ترددت كثيراً وأنا أهم بالكتابة عن مناضل بحجم الراحل الكبير عبدالقوي العربي، لأسباب عديدة؛ أهمها معرفتي الحديثة بالفقيد، والتي لاتتجاوز مطلع العام ٨٩٩١م، وعدم إلمامي الكافي بمراحل حياته ونضاله وعطائه، بالإضافة الى صعوبة الكتابة عن رجل تكن له حباً واحتراماً كبيرين، وبُعيد فترة قصيرة من لحاقه بالرفيق الأعلى.
وبعد أن قررت الكتابة، واجهتني عقبة أخرى، وراودني سؤال ملح: ماذا سأكتب؟ وما الذي يمكنني تناوله في جوانب حياته الحافلة بالعطاء والتضحيات والإيثار؟ وما المواقف التي يمكن استحضارها وتذكرها في هذه السطور القصيرة؟
لن أكتب عن تاريخه النضالي ودوره البطولي في تفجير ثورة الـ٤١ من أكتوبر منذ انطلاق شرارتها الأعلى من جبال ردفان الباسلة، مسقط رأسه.
ولن أستطيع سرد بطولاته وعملياته الفدائية التي نفذها ضد المستعمرين، مع إخوانه المنضويين في إطار التنظيم الشعبي للقوى الثورية.
وليس بمقدوري عرض المعاناة والألم اللذين كابدهما فقيدنا الراحل، بعد رحيل المستعمر، وخلال حكم الحزب الواحد في جنوبنا الغالي.
كل ذلك وغيره سأتركه لزملاء الفقيد الراحل الذين مازالوا على قيد الحياة، والذين أنا على ثقة أنهم لن يتخلوا ولن يترددوا عن كشف تلك التفاصيل الهامة والأدوار البطولية الرائعة من حياته منذ بداية نشأته وانخراطه في العمل النضالي والفدائي ونشاطه السياسي.
كما قلت في البداية بأن معرفتي بالمرحوم لاتتجاوز مطلع العام ٨٩٩١م، حيث التقيته للمرة الأولى بمقر اللجنة المركزية للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري بصنعاء، وأتذكر نقاشاً كان يدور بين مجموعة من الشبان والطلاب في مجلس اللجنة المركزية، وبحضور الوالد المناضل عبدالغني ثابت محمد، أمد الله في عمره، ومنحه الصحة والعافية.
وأتذكر أني شاركت في النقاش الذي كان فيه صوت فقيدنا الراحل عالياً، وهو ينتقد السلبيات المنتشرة بين شباب اليوم، وتكاسلهم، وعدم مشاركتهم الفاعلة في مختلف نواحي الحياة، وتحديداً الجانب السياسي.
وأتذكر أيضاً كيف كان المرحوم حاداً في نقاشه، وهو يلوح بعصاه التي كان يحملها غالباً. ولفت نظره أثناء النقاش لهجتي (المناطق الوسطى)، وردودي الحادة أيضاً على ما طرحه، فسألني عن اسمي ومنطقتي، فأجبته باسمي وقلت له إني من مديرية دمت، فبدت ملامح الارتياح على وجهه، وبدأ يخبرني عن الأحداث التي شهدتها المناطق الوسطى، ومنها دمت، ويتحدث عن دور أبناء هذه المناطق في مرحلة السبعينيات والثمانينيات إبان الصراع بين نظامي الحكم في صنعاء وعدن. كما تحدث عن مديرية جبن وتواجد التنظيم الناصري فيها، معرباً عن عدم ارتياحه من مستوى أداء التنظيم في هذه المديرية، وعدم الاهتمام بها باعتبارها -حد وصفه- قلعة الناصرية. وسرد بعض أسماء المناضلين الناصريين من أبناء المناطق الوسطى؛ الذين قضوا نحبهم، والذين مايزالون على قيد الحياة.
لن أسهب في هذه التفاصيل، وإنما أردت أن أضع القارئ العزيز في صورة اللقاء الأول الذي عرفت فيه فقيدنا الغالي.
ومنذ ذاك اللقاء، تعززت علاقتي بالفقيد. وكم كنت أشعر بالسعادة البالغة حين ألتقي به، خصوصاً خلال الإعداد للدورة الانتخابية للمؤتمر العام التاسع، وأثناء انعقاد دورات اللجنة المركزية للتنظيم، وأستمع لتفاصيل عن حياة المناضلين والثوار الذين ساهموا في تفجير ثورة الـ٤١ من أكتوبر، والوصول الى الاستقلال، وكذلك مساندة ثورة ال٦٢ من سبتمبر. واستطعت أن أحصل على معلومات قيمة عن تلك المرحلة الهامة من تاريخ اليمن الحديث، لاسيما ما يتعلق بدور التنظيم الشعبي للقوى الثورية، وجبهة التحرير، وكذلك التهميش والتضييق والإيذاء الذي تعرض له منتسبو جبهة التحرير والتنظيم الشعبي، بعد تحقيق الاستقلال وانفراد الجبهة القومية في إدارة مقاليد البلاد بعد رحيل المستعمر البريطاني من عدن.
كما كان يحدثنا الفقيد الغالي عن الدور الكبير لثورة الـ٣٢ من يوليو وقائدها الزعيم جمال عبدالناصر.
وما كان يميز فقيدنا هو أسلوبه البسيط، ولغته السهلة في تقديم المعلومة، مما يجعلها أكثر استيعاباً وتشويقاً.
غير ذلك، كان الفقيد يتميز بصدق وحدته، وصراحته التي لاتعرف المهادنة والمراوغة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بأبناء الفكر والإطار التنظيمي الواحد.
وكم كان صوت الفقيد قوياً ومجلجلاً أثناء انعقاد دورات اللجنة المركزية، وحين اشتداد الاختلاف بين إخوة النضال حول قضية من القضايا، فالعربي كعادته دائماً لايعرف المجاملة، ولا يجيد مسك العصا من الوسط، بل يأخذها من طرفها، ويضرب دون تردد.
كان صوته عالياً في معظم الأحيان، كعلو هامته، وعلو إيمانه بقضيته، وصدق سريرته وشدة إخلاصه للفكر والمبادئ التي يحملها.
في العامين الأخيرين، فقدنا حضور الفقيد، وتردده على صنعاء، بعد أن أقعده المرض، وبات طريح الفراش، بعد تعرضه -رحمه الله- لجلطة دماغية.
وعلى الرغم من حالته الصحية الصعبة، إلا أنه ظل الى آخر لحظة من حياته، يتابع أخبار التنظيم، ويسأل عن أعضائه، ويتابع كافة مجريات الحياة السياسية بشكل مستمر.
ولا يفوتني هنا الإشارة لتقصير عديد من زملائه ورفاق نضاله في التواصل معه أثناء فترة مرضه.
والسبت الماضي، كانت ردفان على موعد مع عودة ابنها البار إليها، ليقيم حتى قيام الساعة. ردفان التي نشأ وترعرع فيها، وبدأ نشاطه السياسي وعمله النضالي من قراها وجبالها.. كانت على موعد تاريخي لمواراة جثمان أحد أبنائها المخلصين. وتجلى ذلك الحب والتقدير في الجموع الكبيرة التي خرجت لاستقبال الجثمان والصلاة عليه ومواراته الثرى.
رحم الله فقيدنا الغالي، وأسكنه فسيح جناته الى جوار الشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً.