تشاد ومشكلة دارفور‮: ‬التاريخ والواقع والنزاع

  • الوحدوي نت - أحمد صالح‮ ‬غالب الفقيه
  • منذ 17 سنة - Wednesday 29 November 2006
تشاد ومشكلة دارفور‮: ‬التاريخ والواقع والنزاع

نبذة تاريخية

في‮ ‬جذور كل نزاع تقف أحداث التاريخ شاهدة على اختماره البطيء ليتحول ويكتسب صورته المدمرة التي‮ ‬يعاني‮ ‬منها البشر،‮ ‬فقراء البشر وضعافهم على وجه الخصوص من الشيوخ والنساء والولدان والبنات‮.‬
ولكل مشكلة في‮ ‬العادة جذر تاريخي‮ ‬رئيس واحد،‮ ‬ثم طائفة من الفروع الجذرية المتنوعة‮. ‬ولهذا سأبدأ هذه المحاولة للتعريف بمشكلة دارفور،‮ ‬من الحديث عما عُرف بامبراطوريات الساحل‮.‬

امبراطوريات الساحل

في‮ ‬القرن الخامس قبل الميلاد،‮ ‬أدى تطوير تقنية صهرالحديد الى تطور واسع في‮ ‬الإنتاج الزراعي‮ ‬بمنطقة السافانا الجنوبية‮. ‬وفي‮ ‬القرن الخامس الميلادي‮ ‬أصبح الجمل وسيلة مواصلات سكان الصحراء في‮ ‬المنطقة،‮ ‬وهو ما أدى الى تسهيل بروز تجارة‮  ‬صحراوية لبضائع ومنتجات مثل الملح،‮ ‬الأحصنة،‮ ‬السلاح والخرز،‮ ‬الذي‮ ‬يرسل جنوباً،‮ ‬والعاج والعبيد،‮ ‬الذين‮ ‬يجلبون الى الشمال‮. ‬الفائض الزراعي،‮ ‬والسيطرة على التجارة،‮ ‬أوجدا مجتمعات‮ ‬غنية،‮ ‬بما فيها الممالك الثلاث،‮ ‬وهي‮: ‬مملكة كريم بورنو،‮  ‬ومملكة ودّاي،‮ ‬ومملكة البجيرمي‮.‬
وفي‮ ‬القرن التاسع الميلادي‮ ‬أسس‮ "‬الزغاوة‮" ‬الرعاة في‮ ‬مرتفعات‮ "‬عيندي‮"‬،‮ ‬حكومة مركزية حول مدينة‮ "‬كريم‮" ‬على الشواطئ الشمالية الشرقية لبحيرة تشاد‮. ‬وقد نمت امبراطورية كريم،‮ ‬وضمت إليها مجموعات أخرى،‮ ‬بما فيهم أقوام‮ "‬التوبو‮" ‬من مرتفات‮ "‬تيبستي‮". ‬ومن منتصف القرن الحادي‮ ‬عشر وحتى القرن التاسع عشر الميلادي،‮ ‬حكم‮ "‬الصفوة‮" ‬من سلالة‮ "‬كريمبو‮"‬،‮ ‬الذين‮ ‬يدعون الانحدار من الزغاوة،‮ ‬امبراطورية كريم‮. ‬وقد جلب التجار العابرون للصحراء الإسلام الى كريم،‮ ‬الذي‮ ‬انتشر بشكل واسع‮  ‬في‮ ‬القرن الحادي‮ ‬عشر‮.‬
وفي‮ ‬القرن الرابع عشر،‮ ‬وعقب نزاع داخلي،‮ ‬سمحت كريم لعرب‮ "‬البلالا‮" ‬بإسقاط الصفوة من الحكم،‮ ‬ففروا الى إقليم‮ "‬البورو‮" ‬في‮ ‬نيجيريا،‮ ‬حيث أنشأوا مملكة جديدة قوية‮.‬
وكانت مملكة كريم بورو قد امتدت في‮ ‬أوجها الى‮ "‬سونغاي‮" ‬في‮ ‬حوض النيجر‮ ‬غرباً،‮ ‬وإلى فزان في‮ ‬ليبيا شمالاً‮. ‬ولكن مناطقها الغربية سقطت في‮ ‬يد‮ "‬الفولاني‮"‬،‮ ‬من خلافة سوكوتو‮. ‬ثم تداعت كريم بورو نهائياً‮  ‬لتسقط على‮ ‬يد نهاب العبيد الشهير،‮ ‬السوداني‮ ‬رابح الزبير،‮ ‬العام ‮٣٩٨١‬م‮.‬
وبعيداً‮ ‬عن كريم بورو الى الشرق،‮ ‬أسس‮ "‬الطنجور‮" ‬مملكة ودّاي‮ ‬في‮ ‬القرن السادس عشر،‮ ‬وسنورد ذكرهم عندما نتحدث عن الطنجور فيما بعد‮. ‬وكانت وداي‮ ‬تدفع الجزية لمملكة كريم بورو ومملكة دارفور الأقوى منها،‮ ‬حتى تغير الحال بها وقويت وابتلعت المملكتين،‮ ‬كما سنفصله لاحقاً‮.‬
وفي‮ ‬العام ‮٥٣٨١‬م،‮ ‬استغلت مملكة دارفور الاضطرابات الداخلية في‮ ‬وداي،‮ ‬وقامت بغزوها،‮ ‬ولكنها سقطت بيد رابح الزبير عام ‮٠٩٨١‬م‮.‬
أما مملكة البجيرمي‮ ‬فقد كانت تقع جنوب شرق بورو،‮ ‬ولكنها لاتهمنا في‮ ‬حديثنا عن دارفور‮.‬
وفي‮ ‬القرن التاسع عشر،‮ ‬قام رابح الزبير بإنشاء امبراطورية تشمل كامل وسط القارة الأفريقية‮. ‬فبين عامي‮ ٠٨٨١ ‬و‮٠٩٨١‬م،‮ ‬هزم وضم ودّاي‮ ‬والبجيرمي،‮ ‬و"أداماوا‮" ‬في‮ ‬الكاميرون الحالية،‮ ‬وبورو،‮ ‬وغالبية جمهورية أفريقيا الوسطى الحالية‮. ‬وكانت عاصمته‮ "‬ديكوا‮" ‬جنوب بحيرة تشاد‮.‬

الغزو الأوروبي

في‮ ‬العام ‮٠٠٩١‬م،‮ ‬اتفق البريطانيون والفرنسيون على اقتسام امبراطورية رابح الزبير،‮ ‬وهذا الاقتسام هو جذر مشكلة دارفور تماماً،‮ ‬كما كانت سايكس بيكو جذر مشكلة فلسطين‮.‬
واجه الفرنسيون مقاومة شرسة من قبل رابح‮. ‬وبعد مناوشات متعددة،‮ ‬وفي‮ ‬معركة‮ "‬كوسيري‮" ‬العام ‮٠٠٩١‬م،‮ ‬قُتل رابح الزبير على‮ ‬يد جيش فرنسي‮ ‬ضخم هزم قواته،‮ ‬لتقع المنطقة كلها تدريجياً‮ ‬تحت السيطرة الفرنسية‮. ‬ففي‮ ‬العام ‮٠٠٩١‬م أصبحت تشاد جزءاً‮ ‬من أفريقيا الاستوائية الفرنسية‮. ‬وبعد ذلك بعقد من الزمان،‮ ‬أقام الفرنسيون إدارة مدنية في‮ ‬جنوبي‮ ‬تشاد‮. ‬ونظراً‮ ‬لعزلة تشاد الاقتصادية السياسية،‮ ‬وعدم أهميتها الاستراتيجية آنذاك،‮ ‬كانت معظم الوظائف في‮ ‬الإدارة المدنية تبقى شاغرة‮. ‬وأصبحت تشاد منفى للموظفين الفرنسيين المغضوب عليهم‮. ‬وقد فشل الفرنسيون في‮ ‬إخضاع الشمال التشادي‮ ‬الصحراوي،‮ ‬الذي‮ ‬بقي‮ ‬مستقلاً‮ ‬تقريباً‮ ‬بقيادة المجاهدين من آل السنوسي،‮ ‬على الرغم من أن المنطقة كانت من الناحية النظرية تتبع الحاكم العام في‮ "‬برازافيل‮" ‬حتى العام‭ ‬‮٦٤٩١‬م‮.‬
وقد اعتمد الفرنسيون بشكل كبير على المجندين التشاديين لمحاربة الانتفاضات في‮ ‬مستعمراتهم الاستوائية،‮ ‬كما استخدموا التشاديين في‮ ‬أعمال السخرة لدعم جهودهم الاستعمارية‮. ‬وعندما كان سكان القرى‮ ‬يهجرون قراهم فراراً‮ ‬من التجنيد أو السخرة،‮ ‬كان المتعاونون المحليون مع المستعمر‮ ‬يخطفون النساء والأطفال،‮ ‬ويصادرون الممتلكات المنقولة،‮ ‬لإجبار الرجال على العودة والخضوع‮. ‬وكانت القوات الفرنسية تقوم بإحراق المنازل والمحاصيل،‮ ‬لإجبار الناس على الخضوع لمطالبها بتوفير القوى العاملة والمجندين‮.‬
ركز الفرنسيون جهودهم على الجنوب‮. ‬وقد عمل عشرات الآلاف من التشاديين في‮ ‬تشييد خط السكة الحديدية من‮ "‬بوينت نوار‮" ‬الى‮ "‬برازافيل‮" ‬في‮ ‬الكونغو الديمقطراية الحالية‮. ‬وتوفي‮ ‬أكثر من نصف العمال نتيجة لظروف العمل الشاقة وانعدام الرعاية‮.‬
قام الاستعمار الفرنسي‮ ‬بضرب وتشويه الاقتصاد التشادي‮ ‬بصورة فظيعة،‮ ‬فتجاهلوا التجارة الصحراوية التي‮ ‬دامت قروناً،‮ ‬ودمروها بالضرائب الباهظة،‮ ‬وقتموا بشق طريق للسيارات على ساحل الأطلنطي،‮ ‬وتم إجبار التجارة الصحراوية على التحول إليها،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬أفقر السكان،‮ ‬وخاصة في‮ ‬شمال تشاد‮. ‬كما فرضت فرنسا ضريبة على الروؤس عام ‮٠١٩١‬م،‮ ‬بحجة جعل المستعمرات مكتفية ذاتياً،‮ ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬كانت بطبيعتها مكتفية ذايتاً‮ ‬قبل قدوم المستعمر‮. ‬واستخدموا حاصلات الضرائب لدفع رواتب الإدارة الفرنسية،‮ ‬وبناء طرق المواصلات التي‮ ‬تخدم رجال الأعمال الفرنسيين‮. ‬وقد أجبرت الضرائب الباهظة المزارعين في‮ ‬الجنوب على التحول الى زراعة المحاصيل النقدية،‮ ‬أو العمل في‮ ‬ملكيات الفرنسيين‮. ‬وكانوا‮ ‬يجبرون عن بيع القطن الى مؤسسة فرنسية احتكارية بأسعار بخسة‮. ‬وأدى الاعتماد القسري‮ ‬على زراعة القطن الى انتشار المجاعات في‮ ‬تشاد،‮ ‬كما دُمر النسيج الاجتماعي‮  ‬بإحلال علاقات السوق الفردية،‮ ‬محل المؤسسات المحلية التقليدية‮.‬
وقد تجاهل الفرنسيون الشمال التشادي،‮ ‬والممالك الساحلية‮. ‬وأدت الأعباء التي‮ ‬ألقوها على السكان الى هروب جماعي‮ ‬بين الحين والآخر شرقاً‮ ‬نحو دارفور،‮ ‬التي‮ ‬أصبحت مختلطة سكانياً‮ ‬مع التشاديين من إثنيات وقبائل متعددة‮. ‬وبذلك أسست فظائع الاستعمار الفرنسي‮ ‬للاضطرابات اللاحقة التي‮ ‬عانت وتعاني‮ ‬منها تشاد،‮ ‬ومعها دارفور،‮ ‬حتى‮ ‬يوم الناس هذا‮.‬

دارفور

تبلغ‮ ‬مساحة دارفور ‮٤٠٤‬،‮٩٦١ ‬أميال مربعة،‮ ‬أي‮ ‬خمس مساحة السودان،‮ ‬ويسكنها خمسة ملايين،‮ ‬ويحدها من الشمال الغربي‮ ‬ليبيا،‮ ‬ومن الغرب تشاد،‮ ‬ومن الجنوب الغربي‮ ‬جمهورية أفريقيا الوسطى‮.‬
كانت دارفور تاريخياً‮  ‬سلطنة مستقلة في‮ ‬غرب السودان،‮ ‬ومنذ ما قبل التاريخ المدون،‮ ‬كان سكان ما هو الآن دارفور،‮ ‬مرتبطين بسكان وادي‮ ‬النيل،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك مصر،‮ ‬والتي‮ ‬كانت قوافلها قد وصلت الى المنطقة منذ ‮٠٠٥٢ ‬قبل الميلاد‮.‬
وطبقاً‮ ‬للروايات القديمة،‮ ‬كان‮ "‬الداجو‮" ‬هم أوائل حكام المنطقة‮. ‬وقد انتشرت المسيحية في‮ ‬منطقة دارفور حوالي‮ ٠٠٩ ‬ميلادية،‮ ‬ولكن ما إن حل القرن الثالث عشر الميلادي،‮ ‬حتى كانت المنطقة قد وقعت تحت حكم الامبراطورية الإسلامية القوية التابعة لـ"كريم بورنو‮" ‬في‮ ‬الغرب،‮ ‬وهكذا حل‮ "‬الطنجور‮" ‬كنخبة حاكمة مكان‮ "‬الداجو‮".‬
وقد دخلت سلطنة دارفور الى التاريخ المدون لأول مرة،‮ ‬خلال القرن السابع عشر،‮ ‬في‮ ‬عهد السلطان سليمان،‮ ‬الذي‮ ‬ينتمي‮ ‬الى سلالة‮ "‬الخيرا‮" ‬العربية الأصل،‮ ‬والتي‮ ‬أزاحت‮ "‬الطنجور‮" ‬من السلطة‮. ‬وقد حكمت هذه السلالة دارفور حتى العام ‮٦١٩١‬م،‮ ‬باستثناء فترة قصيرة خلال القرن التاسع عشر‮.‬
واندمج‮ "‬الخيرا‮" ‬تدريجياً‮ ‬بشعب الفور الذي‮ ‬كانوا‮ ‬يحكمونه‮.‬
وقد كان لتجارة العبيد دور بارز خلال تأسيس وتوسع سلطنة دارفور،‮ ‬وكانت نخب سلطنة دارفور تحصل على العاج والعبيد إما بالتجارة عن طريق الشراء،‮ ‬أو عبر شن الغارات على المجتمعات التي‮ ‬لادولة لها،‮ ‬والواقعة الى الجنوب والجنوب الغربي‮ ‬من السلطنة‮.‬
ولم‮ ‬يكن حكام دارفور‮ ‬يصدرون العبيد الى شمالي‮ ‬أفريقيا عبر‮ "‬درب الأربعيين‮ ‬يوماً‮"‬،‮ ‬الذي‮ ‬يعبر الصحراء الواقعة بين دارفور ومصر فحسب،‮ ‬ولكنهم كانوا‮ ‬يقومون بتجنيد العبيد للعمل للسلطان كجنود،‮ ‬أو كعمال،‮ ‬وحتى كجزء من الإدارة البيروقراطية للسلطنة‮.‬
وفي‮ ‬العام ‮٦٨٧١‬م،‮ ‬قام السلطان محمد طيراب بغزو إقليم‮ "‬كردفان‮" ‬التابع لسلطنة‮ "‬الفونج‮"‬،‮ ‬التي‮ ‬تحكم من سنّار،‮ ‬والواقعة الى الشرق من دارفور‮. ‬وما إن حل العام ‮١٢٨١‬م،‮ ‬حتى‮ ‬غزت القوات المصرية سلطنة الفونج،‮ ‬وانتزعت كردفان من أيدي‮ ‬الدارفوريين‮. ‬وقد شرع التجار القادمون من الخرطوم حينئذ في‮ ‬منافسة الدارفوريين على تجارة العبيد‮. ‬ولم تلبث القوات المصرية التركية أن‮ ‬غزت دارفور تحت قيادة رحمة الزبير،‮ ‬العام ‮٤٧٨١‬م،‮ ‬وأسقطت سلطنة الخيرا،‮ ‬وأبعدتهم عن السلطة‮. ‬وفي‮ ‬العام ‮٥٨٨١‬م قامت ثورة المهدي‮ ‬التي‮ ‬أطاحت بالحكم المصري‮ ‬للسودان،‮ ‬وهو الحكم الذي‮ ‬كان قد أصبح تحت هيمنة النفود البريطاني‮. ‬ولكن البريطانيين تمكنوا من القضاء على دولة المهدي‮ ‬عام ‮٨٩٨١‬م،‮ ‬ووضعوا السودان كله تحت حكم الإدارة الإنجلومصرية‮. ‬وسيراً‮ ‬على نهجهم في‮ ‬الحكم‮ ‬غير المباشر،‮ ‬قام البريطانيون بإعادة إقامة سلطنة دارفور تحت حكم السلطان علي‮ ‬دينار زكريا‮. ‬وقد لعب علي‮ ‬دينار دوراً‮ ‬هاماً‮ ‬في‮ ‬تحالف إسلامي‮ ‬معادٍ‮ ‬للغرب‮ (‬مشروع الجامعة الإسلامية‮) ‬الذي‮ ‬تشكل بعد الحرب العالمية الأولى،‮ ‬فقامت الحكومة الإنجلومصرية في‮ ‬السودان بغزو دارفور،‮ ‬وقتلت دينار الذي‮ ‬شكل موته خاتمة تاريخ سلطنة دارفور‮. ‬وتم ضم دارفور نهائياً‮ ‬الى السودان،‮ ‬حيث أصبح‮  ‬جزءاً‮ ‬منه عند نيل السودان استقلاله العام ‮٦٥٩١‬م‮.‬

إثنية الطنجور

تنتمي‮ ‬إثنية الطنجور الى كل من‮ ‬غرب تشاد وشرق السودان‮. ‬وعلى الرغم من أن تعداد الطنجور قد تقلص الى حوالي‮ ‬العشرة آلاف نسمة،‮ ‬إلا أنهم حكموا سلطنة دارفور القوية مرة كما أسلفنا‮ (‬ولاشك أن الاسم مألوف للآذان اليمنية،‮ ‬إذ أن أبناء الجنوب‮ ‬يستخدمونه كشتيمة لمن هو أسود البشرة،‮ ‬فيقولون‮ "‬طنقوري‮"). ‬ولاتزال آثار قصور ومدن الطنجور واضحة المعالم في‮ ‬أنحاء دارفور الى اليوم‮. ‬ويعتقد بعض الدارسين أن الطنجور‮ ‬ينحدرون من سلالة من السكان النيليين الأصليين،‮ ‬على الرغم من ادعائهم الانتماء العربي،‮ ‬حيث‮ ‬يعيد تاريخهم الشفاهي‮ ‬أصلهم الى عرب تونس‮. ‬وقد تمكنوا من الحلول سلمياً‮ ‬كما‮ ‬يبدو محل‮ "‬الداجو‮" ‬كحكام لدارفور في‮ ‬القرن الثالث عشر،‮ ‬وكان‮ "‬الداجو‮" ‬مجموعة إثنية مجاورة لهم‮. ‬وكانت سلطنة دارفور الواسعة تتمحور حول مركزها مدينة‮ "‬أوري‮" ‬و"عين فرح‮" ‬في‮ ‬شمال دارفور،‮ ‬وتمتد الى‮ "‬ودّاي‮" ‬التي‮ ‬هي‮ ‬اليوم تشاد‮. ‬وقد أطيح بالطنجور على‮ ‬يد‮ "‬الخيرا‮"‬،‮ ‬وهي‮ ‬عشيرة قوية عربية الأصل اندمجت فيما بعد بشعب الإقليم‮ "‬الفور‮". ‬وبقي‮ ‬الطنجور‮ ‬يحكمون تشاد رغم الإطاحة بهم في‮ ‬دارفور،‮ ‬حتى القرن السابع عشر عندما قام‮ "‬المايا‮" ‬بطردهم وتأسيس دولة إسلامية‮.‬
ويعيش معظم الطنجور اليوم كمسلمين سنة في‮ ‬دارفور،‮ ‬وفي‮ ‬مناطق‮ "‬الكريم‮" ‬و"الوداي‮" ‬في‮ ‬تشاد‮. ‬كما تعيش أعداد قليلة منهم في‮ ‬نيجيريا‮. ‬وقد اندثرت لغة الطنجور الذين أصبح معظمهم اليوم‮ ‬يتحدثون لغة الفور أو العربية أو لغة البرتي‮. ‬وينقسمون في‮ ‬معيشتهم بين الزراعة والرعي‮.‬

شعب الفور

كما هو واضح،‮ ‬فإن تسمية دارفور تعني‮ ‬مسكن شعب الفور،‮ ‬وهم‮ ‬يعيشون في‮ ‬الجزء الغربي‮ ‬من إقليم دارفور،‮ ‬ويسود الاعتقاد أنهم‮ ‬ينتمون من الناحية الإثنية الى شعب وادي‮ ‬النيل‮.‬
وقد كان المبشرون المسيحيون المصريون قد جلبوا دينهم الى المنطقة حوالي‮ ٠٠٩ ‬ميلادية،‮ ‬ولكن هذا التأثير المسيحي‮ ‬المبكر سرعان ما تلاشى بعد وصول المسلمين الى المنطقة،‮ ‬في‮ ‬القرنين الثاني‮ ‬عشر والثالث عشر الميلاديين‮. ‬وقد درج الحكام المسلمون للمنطقة على وصف السكان الأصليين من‮ ‬غير المسلمين في‮ ‬الإقليم،‮ ‬باسم الفور‮.‬
وأدى التحول التدريجي‮ ‬لشعب الفور الى الإسلام،‮ ‬الى اندماج حكامه‮ (‬الخيرا‮) ‬به عن طريق التزاوج،‮ ‬وأصبح للفور هوية جديدة كشعب أفورعربي‮ ‬مسلم‮.‬

إثنية البرتي

يعيش‮ "‬البرتي‮" ‬في‮ ‬دارفور،‮ ‬ويبلغ‮ ‬تعدادهم حوالي‮ ‬المائة ألف،‮ ‬وينتمون الى القبيلة الأكبر الشلوخ أو الشلوك الجنوبية،‮ ‬ويتحدثون اللغة العربية‮.‬

إثنية البقارة

‮"‬البقارة‮" ‬قبائل رعوية عربية تسكن إقيلمي‮ ‬شمال دارفور وكردفان المتجاورين،‮ ‬وهم‮ ‬ينتمون الى قبائل السليم،‮ ‬والمسيرية،‮ ‬والتعايشة،‮ ‬والرشايدة،‮ ‬ويتكلمون اللغة العربية،‮ ‬وإحدى لهجات جهينة العربية‮. ‬ويبلغ‮ ‬تعدادهم المليون أو‮ ‬يزيد قليلا‮.‬

مشكلة دارفور الحالية

تاريخياً،‮ ‬كان هناك نوع من التكافل بين القبائل البدوية الرعوية العربية وشعب الفور المستقر المزارع‮. ‬ففي‮ ‬أوقات الجفاف‮ ‬ينزل الرعاة بقطعانهم الى المناطق الزراعية الخصبة في‮ ‬الجنوب،‮ ‬من مناطقهم الصحراوية في‮ ‬الشمال،‮ ‬ثم لايلبثون أن‮ ‬يعودوا الى مناطقهم‮. ‬وإذا اعتورت العلاقات بعض الاحتكاكات،‮ ‬فقد كانت تلك أموراً‮ ‬بسيطة‮ ‬يتم حلها،‮ ‬خاصة أن الأسلحة القديمة،‮ ‬وأغلبها رماح وسيوف،‮ ‬لم تكن تؤدي‮ ‬الى خسائر كبيرة،‮ ‬كما أن‮  ‬الإدارة الذاتية أو المحلية في‮ ‬دارفور،‮ ‬والتي‮ ‬تشكلت عقب سقوط سلطنة الفور الثانية وسلطانها علي‮ ‬دينار،‮ ‬على‮ ‬يد الإنجليز،‮ ‬كانت تقوم بفعالية كبيرة بحل المشاكل في‮ ‬الإقليم،‮ ‬خاصة وأن المتصارعين متجاورون وليسوا متساكنين ومختلطين‮.‬

إرهاصات التسييس‮ (‬نهضة دارفور‮)‬

في‮ ‬عهد الاستقلال في‮ ‬السودان،‮ ‬تمكن الحزب الاتحادي‮ (‬الختمية‮) ‬بقيادة آل الميرغني،‮ ‬من اكتساب موطئ قدم في‮ ‬دارفور،‮ ‬عبر التجارة التي‮ ‬كان‮ ‬يقوم بها من‮ ‬يسمون باسم‮ "‬الجلابة‮"‬،‮ ‬وأغلبهم موالون للحزب الاتحادي‮. ‬ونكاية بهم،‮ ‬قام منافسوهم من حزب الأمة‮ (‬الأنصار‮) ‬بقيادة آل المهدي،‮ ‬بالعمل على تأسيس حركة مطلبية باسم جبهة نهضة دارفور،‮ ‬تسعى الى الحد من نفوذ‮ "‬الجلابة‮". ‬واستمر ذلك خلال فترة الحكم العسكري‮ ‬للفريق إبراهيم عبود،‮ ‬الذي‮ ‬قام حزب الأمة بتسليم السلطة إليه‮ -‬أي‮ ‬الى الجيش‮- ‬نكاية بالاتحادي‮ ‬الذي‮ ‬كان على وشك الفوز في‮ ‬الانتخابات الوشيكة‮. ‬ولم تلبث حركة جبهة دارفور أن تلاشت،‮ ‬لتعقبها حركة‮ "‬سوني‮".‬

حركة سوني

أما حركة سوني‮ ‬فقد كانت ذات نزوع اشتراكي‮ ‬تعبر عن تنامي‮ ‬نفوذ الحزب الشيوعي‮ ‬السوداني‮ ‬في‮ ‬السودان‮. ‬وهي‮ ‬حركة مسلحة دعت الى وحدة إثنيات الفور‮: "‬المساليت‮" ‬و"الطنجور‮"‬،‮ ‬لقطع الطريق أمام‮ "‬الجلابة‮" ‬الذين اتسع نفوذهم،‮ ‬وأصبحت هيمنتهم وعشائريتهم مشكلة محسوسة‮.‬

حل الإدارة الذاتية

وفي‮ ‬مايو ‮٩٦٩١‬م،‮ ‬وصل جعفر نميري‮ ‬الى السلطة بانقلاب عسكري‮ ‬دعمه الشيوعيون والقوميون،‮ ‬وأصدر في‮ ‬العام ‮٠٧٩١‬م،‮ ‬أكثر قراراتها رعونة بحل الإدارة الذاتية في‮ ‬دارفور،‮ ‬ولم‮ ‬يوفر لها بديلاً،‮ ‬فعمت الفوضى الإدارية الإقليم‮.‬
وبعد الخلاف العنيف‮  ‬بين نميري‮ ‬والأحزاب التقليدية،‮ ‬الاتحادي‮ ‬والأمة،‮ ‬وخاصة حزب الأمة الذي‮ ‬تنتمي‮ ‬أسرته إليه تقليدياً،‮ ‬وقام بقصف معقل الحزب في‮ ‬جزيرة‮ "‬آبا‮"‬،‮ ‬تشكلت الجبهة الوطنية المناوئة لحكم نميري،‮ ‬ووجدت في‮ ‬نظام القذافي‮ ‬في‮ ‬ليبيا السند والممول‮. ‬وقد اتخذت الجبهة من دارفور وأهالي‮ ‬دارفور معتقلاً‮ ‬وجنوداً‮ ‬لها‮. ‬وعندما فشلت عملية الخرطوم الشهيرة،‮ ‬التي‮ ‬قامت بها الجبهة على شكل‮ ‬غزو بري‮ ‬بالسيارات الرباعية الدفع،‮ ‬انكفأت قواتها الى دارفور بتسليحها الكبير،‮ ‬لتبدأ عمليات النهب المسلح في‮ ‬الظهور في‮ ‬الإقليم،‮ ‬ابتداءً‮ ‬من العام ‮٩٧٩١‬م‮.‬
وفي‮ ‬العام ‮٣٨٩١‬م،‮ ‬بدأت الحروب الإثنية في‮ ‬الظهور‮.‬

ليبيا وتشاد

في‮ ‬ديسمبر ‮٠٨٩١‬م،‮ ‬دخل الجيش الليبي‮ ‬الى تشاد في‮ ‬ظل خلاف بين السودان وليبيا،‮ ‬فنزح ما‮ ‬يقرب من مليوني‮ ‬تشادي‮ ‬الى دارفور،‮ ‬وكثير منهم من المسلحين،‮ ‬فأصبحت المنطقة نهباً‮ ‬للفوضى والعصابات المسلحة من الوافدين،‮ ‬وأهالي‮ ‬المنطقة‮. ‬وأخذت التدخلات الحزبية والدولية تنشئ وتدعم فصائل مسلحة تتبع كلاً‮ ‬منها،‮ ‬وتتصارع عبرها‮.‬

ما بعد نميري

بعد سقوط حكم نميري،‮ ‬ضرب الجفاف شمال دارفور لعدة أعوام،‮ ‬فنزحت جموع قبائل الرعاة بقطعانها الى الجنوب،‮ ‬في‮ ‬عملية استقرار دائم هذه المرة،‮ ‬وأخذت قطعانها تتلف الأراضي‮ ‬المزروعة،‮ ‬فنشبت الحروب بين الرعاة والزراع‮. ‬وفي‮ ‬العام ‮٧٨٩١‬م،‮ ‬بلغ‮ ‬عدد الهجمات المسلحة المسجلة،‮ ‬أكثر من ألف بلاغ‮. ‬وقد سعت حكومة المهدي‮ ‬في‮ ‬العهد‮ "‬الديمقراطي‮ ‬القصير‮"‬،‮ ‬الى ترتيب مؤتمر بهدف نزع الأسلحة في‮ ‬الإقليم،‮ ‬وإجراء صلح بين القبائل،‮ ‬ولكنها سقطت بانقلاب البشير قبل عقد المؤتمر‮.‬

حكومة البشير

في‮ ٠٣‬يونيو ‮٩٨٩١‬م،‮ ‬حدث انقلاب عسكري‮ ‬بقيادة الرئيس الحالي‮ ‬حسن البشير،‮ ‬وحليفه من وراء الستار الشيخ حسن الترابي‮. ‬وسعت حكومة البشير الى استئناف ما بدأت به حكومة المهدي،‮ ‬وعقد مؤتمر الصلح بين الرعاة العرب والمزارعين الفور،‮ ‬على أساس نزع السلاح‮. ‬وجمعت منه كميات ضئيلة،‮ ‬وساد في‮ ‬المنطقة قدر من الهدوء‮. ‬ولكن عصابات النهب المسلح ظلت تواصل هجماتها التي‮ ‬أدت الى تأجيج الفتن التي‮ ‬بدأت بالظهور مرة أخرى‮.‬
وكانت حكومة البشير اتخذت لها شعارات رومانسية عن الوحدة الإسلامية،‮ ‬وسمحت بدخول أي‮ ‬مسلم بدون تأشيرة،‮ ‬كما تفعل إسرائيل مع اليهود‮. ‬وأنشأ الترابي‮ ‬المؤتمر الشعبي‮ ‬الإسلامي‮ ‬العالمي،‮ ‬فبدا السودان كما لو كان قد أصبح بؤرة لقيادة الحركات الجهادية الإسلامية،‮ ‬في‮ ‬ظل تنامي‮ ‬الحركات الإسلامية المسلحة في‮ ‬دول الجوار وضد الغرب،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬عجل بتشكيل جبهة دولية بقيادة الولايات المتحدة،‮ ‬عملت على زعزعة الأوضاع في‮ ‬السودان ديبلوماسياً‮ ‬وعسكرياً‮ ‬واقتصادياً‮. ‬وأصبحت دارفور،‮ ‬كما جنوب السودان،‮ ‬ساحة لعمل هذه الجبهة الدولية‮.‬
وفي‮ ‬نوفمبر ‮١٩٩١‬م،‮ ‬عملت الحركة الشعبية الجنوبية،‮ ‬بإيحاء من الجبهة الدولية،‮ ‬على تجهيز حملة الى دارفور بقيادة داوودي‮ ‬يحيى بولاد‮. ‬وقد استعدت الحكومة السودانية لمواجهتها،‮ ‬وتم إبادة الحملة،‮ ‬ولكن بعد أن قامت الحكومة بتسليح القبائل العربية بشكل واسع‮. ‬ويبدو أن الحملة الجنوبية كانت تعتمد على إثنية‮ "‬البرتي‮" ‬الدارفورية،‮ ‬التي‮ ‬تنتمي‮ ‬الى‮ "‬الشلوك‮".‬
وحدث استقطاب قبلي‮ ‬وإثني‮ ‬وسياسي‮ ‬جاد في‮ ‬دارفور،‮ ‬أدى الى ظهور ميليشيات قبلية تحولت الى حركات سياسية،‮ ‬وكانت إحداها‮ -‬لسخرية الأقدار‮- ‬تتبع الدكتور حسن الترابي،‮ ‬الشيخ الذي‮ ‬تمرد عليه مريدوه العسكريون في‮ ‬حكومة البشير‮.‬
ونشأت حركة مسلحة أخرى ذات توجه علماني،‮ ‬تنسب الى الحزب الشيوعي‮ ‬المحظور،‮ ‬كان أبرز إنجازاتها العسكرية حرق مطار الفاشي‮ ‬مع كل الطائرات فيه،‮ ‬واتهمت حكومة البشير إسرائىل بدعم الحركات المناوئة لها‮.‬
وقد استنفرت الحكومة القبائل العربية،‮ ‬وبدأت هجمات واسعة على المعارضة التي‮ ‬كانت من قبائل الفور الزراع‮. ‬وظهرت ظاهرة‮ "‬الجنجويد‮"‬،‮ ‬وتعنى‮ "‬جني‮ ‬على جواد‮"‬،‮ ‬في‮ ‬إشارة الى الفارس العربي‮ ‬المسلح‮. ‬وأدت هذه الهجمات الى نزوح واسع للمزارعين،‮ ‬نتيجة للقتل والنهب الشامل الذي‮ ‬مورس في‮ ‬قرى المزارعين‮. ‬وهكذا نشأت مشكلة اللاجئين في‮ ‬دارفور‮.‬
ومن الواضح أن الجهود الديبلوماسية الدولية لازالت‮ ‬غير قادرة على تقديم الحلول،‮ ‬مع ظهور الأطماع الأمريكية‮  ‬في‮ ‬ثروات المنطقة،‮ ‬حيث تسعى الى فرض الوصاية على الإقليم تحت راية الأمم المتحدة،‮ ‬بدلاً‮ ‬من دعم القوات التابعة للاتحاد الأفريقي،‮ ‬وزيادة عديدها،‮ ‬وهو ما ترفضه حكومة السودان بإصرار‮.‬