الرئيسية المقالات مدارات فرعنة الحاكم وإرادة الشعب
فرعنة الحاكم وإرادة الشعب
عبدالله أحمد العرشي
عبدالله أحمد العرشي
 

جبروت وطغيان فرعون القديم آل به في لحظة زمنية معينة إلى إصدار أوامره بذبح كل مولود جديد من ذكور بني إسرائيل، تفاديا من الوقوع في تنبؤات العرافين والتي مفادها بأن مُلك فرعون سينهار ويهلك على يد أحد هؤلاء المواليد أي( موسى) عليه السلام في القادم من السنين.

والمتتبع لمسار الأحداث في مصر وخصوصا في الفترات القريبة وتحديدا خلال الأربعة العقود الماضية ربما سيقف على أن ممارسة السلطة والحكم ربما قد لا تخلو من نزوات فرعونية بين تارة وآخري.

الرئيس السادات وبعد تمكنه من إحكام قبضته على سلطات الحكم في مصر وتحديدا في النصف الأخير من سبعينيات القرن الماضي بدى وأن هنالك نزوة فرعونية قد علقت بممارساته للسلطة والحكم ، تمثلت في العديد من التصرفات بدأت بإطلاقه على نفسه أبو العِيلة المصرية، ثم إصراره على رأيه في التصالح مع الصهاينة وعدم اكتراثه بسلخ مصر من الجسد العربي، ثم عدم تقبله أو تفهمه لأي رأي وطني معارض لتوجهاته، إلى الحد الذي آل به إلى الخصومة مع كافة الأطياف الوطنية المصرية سواء في اليمين أو اليسار مسلمين ومسيحيين...الخ، لكنه حينها لم يصدر أوامره بذبح أولئك المعارضين سواء أولئك الذين سيكونون سببا في إنهاء حكمه أو لم يكونوا، فقد اكتفى بوضعهم في السجون، لكني لا استبعد مُضيه نحو ذبحهم لاحقا لو كان الوقت أسعفه بذلك.

الرئيس محمد حسني مبارك وخلال فترة حكمه لمصر لم يكن بعيدا من ذلك إن لم نقل أنه كان أكثر قربا من الفرعنة عما كان عليه حال سلفه، وإن كان هنالك اختلاف في المواقيت وظروف ومعطيات حالتيهما، فالمتتبع لمسار حكمه خلال العقود الثلاثة الماضية يمكن له أن يقسمها وفقا لمعايير الفرعنة إلى ثلاثة مراحل وذلك كما يلي:

المرحلة الأولى: ما قبل الفرعنة أو مرحلة تشييد صروح الفرعنة : وهي التي تقع زمنيا ما بين أكتوبر 1981م- وأغسطس 1990م.

المرحلة الثانية: نشوء وتطور الفرعنة : وهي التي تقع زمنيا ما بين أغسطس 1990م- 2000م

المرحلة الثالثة: طغيان الفرعنة: وهي التي تمثل العقد الثالث من حكمه، والواقعة زمنيا منذ عام 2000م وحتى الـ 11 من فبراير الماضي.

فالمرحلة الأولى وبحكم طبيعتها المتمثلة في حداثته على السلطة والحكم في مصر، فإن مقتضياتها قد فرضت عليه العمل على توظيف معطيات وظروف وخصائص تلك المرحلة باتجاه تثبيت وترسيخ أقدامه علي عرش السلطة في ثلاث حظائر هامة هي:

1- الحظيرة الداخلية.      2- الحظيرة الدولية.      3- الحظيرة الإقليمية العربية والإسلامية.

فعلى الحظيرة الداخلية كان يدرك حينها أن الهم الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة هو المسيطر على كافة الأوساط في الشعب المصري، ومن ثم فإن تعزيز قناعات المصريين به يكمن فيما سيحققه من تحسين في مستويات معيشتهم، فمضى نحو تبنى محاولات لتحقيق ما أمكن له من ذلك، فحقق نجاح لكنه محدود وعلى حساب تميزات في قطاعات أخرى مثل زيادة الإنفاق الاستثماري في البني التحتية على حساب نفقات الدفاع والإنتاج الحربي، وتطوير الصناعات التحويلية الخفيفة على حساب الصناعات الإستراتيجية الثقيلة، وتطوير القطاع الخاص على حساب القطاع العام وما هو على هذه الشاكلة، لكن وأن بدى ذلك في أوساط نخب الشعب المصري غير محققا لأمالهم وتطلعاتهم، إلا أنه قد نال قدرا من رضا عوامهم قياسا بالمراحل السابقة.

أما على الحظيرة الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية وبالطبع من هو أهم منهم وشاغلهم الشاغل أي إسرائيل، فقد مضى نحو تعزيز قناعتهم به من خلال الحرص على عدم المساس أو التعرض لاتفاقيات السلام مع إسرائيل، وعدم الاكتراث بالتذمرات منها في بعض الأوساط المصرية والعربية والإسلامية، كما أنه وبالاستعانة على أجواء حالة القطيعة السياسية بين مصر والعرب والتي جرت إثر توقيع السادات علي اتفاقيات السلام مع إسرائيل عام 1978م (وإن كانت تلك المقاطعة شكلية مع معظمهم) مضت سياسات مبارك وآليته الإعلامية نحو الترويج لها وحشد المزيد من القناعات بها في الأوساط المصرية بهدف منح تلك الاتفاقيات المزيد من الرسوخ عبر ربطها في أذهانهم بما يتطلعون إليه من رخاء وهناء العيش، وباستعادة سيناء، وأن أي مساس بها يعني عودة سيناء للاحتلال الإسرائيلي...الخ، وهذا كله مثل حينها بمثابة رسائل سياسيه لحقن المزيد من الاطمئنان في الدوائر الغربية والإسرائيلية على سلامة سلام مصر مع إسرائيل في ظل حكمه، وبذلك يمكن القول أنه تمكن من اجتياز الاختبار في هذا المحيط وأكسبه المزيد من القناعات بحميميته لهم، حتى يتربع على عرش مصر ويستفرد به.

أما على الحظيرة العربية فعندما تولى الرئاسة في مصر في أكتوبر 1981م فإنه كان يدرك أن عليه العمل على نسف سور القطيعة السياسية بين مصر والعرب التي نشأت عام 1978م إثر توقيع السادات لاتفاقية السلام مع إسرائيل، كون ذلك من شأنه استعادة مصر لرياديتها في العمل السياسي العربي المشترك، وأيضا تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع العرب وتعظيم ثمارها، ولكن ذلك كان محكوما بالتوقيت المناسب وبأولوياته التي وضعت هذه المهمة في المرتبة الثالثة أي بعد تحقيق الاطمئنان والرضى الإسرائيلي الأمريكي والغربي، وإحكام قبضته على سلطات الحكم على الصعيد الداخلي .

ومن ذلك المنظور واتكاء على الرضا الدولي لسياساته ودعمهم القوي لها، وتمكنه من تحجيم المعارضة الداخلية لاتفاقيات السلام مع إسرائيل، وعدم جدية معظم العرب في مقاطعة مصر، بل أنه وتحت وطأة التشرذم العربي وفشل آليات المقاطعة، وتحت مبرر أن اتفاقيات السلام أعادت لمصر سيناء، وأن أي مساس بها يعني عودة سيناء للاحتلال الإسرائيلي كما أسلفنا، فقد تمكن مبارك ونظامه من استصدار بطاقة العودة إلى الحظيرة العربية من قمة بغداد العربية التي انعقدت في يونيو عام 1990م التي أصدرت قرارا بإنهاء المقاطعة العربية لمصر وإلغاء تجميد عضويتها في الجامعة العربية، ولا شك أن تمكنه من إعادة مصر إلى الجامعة العربية وبتلك الصورة أي دون أدنى تراجع عن اتفاقيات كامب ديفيد كان بمثابة نصر دبلوماسي وسياسي له مكنه من تعزيز أقدامه على عرش مصر العظيمة سواء داخليا أو خارجيا، وتلك النجاحات وإن كانت تبدو ظاهريا على أنها نجاحات لمصر في ظله، إلا أنها في الجوهر كانت تمثل بمثابة صروح فرعنة لعله من خلالها يبلغ أسبابها كما سنرى لاحقا.

المرحلة الثانية: أي مرحلة نشوء وتطور الفرعنة.. بواكير هذه المرحلة وتحديدا في أغسطس من عام 1990م جاءت بأول مشهد لفرعونيته، وذلك عندما أغلق الباب أمام الدور العربي لاحتواء الأزمة بين العراق والكويت، ومن ثم منح الأمريكان وحلفائهم الغطاء السياسي والقانوني لأن تحل جيوشهم وتتواجد وبشكل صارخ في الأرض العربية، ثم تسهيل ضرب العراق وإحكام الحصار الذي فُرض عليه عام 1990م إثر غزو العراق للكويت إلى أخر ما تلا ذلك من تداعيات، وكل ذلك كان من على منبر الجامعة العربية وبتحايل محكم من مبارك على قمتها التي انعقدت حينذاك.

صحيح أن معطيات تلك المرحلة وأجواءها السياسية كانت ملبدة بالغيوم، وصحيح أن القيادة العراقية حينها كانت قد ارتكبت خطاء فادحا بغزوها الكويت، وصحيح أيضا أن بعض القيادات العربية كانت تشاطره التوجه والرؤية مما ساعده على تزييف الحقائق لإقناع غالبية المصريين وغيرهم من العرب بما تبناه، وصحيح أيضا أن أمريكا والغرب قد شجعته وقدمت له دعما قويا منقطع النظير بعد أن اكتسب ثقتها، فأغدقت عليه حينها بالمساعدات والدعم اقتصادي والسياسي وغيره بما مكنه أيضا من تحقيق قفزة نوعية في مستوى المعيشة أرضى بها غالبية الشعب المصري، لكن ذلك أي خيار التدخل العسكري الدولي لم يكن هو الخيار الوحيد لاحتواء الأزمة بين العراق والكويت حينذاك، فالحل العربي كان ممكنا، لكنه لم يمنح الفرصة الكافية حتى يُمكن اختبار قدرته من عدمه في احتواء الأزمة، حيث حكم عليه حينها مسبقا بالفشل.

عموما قبض مبارك حينها الثمن بما أسلفنا، لكنه كان ثمنا مرحليا مقابل الترتيب والتهيئة لأجندة مستقبلية أمريكية وغربية خطيرة لا تقف عن حدود تحييد مصر عن دورها الريادي الوطني في المنطقة العربية كما كان عليه الحال في ثمانينيات القرن الماضي، بل تجاوزها لتصل إلى حدود توظيف مصر وعظمة مصر وشعبها وعروبتها بعد عودتها للحظيرة العربية كجندي خادم ومنفذ للأوامر الأمريكية والغربية وأيضا الإسرائيلية لترجيح الكفة الإسرائيلية في الصراع العربي الإسرائيلي وإخضاع المنطقة العربية للهيمنة الإسرائيلية الأمريكية وحلفائهما الغربيين.

بالتأكيد أن ذلك قد مثل بمثابة نقلة غير مسبوقة في تاريخ ودور مصر العظيمة المستوحية لعظمتها من وقائع التاريخ المشرفة لها في المحيط العربي والإسلامي وحتى الأفريقي، لكن معالمه في الساحة السياسية المصرية وكذا العربية لم تتضح تماما بجلاء خلال العقد الأخير من القرن الماضي حيث لا زال هنالك متسعا للمغالطة والتزييف، علاوة على أن أمريكا والغرب تركوا له هامشا بسيطا لممارسة دور سياسي في بعض شئونها المحسومة من قبلهم من شأنه التشويه بمصر في المنطقة كأن يبتاع ويشتري في أحداث اليمن عام 1994م وفي الحصار الجوي على ليبيا ومثيلهما...الخ.

المرحلة الثالثة: مرحلة طغيان الفرعنة والتي يمكن تحديدها زمنيا منذ عام 2000م وحتى الـ11 من فبراير 2011م، وهذه يمكن وصفها بأنها امتدادا وتطورا لسابقتها، ومن ثم يمكن القول إنه إذا كان مبارك خلال التسعينيات قد مارس سياسات الفرعنة خارج الساحة المصرية إلا أنها قد أسست لامتداد ساحة فرعنتة لتشمل بالإضافة إلى الساحة العربية أيضا الساحة الداخلية المصرية، وفي كليهما بالصورة الطغيانية، فقد مثلت أولى ممارستها الطغيانية في الساحة العربية ظاهرة التخلي عن القضية الفلسطينية وتركها فريسة للغطرسة الإسرائيلية والعنجهية الأمريكية، لا بالإحجام عن تقديم الدعم التي كانت تتعطش له كل من الانتفاضة الفلسطينية الثانية وجولات مفاوضات الفلسطينيين مع الكيان الصهيوني التي كان على رأسها الرئيس عرفات فقط، بل أيضا من خلال لوي الذراع العربية عن الإسهام في تقديم أي دعم ممكن، والجميع يدرك ما ترتب على ذلك من اعتقالات وتصفيات للفلسطينيين في مخيماتهم ومدنهم وقراهم منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم والتي طالت الشعب والقيادات على حد سواء وعلى رأسهم الرئيس عرفات الذي تؤكد الكثير من التقارير بأن وفاته جاءت كنتيجة لعملية تسمم حبكتها المخابرات الإسرائيلية مع بعض مرتزقة السلطة.

 ثم تلى ذلك مباركة مبارك غزو بوش واحتلال قواته وتدمير جيوشه للعراق عام 2003م، والذي ترتب عليه إحداث تدمير هائل للعراق، مصحوبا بسفك دموي وحشي في صفوف أبنائه، وإرباكات سياسية وإختلالات أمنية، معاناتها لا تزال مستفحلة حتى اليوم، ثم ما ترتب على ذلك من إحداث تحول استراتيجي في موازين القوى في المنطقة تمثل في إخراج العراق من المعادلة العربية وضمه إلى المعادلة الإيرانية.

تبعا لذلك وجراء تخلي مبارك في المراحل السابقة عن دور مصر في المنطقة لأمريكا وحلفائها الغربيين، على الصعيد الإقليمي سواء العربي أو الإفريقي بدت تطورات الأحداث في مشاهدها تصيب مصر ومصالحها في العمق إصابات متفاوتة بحسب قرب أو بعد مصر منها، فقد بدت هنالك معالم قصور في سمات الأداء الأمريكي والغربي التي تضطلع به في كافة شئون المنطقة نيابة عن مصر ومن وراءها العرب، تمثل أبرزها في الأتي:

1.    فراغ لا يمكن لأمريكا وغيرها من خارج المنطقة تغطيته، وبالمقابل طبعا غياب سياسي مصري ومن وراءه عربي عن تغطية هذا الفراغ ، ترتب عليه وثوب إيراني وتلاه تركي لتغطية هذا الفراغ وبمباركة أمريكية.

2.    عدم اكتراث أمريكي وغربي بالمصالح الإستراتيجية لمصر خصوصا والعرب عموما في مجريات الأحداث والتطورات في المنطقة، في ظل تغافل وصمت مصري وعربي آل إلى عجز عن تلافيه وتدارك تداعياته.

 ومع خطورتهما على مصر خصوصا والعرب عموما إلا أن غياب حيثياتهما في اعتبارات ومقتضيات المصالح الأمريكية خصوصا والغربية عموما هو الذي لا يعطي أحدا أي حق في إطلاق أي لوم على أمريكا وغيرها من الغربيين حيال ذلك القصور أو تحميلهم تبعاته، لأنه وبمفاهيم السياسة وأعراف العلاقات الدولية السائدة في العالم اليوم أنها أي أمريكا وغيرها من الغربيين الذين مكناهم من الولاية بشئوننا غير معنيين إلا بمصالحهم فقط، أما مصالح الغير ومنهم نحن فلا.. طالما ليس لها علاقة بمصالحهم، وهذا المفهوم أضحى عرفا سائدا في العلاقات الدولية بين الأمم والشعوب ويعرفه أبسط الناس ناهيك عن القياديين والسياسيين المتخصصين الذين درسوا أبجدياته في علوم السياسية ويجدون حقائقه في ممارساتهم اليومية لأنشطتهم، ومن ثم فإن اللوم على ذلك وتبعات مسئوليته هي على فرعنة مبارك وسياساته التي حالت بين مصر ومن وراءها العرب جميعا وبين حماية مصالحهم والسهر والذود عنها.

 قد يأخذ علينا البعض أننا ربما نتعرض لإيجابيات مبارك على استحياء، وهذا صحيح لكن يمكن القول إنها وعلى وضاعتها لا محل لها من الإعراب في حياة الشعب المصري، وإلاّ لما التهب شباب مصر مؤخرا، ومن ثم فإن أحداث ثورة مصر هي التي فرضت علينا في هذا التناول التركيز على السلبيات باعتبارها هي المحرك لتلك الثورة، حتى تتجلى العبرة منها.

سياق تناولنا يقودنا للتركيز واستخلاص ماهية وأثار القصور والتقصير لسياسات مبارك من على هرم مصر التي كان من المفترض أن تنهض بها من منظور مكانتها وإمكانياتها على الساحتين العربية والمصرية خلال هذه المرحلة منذ عام 2000 م وحتى اليوم، والتي يمكن إجمالها أولا على الصعيد العربي في الأتي:.

1.    أجرمت سياسة مبارك باتجاه العراق لأنها وفرت الغطاء الشرعي والمادي لتدميره وذبح أبنائه.

2.    وارتكبت خطأ فادحا عندما أخرجت العراق من الكفة العربية في موازين القوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة وتركته لإيران حتى تستبيحه ثم تضيفه إلى موازين قواها في المنطقة

3.     حرمت المصريين من ثلاثة مليون فرصة عمل كانت متاحة لهم في العراق.

4.    وأجرمت سياسة مبارك باتجاه لبنان عندما أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لشن حربها على لبنان عام 2006م .

5.    أجرمت باتجاه فلسطين والفلسطينيين في مواضع عديدة بدأت بترك الفلسطينيين فريسة للمفاوض الإسرائيلي والوسيط الأمريكي كما أسلفنا، ثم عندما سمحت لإسرائيل بقمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية ثم السماح بشق الصف الفلسطيني، وبلغت ذروة إجرامها بمباركتها العدوان الإسرائيلي وحربه الوحشية على غزة وإحكام الحصار عليها، وما ترتب على ذلك من إهانة لمصر وعظمتها التي جعل منها جنديا تحت إمرة الجنرالات الصهاينة لينالوا من صمود الفلسطينيين في غزة وكسر شوكتهم عنوة حتى يسلموا للإسرائيلي المحتل ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية.

6.     أخطأت باتجاه السودان عندما احتضنت الحركة الشعبية وغيرها من الفصائل السودانية المعارضة دون أن توظف ذلك نحو بلورة مبادرة ومواقف من شأنها التوفيق بين أطراف النزاع في السودان دون المساس بوحدته وأمنه واستقراره، فقد تركت ذلك للأجندة الغربية التي آلت بالوضع هنالك إلى إصابة الأمن المائي المصري في العمق.

7.    أخطأت باتجاه الصومال بصمتها المطبق حيال ما يجري به على امتداد أكثر من عقدين من الزمن والإحجام عن بلورة مبادرة عربية لتحقيق الوفاق والسلام في الصومال.

وبالطبع كل تلك السياسات التي مارسها مبارك على الساحة العربية باسم مصر لم تكن تجسيدا لإرادة كافة قطاعات الشعب المصري، حيث كان هنالك قطاعات واسعة من الشعب المصري لها تذمراتها منها لكنها لم تجد أذانا صاغية من قبل مبارك ونظامه.

عموما ذلك وإن بدى أنه ربما بعيدا عن الشأن المصري الداخلي المباشر إلا أنه لم يكن بعيدا عن مكونات حيثيات وخلفيات الثورة الشعبية التي أسقطت نظام مبارك في مصر في الأيام الماضية، ومع ذلك فإن الممارسات والسياسات الفرعونية التي مارسها مبارك على الصعيد الداخلي المصري هي التي كانت حاسمة في تعزيز الاحتقانات في أوساط الشعب المصري في سلسلة من التطورات المتواكبة وذلك كما يلي.

على خلفية حاجة مبارك منذ وقت مبكر من حكمه للسيطرة على التذمرات الداخلية من سياساته على الساحة العربية والتي بدت في البداية تحت السيطرة، إلا أنه ومن منظور توقعه لسير تلك التذمرات نحو التزايد تبعا للتزايد في انحرافات السياسة الخارجية المصرية على صعيد القضايا العربية المتعاقبة من وقت لآخر وبالصورة التي ترضي أمريكا وإسرائيل، فقد مضى مبارك باتجاه تشديد إحكام قبضته على السلطة بالحديد والنار تمثلت أبرز معالمها في الأتي:-

ضرب وقمع العمل السياسي وآلياته عبر منهجية تفريخ الأحزاب والتنظيمات السياسية التقليدية وتشتيت القوى الوطنية على المسرح السياسي وكذا منظمات المجتمع المدني في الساحة المصرية، وكبت الحريات والاعتقال والتعذيب، وقد اعتمد مبارك في ذلك على آليتين رئيسيتين: الأولى سياسية ممثلة في الحزب الوطني والثانية قمعية ممثلة في أجهزة الأمن والشرطة السرية وقوات الأمن المركزي التي تزايدت أعدادها تزيدا مذهلا إلى أن وصل تعداد أفرادها وفقا لبعض الإحصائيات إلى مليون وستمائة ألف عنصر، وهما الآليتان التي شهدتا اهتماما ملحوظا من مبارك وتطورا في دورهما على مختلف شئون الحياة العامة في مصر، معززا بتناغم في الأدوار بما كفل السيطرة التامة على تفاعلات المسرح السياسي في مصر وقطف ثماره على مدي فترة حكمه.

صور تناغم الأداء وتقاسم الأدوار بين الآليتين كانت تتضح بجلاء في الكثير من الفعاليات، لكن كان أبرزها وأهمها هي الفعاليات الانتخابية بمختلف نوعياتها- النيابية المتعلقة بانتخاب مجلسي الشورى والنواب، والمحليات، وأيضا الاستفتاءات العامة مثل الاستفتاء على الانتخابات الرئاسية، وأيضا الانتخابات النقابية والمهنية وغيرها، والتي كانت تتعرض إلى حضور ورقابة أمنية وعبث تزويري صارخ في مواسمها المختلفة واستحقاقاتها المتعاقبة ابتداء من استفتاء الرئيس السادات على معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1978م وحتى أواخر عام 2010م التي شهدت أخر انتخابات نيابية لكل من مجلسي النواب والشورى ، ولعل مشهد تعاقب استحقاقاتها من تارة إلى أخرى قد حمل لنا ولغيرنا العديد من المؤشرات عن أساليب إخضاع صناديقها وكل ما هو مرتبط بممارستها نحو توجهات النظام وإراداته والتي اتخذت أساليب متعددة منها مثلا تجنيد الآلية الأمنية الضخمة المدججة بالسلاح والإرهاب والمال السياسي إما إلى إجبار الناخبين على التصويت عكس إراداتهم الانتخابية وتحديدا لصالح مرشحي الحزب الوطني أو منع الناخبين المستشرف أن لهم خيارات انتخابية معارضة من الوصول أو الدخول إلى اللجان الانتخابية للإدلاء بأصواتهم، وما كان يصاحب ذلك من جهد تزويري محموم لصناديق الاقتراع إما بإضافة صناديق ممتلئة ببطاقات اقتراع وإحضارها من خارج اللجان إلى داخلها أو بإضافة بطاقات اقتراع لصالح مرشحي الحزب الوطني في داخل اللجان، ومشاهد ذلك كانت ترد بالصورة والصوت عبر العديد من الفضائيات ووسائل الإعلام المحايدة في تغطياتها للفعاليات الانتخابية المتواكبة من وقت لآخر في مصر، لكن كان أشدها وأخرها (ونرجو أن تكون أخرها) ما شهدته انتخابات مجلسي الشورى والنواب الأخيرة التي جرت في العام الماضي 2010م والتي تعالت أصوات التنديد بهما من مختلف الأوساط المصرية وعبر الإعلام المصري الرسمي، ولعلي في هذا الصدد ومن خلال متابعتي لتناولات الفضائيات لأحداث ثورة شباب مصر قد التقطت معلومة عن ذلك التزوير الفاضح والغير مقبول بأي منطق وردت على لسان احد ضيوف قناة الحياة المصرية الفضائية التي استدل بها في معرض حديثه المتذمر من التزوير الفاضح لتلك الفعاليتين الانتخابيتين أي انتخابات مجلسي الشورى والشعب حيث يقول مستغربا( كيف يمكن لأحد مرشحي الحزب الوطني في انتخابات مجلس الشورى الأخيرة أن يحصل على 238000 صوت في حين أن الناخبين الذين يحق لهم التصويت في الدائرة الانتخابية المقيدين في جداولها لا يزيد عن 138000 ناخب). 

وعليه فإن نتائج ذلك على المزاج العام في أوساط الشعب المصري وقناعاته حيال الفعاليات الانتخابية قد انعكس باستياء شديد مصحوبا باحتقان سياسي تراكمي لم يجد الشعب وقطاعاته من وسيلة حينها للتعبير عنه سوى الإحجام عن المشاركة في تلك الفعاليات، وهو ما يمكن استقراءه من خلال إحصائيات المشاركة الشعبية في الفعاليات الانتخابية المتعاقبة مؤخرا، فمثلا أفصحت الإحصائيات عن نسبة مشاركة في انتخابات الرئاسة عام 2005م تراوحت بين 20-25% من القوة الناخبة، ثم سارت باتجاه الانحسار عندما تراوحت نسبتها بين 17-20% في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة عام 2010م.

وهذا لا شك لا يخلو من دلالة مفادها أولا: تجذر القناعة المسبقة لدى الناخبين المصريين بعدم جدوى المشاركة فيها، لأن نتائجها مهما كانت ستزور عكس إرادتهم الانتخابية، وثانيا: مضى حالة الاحتقان السياسي نحو التصاعد يوم بعد آخر.

ومع كل ذلك فإن القطاعات السياسية في مصر ربما كانت ترى في اقتراب خروج مبارك من السلطة بارقة أمل في التغيير والخروج من ذلك النفق المظلم... لكن... إذا بهم يفاجئوا بسياسات مبارك ونظامه تسير باتجاه توريث السلطة والحكم لأبنه جمال، وأن الخطى حثيثة نحو ترتيباتها وبنفس الآليات أي الأمن والحزب الوطني، وهذا لا شك أنه قد زاد من شدة الاحتقان السياسي في مصر، لأن ذلك يعني مصادرة أمالهم وتطلعاتهم في التغيير الذي ينشدونه، وأن من شأن ذلك الحكم عليهم بثلاثة عقود أخرى في أقل تقدير تحت وطأة تلك المعاناة.

ومع عدم تقبل الشعوب لمفهوم التوريث للحكم والسلطة شكلا ومضمونا في جمهوريات العالم بأكمله، ومنها مصر وغيرها من الجمهوريات العربية ، بل وحتى بدى أن هنالك تذمرا مدويا منها في مملكات وإمارات وسلطنات العالم الثالث، إلا أن الصيغة التي طرحت بها في مصر وحتى في غيرها والآليات التي تعتمد عليها لتجسيدها في واقع الحياة السياسية المصرية كانت منفرة للغاية، فكل من الحزب الوطني والمؤسسة الأمنية القمعية هي آليات مغضوب عليها في الأوساط المصرية ولا يمكن أن تكون آليات جذابة لتحقيق أدنى مستوى من الإقناع بجدوى التوريث وصلاحيته على غيره من الخيارات المتاحة أمام الشعب المصري، ولعل أبرز مسببات عجزهما عن ذلك أو بغيره هو أنهما وعلاوة على ما سبق إيضاحه عن منهجية وماهية الدور الذي لعبانه في الحياة السياسية المصرية خلال الفترات الماضية قد عملتا على استبعاد وتهميش الأوساط الثقافية والفكرية العريضة في مصر واستبدلتهم بما يسمى ببلاطجة السياسة، كما عمدت إلى استبعاد وتهميش تكنوقراط الإدارة والسياسة والاقتصاد المشهود لهم بالكفاءة والخبرة في قيادة مؤسسات وأجهزة الدولة في مصر واستبدلتهم بفئة انتهازيي المصالح من التجار ورجال الأعمال.

وهذا كان له انعكاساته على أداء الحكومات في مصر حيث جعلها أسيرة مصالح أولئك التجار ورجال الأعمال، والانصراف عن الشأن العام بل وعدم الاكتراث من الإضرار به عند تقاطعه مع مصالحهم، ناهيك عن بروز معالم عجز محورية في أداء الدولة والحكومة تجلت أبرزها معالمها في فشل الحكومة في الإيفاء بأي حد أدنى من وعود الإصلاح الاقتصادي التي كانت تطلق وعودها من وقت لآخر والتي كان أحدثها وعود الحملة الانتخابية الرئاسية لمبارك التي جرت عام 2005م، أما على الصعيد الخارجي فإن فشل الحكومات المصرية السابقة لا في درء التهديدات الإفريقية الخطيرة لحصة مصر من مياه النيل بل حتى في إدراكها قد مثل أقوى صيحة مدوية على ذلك العجز والفشل في أوساط الشعب المصري.

تلك هي الخطوط العامة لخارطة طريق الثورة الشعبية التي توقدت في مصر خلال الأيام الماضية، أما إذا عدنا إلى مشاهد وقائع هذه الثورة التي تابعناها لحظة بلحظة، فإنه يمكن القول إنه ومع لهفتنا الشديدة على هذه الثورة من محاولات الوأد المحمومة والمسعورة التي تجاوزت أساليبها كل الأعراف والقيم الأخلاقية والسياسية الغير مكترثة بمصر وعظمة مصر ومكاسب مصر، إلا أنه ما ذا يمكن لنا توقعه من قبل نظام ديكتاتوري مستبد فاسد ؟

ما ذا يمكن لنا توقعه من ديكتاتور استمراء على مدى أكثر من ثلاثة عقود سرق وتزييف إرادات شعبه؟

ما ذا يمكن لنا توقعه من ديكتاتور استمراء وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود البلطجة في التعامل مع مختلف شئون السلطة والحكم؟

ما ذا يمكن لنا توقعه من ديكتاتور استمراء على مدى أكثر من ثلاثة عقود الاستخفاف والتفريط بالحقوق والمكتسبات المصرية والعربية والفلسطينية؟

ما ذا يمكن لنا توقعه من نظام يتحكم بمفاصله الانتهازيون واللصوص والبلاطجة؟

ما ذا...ماذا...ماذا...الخ؟

بالتأكيد المتوقع كما شهدنا...فرعنة... كِبر وغرور وسخرية واستهجان، اعتمد القمع والقتل والعنف حتى في صورة بلطجة ، ثم تهديدات ووعود، ثم تحايلات ماكرة، ثم توددات مرواغة، وما هو على شاكلة ذلك مما شاهدناه من مشاهد وأفعال وردود أفعال في وقائع وأحداث ثورة شباب مصر خلال الفترة من 25 يناير وحتى 11 من فبراير.

ومع ذلك كان لشباب مصر ومن وراءهم شعبها الغلبة، ولكن...متى؟... عندما اعتصمت قواهم بحقوقهم في تجسيد إرادتهم، لأن موازين العدل لا تنحني إلا لقوى الحق فيما إذا صممت على التمسك به، وأحسنت إحكام قبضتها عليه. 

عموما الثورة حققت انتصارا أوليا عظيما حتى اللحظة، لكن لا تزال لها بقية، ومطلوب استكمال فصولها والثقة كبيرة في أن قوة وإصرار وعزيمة وتصميم ووعي شباب مصر التي أسقطت رأس الفرعنة في نظامهم السابق هي الكفيلة باجتثاث ما تبقى .

 خلاصة القول من دروس ثورة مصر... إن الفرعنة بمختلف صورها وأشكالها وجبروتها وطغيانها ومهما بلغت واستقوت واستفحلت فهي إلى مذبلة التاريخ، وأن إرادة الشعب في مصر العظيمة وفي غيرها هي الباقية، وذلك كما هي اليوم محلقة في سماء مصر ناشرة ابتسامتها المشرقة في كل أرجائها أملا واعدا في تحقيق التطلعات لكل أبنائها رجالا ونساء شيوخا وشبانا مسلمين ومسيحيين.

  

إقراء أيضا