بين قيصر الروس وقصور اليمن

  • الوحدوي نت - عادل عبدالمغني
  • منذ 16 سنة - Thursday 15 May 2008
بين قيصر الروس وقصور اليمن

الأسبوع الماضي، تسلم الشاب ديمتري ميدفيدف رسمياً مقاليد الحكم في روسيا من سلفه فلاديمير بوتين، في حفل بهيج أقيم في قصر الكرملين في العاصمة الروسية موسكو.

ولأن الثوابت هناك راسخة، والمتغيرات متوقعة ومحتملة دائماً، فإن تسليم بوتين لرئاسة الدولة حدث غير مفاجئ.

بوتين الذي قدم لروسيا الشيء الكثير خلال فترة حكمه لدورتين كاملتين، كان يستطيع البقاء على كرسي الحكم لسنوات أخر قادمات، غير أنه يحترم الدستور، وقبل ذلك ذاته وناخبيه.

وقبيل الانتخابات الرئاسية الروسية التي جرت في فبراير الماضي، رفض بوتين عروضاً ومقترحات عدة طرحت لبقائه في الحكم لولاية جديدة، مع أن موافقته كانت ستلقى ترحيباً كبيراً من الشعب الروسي الذي طالب ببقائه وعدم المجازفة بتجربة رئيس آخر.

الرجل يحترم دستور بلاده، ويراه مقدساً لا يجوز لأي كان العبث به، حتى لو كان ذلك على حساب كرسي الرئاسة.

ولأن الأمر كذلك، فقد رفض بوتين مشروع قرار تقدمت به الغالبية البرلمانية في روسيا، في سبتمبر الماضي، بتعديل الدستور ليمنح بوتين فترة رئاسية ثالثة بشكل استثنائي نظراً للظروف التي تمر بها روسيا.

ولأن الوطنية سلوك وممارسة عملية، لا أقوال وشعارات، فقد رد بوتين على مشروع القرار بالقول: «لا يمكن أن يرتبط مصير دولة كبيرة كروسيا بشخص ما حتى لو كنت أنا ولست من يخالف الدستور ولو كان ذلك على حساب كرسي الرئاسة».

وقطعاً، لم يكن حديث الرئيس الروسي مجرد استعراض أمام الرأي العام لكسب تعاطف الشعب والإيحاء للخارج برغبة المواطنين في بقائه على سدة الحكم . فبوتين كان جاداً في ما يقوله.. إنه حقاً يحترم الدستور الذي لا يعطيه الحق بالترشيح للرئاسة لأكثر من ولايتين كاملتين بدأهما بوتين العام 2000م، وانتهتا في 2008م.

البرلمان الروسي عاد مرة أخرى، وتحديداً في أكتوبر الماضي، لتقديم مشروع آخر بتمديد فترة ولاية بوتين الأخيرة لـ7 سنوات بدلاً من 4 سنوات، ووافقت الأغلبية على ذلك، لكنه أصر على الرفض.

خرجت مظاهرات شعبية في مختلف مدن روسيا (وهي طبعاً مظاهرات عفوية غير مدفوعة من الحزب الحاكم). وجمعت منظمات مدنية توقيعات قدرت بـ3 ملايين توقيع، تطالب ببقاء بوتين، لكن القيصر العظيم رفض، لأنه يحب روسيا أكثر من عرش رئاستها.

رفض كل النداءات، وأشرف على إجراء انتخابات حرة ونزيهة فاز بموجبها الشاب ديمتري ميدفيدف بنسبة كاسحة تعدت الـ70% من الأصوات، فسلمه بوتين مقاليد الحكم، وجمع حقائبه ورحل بهدوء من قصر الكريملين.

بوتين لم يهدد الشعب الروسي بمصير مجهول من بعده، ولم يخوفهم بالصوملة أو العراق.

هو لم يقل إنه باني نهضة روسيا الحديثة، مع أنه كذلك. ولم يخرج الجماهير لتهتف ببقائه، وهو الذي يحظى حقيقة لا ادعاء بشعبية واسعة.

الرجل لم يستخدم المال العام والإعلام الحكومي لتنفيذ مشاريع شخصية، ولم يستغل القوات المسلحة وهو قائدها الأعلى.

ولأنه ليس زعيماً عربياً، أو يمنياً على وجه التحديد لم يقترب من إمكانيات الدولة ومقدراتها.

بوتين يحب روسيا ويحترم عقليات مواطنيها، لذا غادر قصر الكريملين دون ضجيج.

لا يهمه بعد ذلك أن يعود رئيساً للوزراء أو مديراً لإحدى شركات الغاز العملاقة، فكل ما يهم الرجل خدمة بلده من أي موقع كان، وكل ما يحرص عليه ترسيخ قيم نبيلة تحترم الدستور، وتعلي من شأنه، حتى وإن كان الثمن كرسي الرئاسة.

هو الآن يمارس دوره الجديد كرئيس للوزراء تحت إمرة الرئيس الشاب، دون أن يدع للـ«أنا» مجالاً لمجرد التفكير بحساسية الوضع، والعمل بعيداً عن أضواء المقدمة.

بوتين وإن فكر بالعودة مرة أخرى لقيادة دفة الرئاسة في روسيا في انتخابات 2012م، كما يقول عدد من المحللين الروس، فذلك حق كفله الدستور الذي أبى بوتين في يوم ما تفصيل نصوصه كيف يشاء.

وهنا فقط يمكن أن تدرك الفرق بين أن تعيش في بلد يخدم الرئيس، وآخر يخدمه الرئيس. كما يمكنك التمييز بين الديمقراطية السوية والديكور المشوه، مثلما يمكنك معرفة سر رخاء وتقدم بلدان، وتدهور وانهيار أخرى.

فهناك يغادر الرئيس الحكم بحقائبه وراتب شهري فقط، وهنا يغادر الرئيس محمولاً على الأعناق ليورث الخلف من بعده ثروة هائلة وسلطة أيضاً، فيما لا يجد أبناء الشعب راتباً يسدون به الرمق، أو حقائب يغادرون بها البلد.

هو الفرق إذن بين قياصرة الروس وقصور العرب.


[email protected]