يقع المهتم بتاريخ الجزيرة العربية في أرشيف الدولة الثعمانية علي وثائق تتناول قضية يهودي يدعي داوود سنتوب كان يقطن المنطقة الشرقية في اواخر القرن التاسع عشر الميلادي. يعتقد ان داوود هذا قدم الي الهفوف من بغداد بعد ان تمت سيطرة العثمانيين علي هذا الجزء من الجزيرة العربية 1871. سمح والي بغداد مدحت باشا لبعض اليهود بالهجرة الي هذه المنطقة، وبالفعل قدم داوود ليفتح مخبزا يبيع فيه الخبز والحلويات لعساكر السلطان المتواجدين حينها في هذه المنطقة. وبعد ان استتب الامر لداوود وفتح الله ابواب الرزق أمامه استطاع ان يستقدم بعض المساعدين وتطورت تجارته بشكل يتطلب توظيف مجموعة صغيرة من الخبازين. ذاع صيته في المنطقة لدرجة ان السلطة العثمانية قررت توظيفه لجمع الضرائب من السكان المحليين. لعب داوود دورا مهما في وظيفته الجديدة لكنه كان بعيدا عن اعين المراقبين الماليين للباب العالي اذ انه كان يصر علي ان يكتب سجلاته وعقوده ومدخوله باللغة العبرية، والتي لم يكن يفهمها معظم هؤلاء المراقبين. ويبدو ان الخباز داوود تحول الي شخصية مهمة في المنطقة فبالاضافة الي توفير الخبز وجمع الضرائب استطاع ان يطور تجارة جديدة خفية بعض الشيء.
كان داوود يزود البعض بالكحول هذا بالاضافة الي المتاجرة بالاسلحة المهربة. ادت هذه الاعمال التجارية المتفرقة الي نشوء مجموعة يهودية تقدر عددها بـ 34 شخصا ويبدو ان هذه الجالية اليهودية بقيت في المنطقة لفترة طويلة.
وفي يوم من الايام وبالتحديد الساعة الثالثة صباحا يوم 8 كانون الاول (ديسمبر) 1899 ظهر داوود فجأة ومعه مجموعة من قبضايات الجالية اليهودية امام منزل تاجر العطور عبد الله أبو جليجة يريدون الاخذ بالثأر. ومن الملاحظ ان هذه المجموعة اليهودية جاءت ومعها أحد العساكر العثمانيين. اعتقد داوود ان عبد الله العطار قد قتل احد افراد الجالية اليهودية والذي قد اختفي بعد ان التقي بعبد الله. داوود كان من المؤمنيين بقانون العين بالعين والسن بالسن لذلك جمع اصدقاءه طلبا للثأر.
ويبدو ان الامر تعقد اكثر عندما اختفي اثنان من خبازي داوود اليهود.
اختفاء هذان كان سببه تعرضهما للتوقيف من قبل الشرطة بعد ان هددا حرس الصفوف العثمانية بمسدس طالبين الدخول بعد ان أقفلت ابواب المدينة في موعدها المحدد كالعادة، ويبدو ان داوود كان يلعب دور عمدة الجالية وحاميها والمدافع عنها. انتهت قصة داوود وسقطت من الذاكرة التاريخية اذ أننا لا نعرف ما حصل لهذا الخباز، كل ما نعرفه ان جالية يهودية قد استقرت في المنطقة في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن التاسع عشر كانت قد جاءت تحت مظلة الدولة العثمانية سعيا وراء التجارة المشروعة وغير المشروعة.
اليوم ومن باب التجارة نفسها يعود اليهود الي الجزيرة العربية تحت مظلة النظام السعودي ومباركته. ومن الغريب في الامر ان هذا النظام هو ذاته الذي كان يبني شرعيته في السابق علي مقولات تطهير الجزيرة من الآخر، يهوديا كان أم مسيحيا هو نفسه الذي سيفتح ابوابه للتجارة اليهوديــــــة القادمة. النظام الذي يدعي خدمة الحرمين الشريفين هو نفسه الذي سيعيد اليهود الي خيبر.
بعد فشل الحل السياسي للقضية الفلسطينية والجهود الدبلوماسية المكثفة سيعود اليهود بتجارتهم وعن طريق المهنة التي ابدعوا فيها، ليس فقط في الشتات بل في اسرائيل نفسها هذه المرة، لن يأتوا خبازين او بائعين للخمور او مهربين للاسلحة كما فعل داوود في السابق بل سيأتون متسلحين بأقوي اقتصاد في المنطقة، هذا الاقتصاد يبحث منذ فترة طويلة عن سوق ذات قدرة شرائية واستهلاكية كبيرة كالسوق السعودية والخليجية والتي وحدها تملك قدرة فائقة علي استيعاب البضائع اليهودية. فبالاضافة الي تطور الصناعة الخفيفة والاستهلاكية استطاع الاقتصاد الاسرائيلي ان يطور صناعة التكنولوجيا وخاصة الالكترونية لسبب بسيط.
حسب تقرير الاكونوميست في 2005/11/12 تحتل اسرائيل المرتبة الثانية بعد كندا في عدد شركاتها التي تعرض اسهمها في سوق النازدك وتستقطب اسرائيل ايضا ضعفي الاموال التي تستقطبها اوروبا كلها والتي تستثمر في شركات التكنولوجيا. في عام واحد بلغت صادرات اسرائيل من التكنولوجيا 55% من مجموع الصادرات بينما كانت صادرات دول الـOECD لا تتجاوز 26% من حجم الصادرات الكلية. هذه الحقائق جعلت اسرائيل تتوج نفسها في منصب وادي السليكون الثاني. وان سألنا عن اسباب هذا النجاح فسنري ان هناك عدة عوامل خلفه حسب المصدر نفسه. اولا: يلعب الجيش الاسرائيلي المحرك الاول للاقتصاد التكنولوجي، اذ انه يستقطب الشباب ويكتشف الخبرات الشخصية ومن ثم يوجهها ويدربها كل حسب هواياته وطموحاته. فيشجع الجيش الطاقات البشرية لتكتشف ابعادا جديدة وتقوم بمشاريع مستقبلية تكون تحت سيطرة هؤلاء الشباب، وعندما تنتهي مدة خدمتهم العسكرية يدخلون الجامعات ليدرسوا الهندسة والالكترونيات وغيرها متسلحين بالخبرة العملية والقدرة علي حل معضلات التكنولوجيا. وينتج عن ذلك ان في اسرائيل 35 مهندسا لكل 10000 موظف بينما في بريطانيا مثلا هناك 28 مهندسا مقابل 10000 موظف.
علي خلفية هذا الاقتصاد ستكتسح التجارة الاسرائيلية اقتصاد الجزيرة والذي حتي يومنا هذا ما زال يعتمد علي سلعة واحدة فقط رغم محاولات سابقة للتعددية.
ستدخل اسرائيل تجاريا للجزيرة حسب تصريحات المسؤولين الامريكيين والاسرائيليين معا بينما يلهي النظام السعودي شعبه ويضلله عندما يلف ويدور حول التزامه بتعاليم الاسلام اذ انه حسب مقولاته فرض علي منظمة التجارة العالمية ان يعترفوا بخصوصيته كنظام لا يستطيع ان يستورد لحم الخنزير والمشروبات الكحولية. سبحان الله كيف ان هذه الخصوصية قد تقلصت واصبحت تعرف ويعرف بها عن طريق اللحومات والمشروبات المحرمة فقط لا غير.
عندها سيطمئن أهل الحل والعقد، وخاصة تلك الشريحة المسماة بعلماء الدين ان النجاسات لن تدخل الحدود الاقليمية ولن تفتك بالشباب وتغرر به، اما التجارة مع اليهود فهي حلال كيف لا وقد افتي بجواز الصلح مع اليهود مفتي الديار السعودية السابق عام 1993، لم يجرؤ النظام حينها علي اعلان الصلح ولكنه بقي يمني النفس باليوم الذي يتم فيه هذا الصلح.
النظام السعودي نظام جبان هو اليوم يختبئ وراء التجارة ومتطلبات الانضمام الي منظمة التجارة العالمية، لا يمتلك الجرأة علي الاعلان الرسمي عن مشاريع التطبيع وتبادل الدبلوماسيين، ينتظر حتي تسقط كل العقبات بفارغ الصبر فبعد دول الخليج الصغيرة جاء دور باكستان وغيرها من الدول الاسلامية. كل هذا التخفي والتستر يعكسان الاضطراب الذي يعيشه النظام والذي يضرب العلاقة بين الحاكم والمحكوم. عندما دخل داوود الي الهفوف جاء بشكل علني بل وبمباركة الوالي العثماني اذ ان مفهوم الامبراطورية كان يحتوي علي التعددية الدينية والعرقية عكس المفهوم الذي روجه النظام السعودي. هذا المفهوم بني منذ ايامه الاول علي مقولات ترفض التعددية بل تحاربها لذلك هو اليوم يعيد اليهود الي الجزيرة تحت ستار التجارة مع حرصه التام علي التعتيم علي هذا الامر. فبدلا من تصدر وسائل الاعلام السعودية لشرح تبعات الانـضمام الي منظمة التجارة وكيف هي بالضرورة تتطلب التجارة مع الدولة العبرية نراها تركز علي وجوب مقاطعة لحم الخنزير والكحول حرصا علي خصوصية البلد المزعومة. لن يأتي خباز اسرائيلي بل ربما يأتي رجل المخابرات والمدرب العسكري وغيره من ذوي الاختصاصات الأمنية ليعلم نظيره السعودي كيفية استعمال التكنولوجيا الجديدة والتي ستشتريها وزارة الدفاع فما علي عسكر الدولة السعودية الا البدء بالتأقلم مع الوضع الجديد، اذ انهم اعتادوا علي الاسلوب التعليمي الامريكي والبريطاني، واللذين ارتبطا بشراء المعدات العسكرية من هذين البلدين، فعندما تصل هذه المعدات الي الجزيرة تأتي ومعها طاقم التدريب الذي وحده يفك طلاسم آلة القتل والدمار، اما بعد سياسة الباب المفتوح المتوقعة مع اسرائيل فيجب علي العسكر المحلي تقبل المعلم الجديد وبلا شك سترسل اسرائيل اول ما ترسل يهودها ذوي الاصول العربية كيهود العراق وشمال افريقيا واليمن، رغم ان هؤلاء لم يصلوا بأعداد كبيرة الي ما وصله اليهود من ذوي الاصول الاوروبية، ولكن لا بأس ان تبدأ المحاولة، وربما تجد اسرائيل في مجتمعها من اليهود الذين يدعون اصولا وجذورا ضاربة العمق في الجزيرة العربية نفسها. ولن نستغرب ان ظهر علينا يهود خيبر وربما يهود جيزان وغيرهما من المدن يحاولون اعادة اكتشاف مواطنهم بيننا. وهل سيطالب هؤلاء بتعويضات عما خسروه من ارض ومال وغيرها في بلادنا؟ الله اعلم.
منذ اكثر من عقد ظهر كتاب اثار ضجة اعلامية كبيرة للكاتب اللبناني والمؤرخ المعروف كمال صليبي طرح نظرية مفادها ان المناطق المذكورة في الكتب اليهودية والحيوانات والنباتات ليست في فلسطين كما يزعم اليهود وانما هي تشير الي مناطق في الجزيرة العربية ذاتها. وان هذه الجزيرة هي موطن التوراة، وحدد كمال صليبي منطقة معينة تسمي اليوم بعسير، وبالتحديد من جيزان في الجنوب الي ليث في الشمال كموطن التوراة الحقيقي، متوصلا الي هذه النتيجة عن طريق تحليل لغوي يربط بين الجغرافيا والدين وبين اسماء قبائل يهودية وقبائل حالية تقطن هذه المنطقة. فمثلا اسم روبن اليهودي هو مستمد من قبيلة روابن، وسميون هم السماعنة، والليفي هم لؤي، وغاد هم الجدي، وآشر هم ذوو شري، الي ما هنالك من تشابهات. لا نعرف كيف كان وقع مثل هذا التنظير علي بني اسرائيل في فلسطين، ولكن نعلم ان هذه النظرية لقيت رفضا قاطعا في العالم العربي اذ انها ربما تمهد لما هو اكبر من تشابهات لغوية وجغرافية.
اليوم يعود اليهود الي الجزيرة تحت مظلة العولمة ومباركة النظام السعودي هذا النظام الذي لا يمتلك القرار ولا يأبه بالرأي العام الداخلي، يعتبر انضمامه الي منظمة دولية كمنظمة التجارة العالمية نصرا مبينا لكن هذا النصر جاء متأخرا خاصة بعد ان فقدت هذه المنظمة مصداقيتها، فالسعودية بانضمامها حسب عدة محللين هي تنفخ روحا في جسد قارب علي الذبول، والاجدر باعلامها ومجلس شوراها ان يناقشا تبعيات هذا الانضمام ويشرحا للمجتمع وخاصة الشركات المحلية الصغيرة والمتوسطة ما يجب عليها ان تفعله لتسهل هذا الانفتاح الاقتصادي. وربما يعتري بعض الشركات المحلية شيء من الارتباك والتذبذب في المرحلة القادمة والتي لم يتم تدريبها علي فهم ابعادها بعد. وليس هنا الا ان نطمئن خبازي الجزيرة العربية ان داوود لن يعود ولن يخبز الحلوي اليهودية المعروفة والتي وصفتها اكاديمية سعودية منذ اكثر من ثلاث سنوات علي انها مصنوعة عادة من دماء الاطفال غير اليهود متبنية بذلك مقولات مستمدة من بروتوكولات علماء صهيون هذه المقولات روجت في روسيا القيصرية ضد اليهود فتبنتها اكاديميتنا هذه وكأنها اكتشفت سرا من اسرار الخبز والعجن اليهـــودي، واعتقد انها خسرت وظيفتها او انها منعت من الكتابة بعد حملة اعلامية عليها، ماذا ستفعل هذه الاكاديمية اليوم بعد ان جاء نظامها بيهود خيبر انفسهم وليس خبزهم او حلواهم؟ ننصحها ان تحرق نسختها الخاصة من بروتوكولات علماء صهيون وتبدأ دراسة شروط الانضمام الي منظمة التجارة العالمية او ان تبدأ دروسا مكثفة باللغة العبرية، ربما عندها تستطيع ان تبتلع الحلوي التي زعمت يوما ما انها مخلوطة بالدماء.
كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية