ثقب أسود في الكهرباء يلتهم موارد الدولة، ولا يلمس المواطنون خدماته، وفشل ذريع في استعادة قطاع الاتصالات من قبل الحكومة الشرعية التي لم تولِ هذا القطاع السيادي الهام أي اهتمام طيلة 8 سنوات، سوى انتهاك الدستور والعمل من خارج أحكامه بإبرام عقود شراكة تجيز الاستيلاء على ممتلكات الدولة اليمنية، وتنتهك سيادتها.
وفساد مهول تفوح رائحته من قطاع النفط والمعادن، تسبب بإهدار الثروة النفطية، وعبث بحقول الإنتاج، وعطل عمل مصفاة عدن، ليتسنى بعد ذلك لحيتان الفساد استيراد مشتقات نفطية غير مطابقة للمواصفات والمعايير، وبفوارق مهولة في الأسعار.
وفي القطاع الاقتصادي والنقدي يقف البلد على حافة الهاوية، جراء استمرار جملة من الاختلالات التي تبدأ بإهدار المال العام والإنفاق العبثي، وينتهي بعدم قدرة وزارة المالية على تسديد التزاماتها الضرورية، وبينهما عدم تحصيل الموارد المالية للدولة، وصعوبة قيام البنك المركزي بدوره في التصدي للمضاربة بالعملة الوطنية، جراء عدم تضافر جهود الأجهزة المعنية.
ما سبق صورة قاتمة لأربعة قطاعات فقط، في وطن مثخن بالجراح، ومثقل بالفساد، دون إصلاحات حقيقية تلوح بالأفق من قبل سلطته الشرعية البعيدة كليًا عن الوطن على مستوى الجغرافيا والإدارة.
وفي تفاصيل تقرير اللجنة البرلمانية لتقصي الحقائق حول المخالفات في قطاعات (الكهرباء والنفط والاتصالات، والقطاع المالي)، تتجلى حقائق مفزعة، وتجاوزات مالية بأرقام صادمة من قبل عدد من مؤسسات الدولة وهيئاتها المختلفة، التي تؤكد في مجملها أن مواجهة الفساد هي المعركة الأولى على طريق استعادة الوطن الذي بات يتأرجح على شفا الانهيار، ويغرق بأزمات متتالية.
التقرير -الذي حصلت “النداء” على نسخة منه- أعدته لجنة برلمانية لتقصي الحقائق، مكونة من 9 نواب، خلال الفترة بين مايو ويوليو 2023، وتم رفعه إلى مجلس القيادة الرئاسي والحكومة في 25 أغسطس 2023.
وخلص التقرير إلى سوء الإدارة الحكومية، وعدم سلامة إجراءاتها خلال السنوات الأخيرة، وبصورة غير معهودة في أداء الحكومات المتعاقبة، نظرًا لحجم الاختلالات والمخالفات والعبث الذي اتسمت به الأجهزة الحكومية في القطاعات الأربعة التي تم تقصي الحقائق بشأنها، وما تسببت به من آثار خطيرة على حياة الناس والمال العام.
قطاع الكهرباء.. واقع مظلم
يكشف تقرير اللجنة البرلمانية عن فساد يندى له الجبين في ما يتعلق بقطاع الكهرباء الذي تحول إلى ثقب أسود لالتهام المال العام، ووسيلة للثراء الفاحش باسم خدمة الكهرباء التي وصل عدد ساعات انقطاعها في ذروة الصيف الحالي إلى 18 ساعة يوميًا.
تنفق الحكومة شهريًا مبلغًا يتراوح بين 100 و150 مليون دولار، لشراء وقود لمحطات الكهرباء،
وبلغت الموازنة الحكومية المخصصة للكهرباء خلال العام الفائت 2022، مبلغ 569 مليار ريال، فضلًا عن منحة المشتقات النفطية المقدمة من المملكة العربية السعودية، ودون احتساب موازنة المؤسسة العامة للكهرباء. وهذا الرقم يمثل ما نسبته 85% من إجمالي الدعم الحكومي للوحدات الاقتصادية ككل.
وبحسب التقرير البرلماني فإن 557 مليار ريال، أي ما نسبته 98% من إجمالي الدعم العام الحكومي للكهرباء خلال العام 2022، ذهب لجيوب موردي وقود الكهرباء وقطع الغيار.
ونظرًا لعدم اكتمال أركان الدولة ومؤسساتها منذ قرابة 9 سنوات، مازال قانون المناقصات معطلًا لعدم تشكيل لجنة للمناقصات والمزايدات، وبالتالي فإن عملية الطاقة المشتراة وعمليات شراء الوقود تمت بالمخالفة للإجراءات القانونية، الأمر الذي نتج عنه استيراد وقود غير مطابق للمواصفات والمعايير، وهو ما تسبب بأضرار بالغة على محطات توليد الكهرباء، فضلًا عن الأضرار البيئية التي شهدتها عدن مؤخرًا جراء تصاعد الأدخنة بكثافة، والناتج عن استخدام ديزل مغشوش في محطات الوقود.
تعترف وزارة الكهرباء بأن سبب توقف محطة الحسوة (2) للكهرباء، يعود إلى رداءة الوقود المستخدم. وتقول في ردها على تساؤل اللجنة البرلمانية حول المتسببين في توقف المحطة: “نظرًا لعدم توفر المعدات والإمكانات اللازمة لتحديد مدى جودة وملاءمة الوقود الذي كانت تمون به المحطة، لم نكتشف مكامن الخلل، واستمر استخدام ذات الوقود غير المطابق للمواصفات، وهو ما أدى في النهاية إلى خروج المحطة عن الخدمة”.
لم تكن محطة الحسوة (2) بحاجة للعمل بالديزل، ليس لأنه عالي الكلفة وحسب، بل لأنها صُممت أساسًا للعمل بالغاز، باعتباره أقل كلفة، وأقل ضررًا على البيئة، لكن القائمين عليها، ومن ورائهم منتفعون كثر، استمروا بتشغيلها بمادة الديزل الذي كان أيضًا يفتقر للمواصفات والمعايير، ما أدى إلى توقفها وخروجها عن الخدمة.
ومن نماذج استباحة المال العام في قطاع الكهرباء، ذكر تقرير اللجنة البرلمانية أن وزارة الكهرباء صرفت مبلغ 30 مليون دولار تحت بند الصيانة العمرية لمحطة الحسوة (1)، على الرغم من عدم جدوى إعادة تأهيلها، كونها باتت متهالكة، وكان بالإمكان توظيف المبلغ في إنشاء محطة جديدة وحديثة تمتاز بانخفاض معدلات استهلاكها للوقود.
وأسهمت حالة الانقسام واللا انسجام بين مؤسسات الحكومة الشرعية وأجهزتها المختلفة، في هشاشة المؤسسات الرسمية، وعدم قدرتها -فضلًا عن عدم مبالاتها- في تحصيل الإيرادات العامة للدولة. إذ وصلت المديونية المستحقة للوزارة لدى الغير إلى أكثر من 260 مليون ريال حتى فبراير من العام الحالي، منها 148 مليونًا لدى المرافق الحكومية.
تقول لجنة تقصي الحقائق في البرلمان إن الحكومة فشلت في إيجاد حل جذري لأزمة الكهرباء المزمنة في عدن والمناطق المحررة، وإنها تعاملت مع الخطط والرؤى والتصورات والقرارات المتخذة بشأن معالجة أوضاع الكهرباء، بطرية سلبية، وتمت إعاقتها منذ الوهلة الأولى. وتحدث التقرير عن تأثيرات سلبية لصراع مصالح قوى النفوذ. وخلصت اللجنة البرلمانية إلى أن الفساد هو أبرز أسباب موانع حل مشكلة الكهرباء.
الاتصالات.. خارج الاهتمامات والتغطية
لقطاع الاتصالات في اليمن حكاية أخرى، أبطالها وزراء ومسؤولون من الصف الأول، لم يكتفوا بفشلهم في نقل مركز التحكم من صنعاء إلى عدن، بل عجزوا عن الحفاظ على الكابل البحري الوحيد الذي تم ربطه في عدن ودخل حيز العمل العام 2017م، بكلفة 58 مليون دولار.
وبحسب تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية، فإن الكابل البحري (AAE1) الذي تم إنجازه كبنية تحتية مستقلة لقطاع الاتصالات والإنترنت بعدن، تم تشفيره والسيطرة عليه من قبل جماعة الحوثي، وذلك بسبب قيام الوزير السابق للاتصالات وتقنية المعلومات باستدعاء مهندسين ومختصين من صنعاء، وتم تدريبهم من قبل خبراء دوليين، وبعد عودتهم إلى صنعاء قاموا بتشفير الكابل وتعطيله في عدن، الأمر الذي شكل ضربة قاتلة لشركة “عدن نت”، باعتبارها الشركة الوحيدة المستقلة عن سيطرة الحوثيين. وبالتالي فقدت الشركة الامتيازات التي كان وفرها الكابل الجديد بسعته الكبيرة وسرعته الفائقة، وعادت للعمل في كابل بديل بأداء منخفض.
التقرير يقول إن الإدارة المركزية لمراكز التحكم والسيطرة في منظومة الاتصالات (ماليًا وإداريًا وفنيًا وتشغيليًا وإشرافًا مباشرًا ومرتبات الموظفين) مازالت تدار من صنعاء حتى اليوم، ومازالت جماعة الحوثي تتمتع بالسيطرة عليها والتحكم بها والاستفادة من إيراداتها الضخمة.
وفي ما يتعلق بإبرام عقد شراكة مع شركة (NX) الإماراتية، التي أقرها مجلس الوزراء في اجتماعه المنعقد بتاريخ 21 أغسطس 2023م، فقد اعتبرتها اللجنة البرلمانية سابقة خطيرة وخرقًا دستوريًا جسيمًا، كما اعتبرتها هدرًا لأموال وممتلكات عامة، وانتهاكًا صريحًا للسيادة.
حاولت “النداء” الاطلاع على مضامين الاتفاقية المشار إليها آنفًا، لكنها لم تتمكن من الحصول على نسخة منها، إذ اعتبرتها وزارة الاتصالات اتفاقية سرية، وهو ما أكدته اللجنة البرلمانية التي قالت إن الوزارة رفضت إعطاءها نسخة من الاتفاقية خشية تسربها لوسائل الإعلام.
وعقب توقيع الاتفاقية والمصادقة عليها من قبل الحكومة، وجهت اللجنة البرلمانية رسالة إلى الحكومة قالت فيها إن مضامين الاتفاقية توفر الاستيلاء على ممتلكات الدولة، ويجردها من ملكيتها وحقوقها السيادية والقانونية والمالية، بما في ذلك “عدن نت”، والبنى التحتية والموارد الضريبية والجمركية وحقوق الترخيص والترددات، وشركة “تيليمن”، والبوابة الدولية التي تعد حقًا سياديًا لليمن. وأن امتلاك أي طرف من ذوي المصلحة لها أو تشغيلها انتهاك للسيادة.
الحكومة تجهل حجم الإنتاج النفطي
في قطاع النفط والمعادن تنعدم الأرقام الحقيقية لحجم الإنتاج، ويحضر الفساد الذي وصل حد بيع قطاعات نفطية، وعقود امتياز بالمخالفة للقانون، فضلًا عن رفض شركات نفطية وطنية موافاة وزارة النفط وهيئة استكشاف وإنتاج النفط بتقارير عن حجم الإنتاج السنوي للنفط من نحو 8 حقول خلال العام 2022م.
والملاحظ من خلال تقرير اللجنة البرلمانية، غياب الانسجام والتكامل بين وزارة النفط وهيئة استكشاف وإنتاج النفط من جهة، وبين الشركات الوطنية من جهة أخرى.
كشف تقرير اللجنة البرلمانية عن تأسيس شركات محلية بصورة غير قانونية، ومنحها قطاعات نفطية، ومن بينها شركة بترومسيلة التي تعمل في خمسة قطاعات نفطية دون اكتمال وثائق تأسيسها التي قالت اللجنة البرلمانية إنها تأسست في جزر البهاما، وليس في اليمن.
وتقول هيئة استكشاف وإنتاج النفط إنها مازالت تواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع شركة بترومسيلة لرفضها تسليم التقارير الفنية وبرنامج الأعمال والموازنات السنوية، وإنها مازالت تعمل بدون رقابة حكومية في القطاعات التي تقوم بتشغيلها، وإنها لم تقدم أية نتائج ملموسة في زيادة الإنتاج منذ شرائها حصة الشركة الأجنبية “أكسون”.
يكشف الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، عدم توفر بيانات لدى وزارة النفط عن إنشاء شركة بترومسيلة التي قال إنها لم تستكمل بناءها التنظيمي منذ إنشائها.
يكشف الجهاز عدم وجود بيانات عن القطاعات النفطية (14 – 10 – 51 – 53) التي تقوم شركة بترومسيلة بتشغيلها.
عدا بترومسيلة، ترفض شركتا صافر والاستثمارات النفطية، تسليم تقارير إنتاج النفط إلى هيئة استكشاف وإنتاج النفط، باعتبارها الهيئة الحكومية المختصة قانونًا بالإشراف والرقابة.
القطاع النقدي بلا سند يحميه
في ما يتعلق بالوضع النقدي والاقتصادي لليمن، يكشف تقرير اللحنة البرلمانية عن تدهور خطير ومتسارع للاقتصاد جراء عدد من العوامل، أبرزها توقف صادرات النفط جراء الأعمال العدائية لجماعة الحوثي على موانئ تصدير النفط، فضلًا عن تراجع الإيرادات الضريبية والجمركية جراء تحول استيراد بعض السلع إلى ميناء الحديدة.
وفي ما يتعلق بسعر العملة الوطنية، شكا محافظ البنك المركزي بعدن من التهام الكهرباء للعملة الأجنبية عبر شراء الوقود، وبمبالغ تتراوح بين 100 و150 مليون دولار شهريًا، وقال إن هذا الأمر يشكل ضغطًا كبيرًا على احتياطات البنك من العملات الصعبة.
محافظ البنك المركزي قال أيضًا إن البنك يدفع قيمة منحة المشتقات النفطية التي تقدمها السعودية، كونها ليست مجانية كما يتصور البعض، وإنما يتم شراؤها من قبل الحكومة اليمنية بسعر أقل وفقًا للسعر المعمول به داخل المملكة.
محافظ البنك شكا أيضًا من هشاشة الأجهزة الحكومية، وانعدام التنسيق والتعاون في ما بينها، وقال إن البنك يواجه صعوبات في ضبط المضاربين بالعملة، إذ لا يجد موظفو البنك من يحميهم أو يسندهم لضبط المخالفين من مالكي محال الصرافة التي قال إن عدد المصرح لها بالعمل 320 محلًا، بينما المحلات العاملة دون تصاريح رسمية 1200 محل صرافة.
وانتقد تقرير اللجنة البرلمانية قيام عدد من الجهات الحكومية بفتح حسابات لدى الصرافين والبنوك التجارية، ودعا لاتخاذ إجراءات رادعة بحقها، على اعتبار أن ذلك يتيح الفرصة للمضاربة بالعملة الوطنية والإضرار بقيمتها، وتحجيم دور البنكالمركزي في الحفاظ على المال العام.
يكشف تقرير اللجنة البرلمانية أن البنك المركزي لم يستكمل حتى اليوم الارتباط بفروعه في المحافظات المحررة، وأن هناك عددًا من الجهات الإيرادية لا تقوم بتوريد الموارد المالية إلى البنك المركزي وفقًا للقانون المالي، فضلًا عن قيام قيادات السلطة المحلية بالمحافظات المحررة، بالاستقطاع من الموارد المركزية بالمخالفة للقانون المالي وقانون السلطة المحلية بهذا الخصوص.