الرئيسية المقالات مدارات الزعامات المحترمة
الزعامات المحترمة
عبدالله أحمد العرشي
عبدالله أحمد العرشي

قد يتساءل البعض منا ويقول... الزعامات في البلدان التي تمارس الديمقراطية بحق لا إدعاء لماذا يقال عنها أنها محترمه؟ ولماذا تظل محترمة حتى بعد أن تخرج من السلطة والحكم؟.

الجواب سهل للغاية.. لأنها بالتأكيد تحترِم شعوبها.

فهي أي الزعامات المحترمة تعمل على تجسيد هذا الاحترام في سياسات ووقائع ومواقف وسلوكيات محترمة حقيقية... لا شعارات للاستهلاك والتضليل، كما أنها تلتزم أدبيات ومقتضيات الاحترام في مختلف مراحل حياتها السياسية سواء كان ذلك:-

1.  عند السعي إلى السلطة.

2.  عند تبوأ السلطة.

3.  عند ترك السلطة.

 كيفية ترجمة الزعامات لاحترام شعوبها في تلك الحالات الثلاث، وكذا التعرف على بعض من نماذجها هو ما نحاول التركيز عليه والوقوف معه عبر هذه الأسطر.

ففي الحالة الأولى أي عندما تسعى الزعامات إلى السلطة تجسد احترامها لشعوبها من خلال الحرص على الأتي:-

1.  تبنى تطلعات شعوبها وطموحاتها ومشروعاتها الوطنية، ثم تضعها وترتبها في برامج عمل سياسي واقتصادي واجتماعي وتتوجه بها إلي الشعوب وتعرضها عليها وتقوم بشرحها لكافة شرائحها ومكوناتها... ومن ثم فإن مستوى درجة نجاحها في إقناعهم بها وبمضامينها ومحتواها هو الذي إما سيجيء بهم إلى مراكز السلطة والحكم أو الذي سيحجبها عنهم.

2.  الحرص على المجيء إلى السلطة والحكم تجسيدا لإرادة شعوبها عبر صناديق الاقتراع ومن خلال عملية انتخابية منظمة ودقيقة ونظيفة خالية من أي عيوب أو تزوير أو خداع أو تضليل أو وصاية أو هيمنة أو ترهيب وغير ذلك مما ينطوي تأثيره على الناخبين بما لا يعكس أو يجسد إراداتهم أو خياراتهم الحقيقة.

أما في الحالة الثانية أي عندما تتبوأ مواقع السلطة والحكم (المحك الحقيقي لاختبار جدية الاحترام من عدمه) فهي تترجم هذا الاحترام من خلال الأتي:-

1.  الحرص على التزام دساتير ونظم وقوانين وسلطات ومؤسسات الحكم في البلاد وعدم التحايل عليها تحت شعار الإصلاح أو التطوير أو التحديث...الخ.

2.  الحرص على بقاء سلطات ومؤسسات الحكم فاعلة وقوية في ممارسة اختصاصاتها وصلاحياتها بما يمكن من النهوض بالمهام والمسئوليات بسهولة ويسر ودون أزمات أو إخفاقات.

3.  عدم السطو على سلطات الدولة وإمكانياتها تحت أي مبرر واحترام اختصاصات كل منها وفقا للقوانين والأنظمة والأعراف ومقتضيات المصالح الوطنية الحقيقية.

4.  المصداقية في التعامل مع الشعب في مختلف قضايا وشئون البلاد والعباد وعدم تزييف الحقائق أو اللجوء إلى أساليب الخداع والتحايل والمكر بهدف النيل من الخصوم السياسيين أو التشويه بهم.

5.  الإيفاء بوعودهم التي قطعوها على أنفسهم في برامجهم الانتخابية، فإن وجودوا هنالك استحالة لبعضها وليس كلها عادوا بها إلى الشعب فإن احتمل لهم العذر استبقاهم، وإن لم يحتمل لهم العذر استقالوا ورحلوا طواعية عن كراسي الحكم.

6.  الحرص كل الحرص على مصالح الشعب بمختلف فئاته وقطاعاته أينما كانت سواء داخل أو خارج البلاد وتوظيف كل آليات الدولة والمجتمع بما من شأنه الذود عنها وعدم المساس بها.

7.  الحرص على إبقاء سلطات الحكم ونفوذها وإمكانياتها بعيدا عن التوظيف السياسي الداخلي أو الخارجي وسواء كان منه ذلك التوظيف المخل أو العبثي، وعدم الزج بها في مخاض ترتيبات سياسية من شأنها دعم تيارات سياسية أو أشخاص على حساب تيارات أو شخصيات سياسية أخرى وفقا لرواء شخصية أو منافع ذاتية أو تمجيد لذات.

8.  عدم فرض رواءهم وإراداتهم وأهوائهم ومقتضيات محسوبياتهم الخاصة في مجريات إدارة شئون البلاد وترتيباتها مثل ولاية المقربين وعديمي الكفاءة وما هو على شاكلة ذلك، وإن كان هنالك من حالات فرضت نفسها عليهم فيحرصوا على أن تأتي في إطار أعراف تحقيق العدالة الاجتماعية بين كافة أبناء الشعب وضوابطها.

9.  الحرص على حرية الرأي والتعبير في أوساط المجتمع وذلك من منطلق أنها تمثل عين أخرى للدولة وسلطات الحكم في استشراف إرادة الشعب والعمل على تحقيقها.

10.  لا تدعي لنفسها مبررات وإدعاءات أو حقوقا إلهية من شأنها التبرير للحصول على سلطات مطلقة ودائمة.

11.    الاحتكام إلى إرادة الشعوب في التغيير، وفيما يختلف عليه، والالتزام بنتائجها وعدم اللجوء إلى أساليب مقايضة الشعوب على مكتسباتها وأمنها واستقرارها مقابل القبول بهم في السلطة وفقا لأهوائهم.

 

أما الحالة الثالثة والأخيرة ففيها تتجلى ذروة سنام احترام الزعامات المحترمة لشعوبها وإراداتها، وهي التخلي عن السلطة حال انقضاء فترة الولاية الدستورية ، أو حال التقاطهم أول إشارة بعدم الرغبة فيهم سواء صدر ذلك من شعوبهم أو ممثليهم في البرلمانات، أو كليهما معا، ودون تمديد أو توريث أو إدعاءات أو تحايلات من شأنها التسلط على الحكم والدولة والمجتمع ومقدراته إلى ما شاء الله.

ذلك أي تخلي الزعامات عن السلطة والحكم في تلك المواقيت وطواعية يمثل أيضا احتراما لذاتها ولأدوارها التي لعبتها في حياة شعوبها علاوة على ما يجسده من احترام للشعوب.

وبالمقابل فإن الشعوب تبادلهم ذلك بصور شتى لا حصر لها من الاحترام خصوصا بعد تركهم السلطة فهي أي الشعوب وعلاوة على تمجيد أدوارهم والاعتزاز بخبراتهم تمنحهم فرص للقيام بأدوار وطنية عديدة.

هكذا هو الاحترام الحقيقي يجب أن يكون متبادلا بين كلي الطرفين ( الشعوب والزعماء) وليس من طرف الشعوب فقط، وبالفرض.

نماذج ذلك الاحترام يزخر بها التاريخ السياسي الحديث للكثير من الأمم والشعوب، فعلى سبيل المثال السيد/ نيلسون مانديللا كان له تاريخ نضالي طويل وعظيم، مشهود له به داخليا وخارجيا، فقد قاد السود في جنوب أفريقيا خلال القرن الماضي في ثورة تحررية سلمية دءوبة إلى أن تمكن من انتزاع كافة الحقوق السياسية والإنسانية للسود من النظام العنصري الذي جثم على شعب القارة السوداء الجنوبي ومقدرات بلاده واستغل ثرواتها واستعبد أبنائها عبرة فترة طويلة من الزمن.

 وكان ما حققه مانديللا من انتصارات لجنوب أفريقيا، وما بذله خلال كفاحه ونضاله وما تعرض له من تنكيل وسجن وغيره من صور المعاناة ما كان كفيلا (بالمفهوم العربي) بمنحه فرصة الصعود للسلطة والاستئثار بها وبصورة مطلقة إلى ما شاء الله، لكنه لم يفعل ذلك فعندما تولى السلطة في البلاد على أنقاض النظام العنصري حرص كل الحرص على احترام الشعب واحترام كفاحه وتاريخه النضالي من خلال بناء مؤسسات وسلطات حكم حقيقية وكفؤة، ثم عندما حان توقيت الرحيل عن السلطة... ترجل عنها طواعية ليتيح الفرصة لغيره ممن يختاره الشعب عبر ممارسة ديمقراطية حقيقية ونزيهة بما يجسد ويعمق أركانها في أوساط الشعب وفي سلطات الدولة والحكم.

وهاهو السيد مانديللا في جنوب أفريقيا وفي العالم أجمع حتى اليوم هامة عظيمة لها مكانتها واحترامها وتقديرها.

وبالمثل كانت السيدة انديرا غاندي في الهند التي تزعمت حزب المؤتمر الهندي ومن خلاله حكمت الهند عبر فترة غير قصيرة من الزمن ولكن بطرق محترمة متبادلة، فقد حرصت وخلال ولايتها على احترام شعبها وإراداته وتبادل هذا الاحترام معه، من الصور البالغة التعبير عن ذلك أتذكر منها صورتان في حادثتين هما:

·  الأولى كانت في منتصف النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي...حينذاك خسر حزب غاندي الانتخابات وعلى إثر فوز المعارضة بها انتقلت سلطات الحكم والدولة من السيدة غاندي إلى السيد مورجاي ديساي الذي تزعم ائتلافا من حزبه وأحزاب أخرى وشكل حينها حكومة برئاسته، وبالطبع انتقلت السيدة غاندي وحزبها إلى المعارضة تجسيدا لاحترام غاندي ومن ورائها حزبها العريق للشعب الهندي وإراداته ومبادئه ومنها التداول السلمي للسلطة، فبعد تسلم السيد ديساي سلطات الحكم في الهند وإتكاء عليها تبنى وقاد حملة تشويه وتشبيب بالسيدة غاندي وحزبها وفترة حكمها في الأوساط والمحاكم الهندية تعرضت خلالها السيدة غاندي للمحاكمات والسجن وغيره، وحينها وعلى الرغم من أن الدعاوى التي رفعت ضدها ليست دعاوى حقيقية بل كانت من قبيل الثأر السياسي المتعطش لتصفية حساباتها عند التمكن من مقدراته، لكنها أي السيدة غاندي ومن منطلق الإيمان العميق باحترام الشعب وسلطاته وقوانين البلاد والقضاء تحملت كل أعباء ذلك، فلم تترك بلادها وشعبها وتفر إلى أمريكا أو بريطانيا وتحتمي فيهما وتستعين بدوائرهما سواء في التوسط لإسقاط الدعاوى المرفوعة ضدها أو إسقاط خصومها من السلطة والحكم، بل ظلت في بلادها وبين شعبها الذي قدر كثير لغاندي شجاعتها وصبرها واحترامها للبلاد والشعب والقانون والقضاء وغيره، ومن ثم وحين حلول اقرب استحقاق انتخابي سارع الشعب في الهند وأعاد السيدة غاندي وحزبها إلى السلطة والحكم مجددا.

·  أما الثانية فهي ما كشفت عنه تحقيقات حادثة اغتيالها والتي أشارت إلى أن حارسها الذي أرداها صريعة بما أطلق عليها من رصاصات كان أثنيا ينتمي إلى طائفة السيخ والتي كان لها خصومة عميقة مع السيدة غاندي، وعلى الرغم من معرفة غاندي بذلك واحتمالات مخاطره على أمنها الشخصي إلا أن احترامها العميق للهند وعدم تفريقها بين مختلف طوائفه وأعراقه لم يحملها على الاحتياط من ذلك، إلى أن دفعت حياتها ثمنا لذلك الاحترام العميق لشعبها.  

كما أن مهاتير محمد في ماليزيا الذي قاد البلاد وأبنائها وخاض معهم عملية بناء اجتماعي واقتصادي وصناعي عملاقة وناجحة دامت أكثر من ثلاثة عقود من الزمن ترجل عن الحكم بعد أن حقق لها نهضة جبارة يضرب بها المثل في مختلف أنحاء العالم، وترك السلطة لأجيال لاحقة لمواصلة المشوار، وهو الآن مواطنا معززا مبجلا ومرجعية عملاقة لا في ماليزيا وحسب بل في الكثير من البلدان.

النماذج التي تزخر بها تجارب الكثير من البلدان عديدة لا في العالم المتحضر فحسب بل في العالم الثالث أيضا.

فهل يرى زعمائنا في العالم العربي في تلك النماذج قدوة حسنة حتى يتحقق لشعوب أمتنا العربية الأمن والاستقرار الذي يمكن من بلوغ أفاق النهوض المنشود في ظلهم؟

هذا ما نأمل من الزعامات العربية إدراكه والاقتناع به في ظل معطيات ومشاهد الأحداث والثورات التي تعصف حاليا بالجميع سواء الشعوب أو الزعامات.

ومن ثم فإنهم أي الزعماء أمام لحظات تاريخية فاصلة تدعوهم إلى إعادة النظر في حساباتهم ومن ثم تلبية إرادات الشعوب في التغيير الذي تنشده، وعدم ترك هذه الثورات ومطالبها عرضة للانحراف الذي من شأنه أن يعرض المكتسبات والمصالح إلى مخاطر الهلاك، بما يشوه تاريخهم السياسي ويفرغ أدوارهم من أي صنيع كانوا قد جهدوا عليه وبذلوا فيه عصارة شبابهم وزهرات أعمارهم.

إقراء أيضا