نبذة تاريخية
في جذور كل نزاع تقف أحداث التاريخ شاهدة على اختماره البطيء ليتحول ويكتسب صورته المدمرة التي يعاني منها البشر، فقراء البشر وضعافهم على وجه الخصوص من الشيوخ والنساء والولدان والبنات.
ولكل مشكلة في العادة جذر تاريخي رئيس واحد، ثم طائفة من الفروع الجذرية المتنوعة. ولهذا سأبدأ هذه المحاولة للتعريف بمشكلة دارفور، من الحديث عما عُرف بامبراطوريات الساحل.
امبراطوريات الساحل
في القرن الخامس قبل الميلاد، أدى تطوير تقنية صهرالحديد الى تطور واسع في الإنتاج الزراعي بمنطقة السافانا الجنوبية. وفي القرن الخامس الميلادي أصبح الجمل وسيلة مواصلات سكان الصحراء في المنطقة، وهو ما أدى الى تسهيل بروز تجارة صحراوية لبضائع ومنتجات مثل الملح، الأحصنة، السلاح والخرز، الذي يرسل جنوباً، والعاج والعبيد، الذين يجلبون الى الشمال. الفائض الزراعي، والسيطرة على التجارة، أوجدا مجتمعات غنية، بما فيها الممالك الثلاث، وهي: مملكة كريم بورنو، ومملكة ودّاي، ومملكة البجيرمي.
وفي القرن التاسع الميلادي أسس "الزغاوة" الرعاة في مرتفعات "عيندي"، حكومة مركزية حول مدينة "كريم" على الشواطئ الشمالية الشرقية لبحيرة تشاد. وقد نمت امبراطورية كريم، وضمت إليها مجموعات أخرى، بما فيهم أقوام "التوبو" من مرتفات "تيبستي". ومن منتصف القرن الحادي عشر وحتى القرن التاسع عشر الميلادي، حكم "الصفوة" من سلالة "كريمبو"، الذين يدعون الانحدار من الزغاوة، امبراطورية كريم. وقد جلب التجار العابرون للصحراء الإسلام الى كريم، الذي انتشر بشكل واسع في القرن الحادي عشر.
وفي القرن الرابع عشر، وعقب نزاع داخلي، سمحت كريم لعرب "البلالا" بإسقاط الصفوة من الحكم، ففروا الى إقليم "البورو" في نيجيريا، حيث أنشأوا مملكة جديدة قوية.
وكانت مملكة كريم بورو قد امتدت في أوجها الى "سونغاي" في حوض النيجر غرباً، وإلى فزان في ليبيا شمالاً. ولكن مناطقها الغربية سقطت في يد "الفولاني"، من خلافة سوكوتو. ثم تداعت كريم بورو نهائياً لتسقط على يد نهاب العبيد الشهير، السوداني رابح الزبير، العام ٣٩٨١م.
وبعيداً عن كريم بورو الى الشرق، أسس "الطنجور" مملكة ودّاي في القرن السادس عشر، وسنورد ذكرهم عندما نتحدث عن الطنجور فيما بعد. وكانت وداي تدفع الجزية لمملكة كريم بورو ومملكة دارفور الأقوى منها، حتى تغير الحال بها وقويت وابتلعت المملكتين، كما سنفصله لاحقاً.
وفي العام ٥٣٨١م، استغلت مملكة دارفور الاضطرابات الداخلية في وداي، وقامت بغزوها، ولكنها سقطت بيد رابح الزبير عام ٠٩٨١م.
أما مملكة البجيرمي فقد كانت تقع جنوب شرق بورو، ولكنها لاتهمنا في حديثنا عن دارفور.
وفي القرن التاسع عشر، قام رابح الزبير بإنشاء امبراطورية تشمل كامل وسط القارة الأفريقية. فبين عامي ٠٨٨١ و٠٩٨١م، هزم وضم ودّاي والبجيرمي، و"أداماوا" في الكاميرون الحالية، وبورو، وغالبية جمهورية أفريقيا الوسطى الحالية. وكانت عاصمته "ديكوا" جنوب بحيرة تشاد.
الغزو الأوروبي
في العام ٠٠٩١م، اتفق البريطانيون والفرنسيون على اقتسام امبراطورية رابح الزبير، وهذا الاقتسام هو جذر مشكلة دارفور تماماً، كما كانت سايكس بيكو جذر مشكلة فلسطين.
واجه الفرنسيون مقاومة شرسة من قبل رابح. وبعد مناوشات متعددة، وفي معركة "كوسيري" العام ٠٠٩١م، قُتل رابح الزبير على يد جيش فرنسي ضخم هزم قواته، لتقع المنطقة كلها تدريجياً تحت السيطرة الفرنسية. ففي العام ٠٠٩١م أصبحت تشاد جزءاً من أفريقيا الاستوائية الفرنسية. وبعد ذلك بعقد من الزمان، أقام الفرنسيون إدارة مدنية في جنوبي تشاد. ونظراً لعزلة تشاد الاقتصادية السياسية، وعدم أهميتها الاستراتيجية آنذاك، كانت معظم الوظائف في الإدارة المدنية تبقى شاغرة. وأصبحت تشاد منفى للموظفين الفرنسيين المغضوب عليهم. وقد فشل الفرنسيون في إخضاع الشمال التشادي الصحراوي، الذي بقي مستقلاً تقريباً بقيادة المجاهدين من آل السنوسي، على الرغم من أن المنطقة كانت من الناحية النظرية تتبع الحاكم العام في "برازافيل" حتى العام ٦٤٩١م.
وقد اعتمد الفرنسيون بشكل كبير على المجندين التشاديين لمحاربة الانتفاضات في مستعمراتهم الاستوائية، كما استخدموا التشاديين في أعمال السخرة لدعم جهودهم الاستعمارية. وعندما كان سكان القرى يهجرون قراهم فراراً من التجنيد أو السخرة، كان المتعاونون المحليون مع المستعمر يخطفون النساء والأطفال، ويصادرون الممتلكات المنقولة، لإجبار الرجال على العودة والخضوع. وكانت القوات الفرنسية تقوم بإحراق المنازل والمحاصيل، لإجبار الناس على الخضوع لمطالبها بتوفير القوى العاملة والمجندين.
ركز الفرنسيون جهودهم على الجنوب. وقد عمل عشرات الآلاف من التشاديين في تشييد خط السكة الحديدية من "بوينت نوار" الى "برازافيل" في الكونغو الديمقطراية الحالية. وتوفي أكثر من نصف العمال نتيجة لظروف العمل الشاقة وانعدام الرعاية.
قام الاستعمار الفرنسي بضرب وتشويه الاقتصاد التشادي بصورة فظيعة، فتجاهلوا التجارة الصحراوية التي دامت قروناً، ودمروها بالضرائب الباهظة، وقتموا بشق طريق للسيارات على ساحل الأطلنطي، وتم إجبار التجارة الصحراوية على التحول إليها، الأمر الذي أفقر السكان، وخاصة في شمال تشاد. كما فرضت فرنسا ضريبة على الروؤس عام ٠١٩١م، بحجة جعل المستعمرات مكتفية ذاتياً، وهي التي كانت بطبيعتها مكتفية ذايتاً قبل قدوم المستعمر. واستخدموا حاصلات الضرائب لدفع رواتب الإدارة الفرنسية، وبناء طرق المواصلات التي تخدم رجال الأعمال الفرنسيين. وقد أجبرت الضرائب الباهظة المزارعين في الجنوب على التحول الى زراعة المحاصيل النقدية، أو العمل في ملكيات الفرنسيين. وكانوا يجبرون عن بيع القطن الى مؤسسة فرنسية احتكارية بأسعار بخسة. وأدى الاعتماد القسري على زراعة القطن الى انتشار المجاعات في تشاد، كما دُمر النسيج الاجتماعي بإحلال علاقات السوق الفردية، محل المؤسسات المحلية التقليدية.
وقد تجاهل الفرنسيون الشمال التشادي، والممالك الساحلية. وأدت الأعباء التي ألقوها على السكان الى هروب جماعي بين الحين والآخر شرقاً نحو دارفور، التي أصبحت مختلطة سكانياً مع التشاديين من إثنيات وقبائل متعددة. وبذلك أسست فظائع الاستعمار الفرنسي للاضطرابات اللاحقة التي عانت وتعاني منها تشاد، ومعها دارفور، حتى يوم الناس هذا.
دارفور
تبلغ مساحة دارفور ٤٠٤،٩٦١ أميال مربعة، أي خمس مساحة السودان، ويسكنها خمسة ملايين، ويحدها من الشمال الغربي ليبيا، ومن الغرب تشاد، ومن الجنوب الغربي جمهورية أفريقيا الوسطى.
كانت دارفور تاريخياً سلطنة مستقلة في غرب السودان، ومنذ ما قبل التاريخ المدون، كان سكان ما هو الآن دارفور، مرتبطين بسكان وادي النيل، بما في ذلك مصر، والتي كانت قوافلها قد وصلت الى المنطقة منذ ٠٠٥٢ قبل الميلاد.
وطبقاً للروايات القديمة، كان "الداجو" هم أوائل حكام المنطقة. وقد انتشرت المسيحية في منطقة دارفور حوالي ٠٠٩ ميلادية، ولكن ما إن حل القرن الثالث عشر الميلادي، حتى كانت المنطقة قد وقعت تحت حكم الامبراطورية الإسلامية القوية التابعة لـ"كريم بورنو" في الغرب، وهكذا حل "الطنجور" كنخبة حاكمة مكان "الداجو".
وقد دخلت سلطنة دارفور الى التاريخ المدون لأول مرة، خلال القرن السابع عشر، في عهد السلطان سليمان، الذي ينتمي الى سلالة "الخيرا" العربية الأصل، والتي أزاحت "الطنجور" من السلطة. وقد حكمت هذه السلالة دارفور حتى العام ٦١٩١م، باستثناء فترة قصيرة خلال القرن التاسع عشر.
واندمج "الخيرا" تدريجياً بشعب الفور الذي كانوا يحكمونه.
وقد كان لتجارة العبيد دور بارز خلال تأسيس وتوسع سلطنة دارفور، وكانت نخب سلطنة دارفور تحصل على العاج والعبيد إما بالتجارة عن طريق الشراء، أو عبر شن الغارات على المجتمعات التي لادولة لها، والواقعة الى الجنوب والجنوب الغربي من السلطنة.
ولم يكن حكام دارفور يصدرون العبيد الى شمالي أفريقيا عبر "درب الأربعيين يوماً"، الذي يعبر الصحراء الواقعة بين دارفور ومصر فحسب، ولكنهم كانوا يقومون بتجنيد العبيد للعمل للسلطان كجنود، أو كعمال، وحتى كجزء من الإدارة البيروقراطية للسلطنة.
وفي العام ٦٨٧١م، قام السلطان محمد طيراب بغزو إقليم "كردفان" التابع لسلطنة "الفونج"، التي تحكم من سنّار، والواقعة الى الشرق من دارفور. وما إن حل العام ١٢٨١م، حتى غزت القوات المصرية سلطنة الفونج، وانتزعت كردفان من أيدي الدارفوريين. وقد شرع التجار القادمون من الخرطوم حينئذ في منافسة الدارفوريين على تجارة العبيد. ولم تلبث القوات المصرية التركية أن غزت دارفور تحت قيادة رحمة الزبير، العام ٤٧٨١م، وأسقطت سلطنة الخيرا، وأبعدتهم عن السلطة. وفي العام ٥٨٨١م قامت ثورة المهدي التي أطاحت بالحكم المصري للسودان، وهو الحكم الذي كان قد أصبح تحت هيمنة النفود البريطاني. ولكن البريطانيين تمكنوا من القضاء على دولة المهدي عام ٨٩٨١م، ووضعوا السودان كله تحت حكم الإدارة الإنجلومصرية. وسيراً على نهجهم في الحكم غير المباشر، قام البريطانيون بإعادة إقامة سلطنة دارفور تحت حكم السلطان علي دينار زكريا. وقد لعب علي دينار دوراً هاماً في تحالف إسلامي معادٍ للغرب (مشروع الجامعة الإسلامية) الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى، فقامت الحكومة الإنجلومصرية في السودان بغزو دارفور، وقتلت دينار الذي شكل موته خاتمة تاريخ سلطنة دارفور. وتم ضم دارفور نهائياً الى السودان، حيث أصبح جزءاً منه عند نيل السودان استقلاله العام ٦٥٩١م.
إثنية الطنجور
تنتمي إثنية الطنجور الى كل من غرب تشاد وشرق السودان. وعلى الرغم من أن تعداد الطنجور قد تقلص الى حوالي العشرة آلاف نسمة، إلا أنهم حكموا سلطنة دارفور القوية مرة كما أسلفنا (ولاشك أن الاسم مألوف للآذان اليمنية، إذ أن أبناء الجنوب يستخدمونه كشتيمة لمن هو أسود البشرة، فيقولون "طنقوري"). ولاتزال آثار قصور ومدن الطنجور واضحة المعالم في أنحاء دارفور الى اليوم. ويعتقد بعض الدارسين أن الطنجور ينحدرون من سلالة من السكان النيليين الأصليين، على الرغم من ادعائهم الانتماء العربي، حيث يعيد تاريخهم الشفاهي أصلهم الى عرب تونس. وقد تمكنوا من الحلول سلمياً كما يبدو محل "الداجو" كحكام لدارفور في القرن الثالث عشر، وكان "الداجو" مجموعة إثنية مجاورة لهم. وكانت سلطنة دارفور الواسعة تتمحور حول مركزها مدينة "أوري" و"عين فرح" في شمال دارفور، وتمتد الى "ودّاي" التي هي اليوم تشاد. وقد أطيح بالطنجور على يد "الخيرا"، وهي عشيرة قوية عربية الأصل اندمجت فيما بعد بشعب الإقليم "الفور". وبقي الطنجور يحكمون تشاد رغم الإطاحة بهم في دارفور، حتى القرن السابع عشر عندما قام "المايا" بطردهم وتأسيس دولة إسلامية.
ويعيش معظم الطنجور اليوم كمسلمين سنة في دارفور، وفي مناطق "الكريم" و"الوداي" في تشاد. كما تعيش أعداد قليلة منهم في نيجيريا. وقد اندثرت لغة الطنجور الذين أصبح معظمهم اليوم يتحدثون لغة الفور أو العربية أو لغة البرتي. وينقسمون في معيشتهم بين الزراعة والرعي.
شعب الفور
كما هو واضح، فإن تسمية دارفور تعني مسكن شعب الفور، وهم يعيشون في الجزء الغربي من إقليم دارفور، ويسود الاعتقاد أنهم ينتمون من الناحية الإثنية الى شعب وادي النيل.
وقد كان المبشرون المسيحيون المصريون قد جلبوا دينهم الى المنطقة حوالي ٠٠٩ ميلادية، ولكن هذا التأثير المسيحي المبكر سرعان ما تلاشى بعد وصول المسلمين الى المنطقة، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. وقد درج الحكام المسلمون للمنطقة على وصف السكان الأصليين من غير المسلمين في الإقليم، باسم الفور.
وأدى التحول التدريجي لشعب الفور الى الإسلام، الى اندماج حكامه (الخيرا) به عن طريق التزاوج، وأصبح للفور هوية جديدة كشعب أفورعربي مسلم.
إثنية البرتي
يعيش "البرتي" في دارفور، ويبلغ تعدادهم حوالي المائة ألف، وينتمون الى القبيلة الأكبر الشلوخ أو الشلوك الجنوبية، ويتحدثون اللغة العربية.
إثنية البقارة
"البقارة" قبائل رعوية عربية تسكن إقيلمي شمال دارفور وكردفان المتجاورين، وهم ينتمون الى قبائل السليم، والمسيرية، والتعايشة، والرشايدة، ويتكلمون اللغة العربية، وإحدى لهجات جهينة العربية. ويبلغ تعدادهم المليون أو يزيد قليلا.
مشكلة دارفور الحالية
تاريخياً، كان هناك نوع من التكافل بين القبائل البدوية الرعوية العربية وشعب الفور المستقر المزارع. ففي أوقات الجفاف ينزل الرعاة بقطعانهم الى المناطق الزراعية الخصبة في الجنوب، من مناطقهم الصحراوية في الشمال، ثم لايلبثون أن يعودوا الى مناطقهم. وإذا اعتورت العلاقات بعض الاحتكاكات، فقد كانت تلك أموراً بسيطة يتم حلها، خاصة أن الأسلحة القديمة، وأغلبها رماح وسيوف، لم تكن تؤدي الى خسائر كبيرة، كما أن الإدارة الذاتية أو المحلية في دارفور، والتي تشكلت عقب سقوط سلطنة الفور الثانية وسلطانها علي دينار، على يد الإنجليز، كانت تقوم بفعالية كبيرة بحل المشاكل في الإقليم، خاصة وأن المتصارعين متجاورون وليسوا متساكنين ومختلطين.
إرهاصات التسييس (نهضة دارفور)
في عهد الاستقلال في السودان، تمكن الحزب الاتحادي (الختمية) بقيادة آل الميرغني، من اكتساب موطئ قدم في دارفور، عبر التجارة التي كان يقوم بها من يسمون باسم "الجلابة"، وأغلبهم موالون للحزب الاتحادي. ونكاية بهم، قام منافسوهم من حزب الأمة (الأنصار) بقيادة آل المهدي، بالعمل على تأسيس حركة مطلبية باسم جبهة نهضة دارفور، تسعى الى الحد من نفوذ "الجلابة". واستمر ذلك خلال فترة الحكم العسكري للفريق إبراهيم عبود، الذي قام حزب الأمة بتسليم السلطة إليه -أي الى الجيش- نكاية بالاتحادي الذي كان على وشك الفوز في الانتخابات الوشيكة. ولم تلبث حركة جبهة دارفور أن تلاشت، لتعقبها حركة "سوني".
حركة سوني
أما حركة سوني فقد كانت ذات نزوع اشتراكي تعبر عن تنامي نفوذ الحزب الشيوعي السوداني في السودان. وهي حركة مسلحة دعت الى وحدة إثنيات الفور: "المساليت" و"الطنجور"، لقطع الطريق أمام "الجلابة" الذين اتسع نفوذهم، وأصبحت هيمنتهم وعشائريتهم مشكلة محسوسة.
حل الإدارة الذاتية
وفي مايو ٩٦٩١م، وصل جعفر نميري الى السلطة بانقلاب عسكري دعمه الشيوعيون والقوميون، وأصدر في العام ٠٧٩١م، أكثر قراراتها رعونة بحل الإدارة الذاتية في دارفور، ولم يوفر لها بديلاً، فعمت الفوضى الإدارية الإقليم.
وبعد الخلاف العنيف بين نميري والأحزاب التقليدية، الاتحادي والأمة، وخاصة حزب الأمة الذي تنتمي أسرته إليه تقليدياً، وقام بقصف معقل الحزب في جزيرة "آبا"، تشكلت الجبهة الوطنية المناوئة لحكم نميري، ووجدت في نظام القذافي في ليبيا السند والممول. وقد اتخذت الجبهة من دارفور وأهالي دارفور معتقلاً وجنوداً لها. وعندما فشلت عملية الخرطوم الشهيرة، التي قامت بها الجبهة على شكل غزو بري بالسيارات الرباعية الدفع، انكفأت قواتها الى دارفور بتسليحها الكبير، لتبدأ عمليات النهب المسلح في الظهور في الإقليم، ابتداءً من العام ٩٧٩١م.
وفي العام ٣٨٩١م، بدأت الحروب الإثنية في الظهور.
ليبيا وتشاد
في ديسمبر ٠٨٩١م، دخل الجيش الليبي الى تشاد في ظل خلاف بين السودان وليبيا، فنزح ما يقرب من مليوني تشادي الى دارفور، وكثير منهم من المسلحين، فأصبحت المنطقة نهباً للفوضى والعصابات المسلحة من الوافدين، وأهالي المنطقة. وأخذت التدخلات الحزبية والدولية تنشئ وتدعم فصائل مسلحة تتبع كلاً منها، وتتصارع عبرها.
ما بعد نميري
بعد سقوط حكم نميري، ضرب الجفاف شمال دارفور لعدة أعوام، فنزحت جموع قبائل الرعاة بقطعانها الى الجنوب، في عملية استقرار دائم هذه المرة، وأخذت قطعانها تتلف الأراضي المزروعة، فنشبت الحروب بين الرعاة والزراع. وفي العام ٧٨٩١م، بلغ عدد الهجمات المسلحة المسجلة، أكثر من ألف بلاغ. وقد سعت حكومة المهدي في العهد "الديمقراطي القصير"، الى ترتيب مؤتمر بهدف نزع الأسلحة في الإقليم، وإجراء صلح بين القبائل، ولكنها سقطت بانقلاب البشير قبل عقد المؤتمر.
حكومة البشير
في ٠٣يونيو ٩٨٩١م، حدث انقلاب عسكري بقيادة الرئيس الحالي حسن البشير، وحليفه من وراء الستار الشيخ حسن الترابي. وسعت حكومة البشير الى استئناف ما بدأت به حكومة المهدي، وعقد مؤتمر الصلح بين الرعاة العرب والمزارعين الفور، على أساس نزع السلاح. وجمعت منه كميات ضئيلة، وساد في المنطقة قدر من الهدوء. ولكن عصابات النهب المسلح ظلت تواصل هجماتها التي أدت الى تأجيج الفتن التي بدأت بالظهور مرة أخرى.
وكانت حكومة البشير اتخذت لها شعارات رومانسية عن الوحدة الإسلامية، وسمحت بدخول أي مسلم بدون تأشيرة، كما تفعل إسرائيل مع اليهود. وأنشأ الترابي المؤتمر الشعبي الإسلامي العالمي، فبدا السودان كما لو كان قد أصبح بؤرة لقيادة الحركات الجهادية الإسلامية، في ظل تنامي الحركات الإسلامية المسلحة في دول الجوار وضد الغرب، الأمر الذي عجل بتشكيل جبهة دولية بقيادة الولايات المتحدة، عملت على زعزعة الأوضاع في السودان ديبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً. وأصبحت دارفور، كما جنوب السودان، ساحة لعمل هذه الجبهة الدولية.
وفي نوفمبر ١٩٩١م، عملت الحركة الشعبية الجنوبية، بإيحاء من الجبهة الدولية، على تجهيز حملة الى دارفور بقيادة داوودي يحيى بولاد. وقد استعدت الحكومة السودانية لمواجهتها، وتم إبادة الحملة، ولكن بعد أن قامت الحكومة بتسليح القبائل العربية بشكل واسع. ويبدو أن الحملة الجنوبية كانت تعتمد على إثنية "البرتي" الدارفورية، التي تنتمي الى "الشلوك".
وحدث استقطاب قبلي وإثني وسياسي جاد في دارفور، أدى الى ظهور ميليشيات قبلية تحولت الى حركات سياسية، وكانت إحداها -لسخرية الأقدار- تتبع الدكتور حسن الترابي، الشيخ الذي تمرد عليه مريدوه العسكريون في حكومة البشير.
ونشأت حركة مسلحة أخرى ذات توجه علماني، تنسب الى الحزب الشيوعي المحظور، كان أبرز إنجازاتها العسكرية حرق مطار الفاشي مع كل الطائرات فيه، واتهمت حكومة البشير إسرائىل بدعم الحركات المناوئة لها.
وقد استنفرت الحكومة القبائل العربية، وبدأت هجمات واسعة على المعارضة التي كانت من قبائل الفور الزراع. وظهرت ظاهرة "الجنجويد"، وتعنى "جني على جواد"، في إشارة الى الفارس العربي المسلح. وأدت هذه الهجمات الى نزوح واسع للمزارعين، نتيجة للقتل والنهب الشامل الذي مورس في قرى المزارعين. وهكذا نشأت مشكلة اللاجئين في دارفور.
ومن الواضح أن الجهود الديبلوماسية الدولية لازالت غير قادرة على تقديم الحلول، مع ظهور الأطماع الأمريكية في ثروات المنطقة، حيث تسعى الى فرض الوصاية على الإقليم تحت راية الأمم المتحدة، بدلاً من دعم القوات التابعة للاتحاد الأفريقي، وزيادة عديدها، وهو ما ترفضه حكومة السودان بإصرار.