار وتوفير الحياة الكريمة للمواطن، وواع لأهمية غلق أبواب التفريط والتبعية والعمالة والهوان في وجوه هؤلاء، وقد سمحوا لأنفسهم أن يزيفوا الحقائق والتاريخ، لأن ذلك تحول ليكون أكبر مصادر الغني والثراء، وتسابقوا إلي المساهمة في الحملة علي عبد الناصر، العصر والفكرة والتوجه، لأن هذه المساهمة كانت أوراق الاعتماد المطلوبة للدخول إلي عالم النفوذ والتبعية.. فزادوا من ادعاءاتهم عن خطاياه وتجاوزاته. وتأثر كثيرون بهذه الدعاية السوداء، ومن أدار حملات التزييف والتشويه انطلقوا من أوكار ودهاليز القوي التي تربصت بالرجل وما يمثل، وكانت أهم هذه الأوكار في بعض العواصم العربية، وفي لندن وواشنطن وتل أبيب.
لقد كانت عيوب عبد الناصر، من وجهة نظرهم، هي نفس ميزاته التي أحبه الشعب من أجلها، بناء السد العالي لإبعاد شبح المجاعة عن مصر، وهم يريدونها جائعة معدمة، ووزع الأراضي علي فلاحيها، وهم يريدونها كاملة لهم، وأقام مجتمعا منتجا، وهم يريدونه مجتمعا هامشيا متسولا مستهلكا، يئن من وطأة شروط المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي، بوصفاتهما، التي دمرت اقتصاديات الدول الفقيرة والصغيرة، حرر بلاده وهم يريدونها مستباحة أمام جحافل الاحتلال العائدة إلي المنطقة، تطلع إلي وحدة الأمة، وهم يتولون تفتيتها وتقسيمها، وأراد المساواة والعدل الاجتماعي، وهم يريدون شعبا من العبيد والأقنان. وبدأ يؤلمهم كثيرا أن من يقفون في مقدمة صفوف الأجيال الجديدة، المتصدية للفساد والاستبداد والتوريث، يرفعون الرايات التي استظل بها عبد الناصر، ومنهم من استطاع بوعيه وصلابته أن يفتح أبواب الحوار والتفاهم مع التيارات الوطنية، ولم يقع أي منهم في شراك المال وزواجه الباطل من السياسة والحكم.
بني المصانع واستصلح الأراضي الزراعية، وجعل العمل حقا يوفره المجتمع، أما هم فقد باعوا ما بناه وحولوه إلي أطلال، في عصره تحرر الوطن العربي.. من المغرب والجزائر حتي اليمن والخليج، ولم يبق يوم رحيله غير الأرض التي احتلت بعد 1967 وفلسطين، التي ما زالت ترزح تحت نير نظام الفصل العنصري، ولو استمر نهجه وطريقه لكان ذلك النظام العنصري الصهيوني قد تفكك قبل نظام الأبارتايد في جنوب افريقيا، وهم لا يكررون ولا يرددون إلا ما يقوله سادتهم عنه، وحكاية من الحكايات التي رواها السفير العربي المخضرم تكفي للتدليل علي ذلك.. قال عن سفير بريطاني، كان يوصف بأنه صديق عبد الناصر، وهو ادعاء أكدته صحف ومطبوعات عربية وغربية.. كان هذا السفير البريطاني في زيارة بلد خليجي، في السبعينات، وعند مقابلته لعدد من شباب هذا البلد، سألهم، بخبث، ما اسم هذا الشارع؟. فردوا بحماس: إنه شارع جمال عبد الناصر، وما هذا البناء الذي أراه؟ قالوا: إنها ساحة تعد لوضع تمثال له، فقال لهم كيف تطلقون اسم قاتل علي شارع في بلدكم وتقيمون له تمثالا.. لقد قتل 50 ألف يمني، ورد عليه الشباب بما يستحق من رد، وانتهي الموقف بمنع إقامة هذا التمثال.
هكذا فرض عبد الناصر نفسه علينا هذا العام، في وقت تشهد فيه مصر والمنطقة صحوة وطنية وقومية، تجاوزت تأثيرات الدعاية السوداء والحملات المغرضة، التي لم تتوقف.. وأصبح هذا الراحل العظيم بمثابة الغائب الحاضر رغم مرور 35 عاما علي رحيله بينما هناك حاضرون لكنهم غائبون.. بعد أن ماتوا سياسيا وأخلاقيا.. ودفنوا أنفسهم أحياء في توابيت ومدافن علي هيئة قصور وقلاع. لا يشعرون فيها بأحد، ولا يسمعون لعويل الجوعي ولا لأنين المرضي.. صم، بكم، عمي. يصدق فيهم قول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيا.. لكن لا حياة لمن تنادي !!