الرئيسية المقالات مدارات آليات القوة والعنف في موازين الربح والخسارة
آليات القوة والعنف في موازين الربح والخسارة
عبدالله أحمد العرشي
عبدالله أحمد العرشي

يجمع العالم بأسره ومعه حقائق التاريخ في كل العصور ولجميع شعوبه وأممه وأعراقه على أنه ليس هناك ما هو أسوءا من العنف وسفك الدماء في حياة الأمم والشعوب، ترى لماذا؟

الإجابة جلية كالشمس في وسط النهار... لأنه ليس هنالك ما هو أقدر من الدماء على إثارة الفتن بين الناس وبث الرعب والفوضى في المجتمعات.

كما أنه ليس هنالك ما هو أبلغ منها في تعميق الضغائن والأحقاد.

وليس هنالك ما هو أكفاء منها على تدمير كل مقومات الحياة الاجتماعية وأسسها السياسية وركائزها الاقتصادية.

وليس هنالك ما هو أمهر وأدعى من تداعياتها على تفتيت الأمم والشعوب.

إنها أي الدماء النار التي تأكل الأخضر واليابس على البرية من بشر وحجر وشجر.

بالطبع نحن في اليمن والذين كان لنا باع مشهود له في هذا المضمار خلال الفترات الماضية نعرف جيدا كيف أثرت مسلسلات سفك الدماء علينا وعلى حياتنا الاجتماعية واستقرارنا المعيشي ونظمنا السياسية وتطورنا الاقتصادي، فقد نالت من كل ذلك في حياتنا الماضية ولا نزال نعاني منها حتى الآن، حيث انحصرت علاقاتنا الاجتماعية في أطرها الضيقة ولم تجروء على تجاوز أطر القبيلة أو العزلة أو المحافظة في أحسن الأحوال، وكانت ظروف عيشنا عرضة لعصف التغيير والمتغيرات هنا وهناك، وظلت أنظمتنا السياسية رهينة التجزئة والصراعات والثارات السياسية، وظل تطورنا الاقتصادي كسيح ووضعنا التنموي حبيس التخلف.

اليوم وعلى وقع فعاليات ثورة الشباب وحركة الاعتصام والتظاهرات المحمومة في الكثير من محافظات ومدن الجمهورية المطالبة بتغيير النظام والمستهدفة إنجاز ذلك بطرق ووسائل سلمية عبر التظاهر والاعتصام دون سلاح أو مما من شأنه إسالة الدماء، أعتقد أن بلادنا على مفترق طرق ومنعطف مهم، فهذه الأحداث وعلاوة على أنها بمثابة نزاع بين طرفين هما النظام الحاكم وعلى رأسه الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية، وبين فئات عريضة من الشعب مناوئه له وللنظام، فهي لا تخلو أيضا من ملمح تصارعي آخر خفي، هو من حيث وسائل الصراع المستخدمة والمتاحة صراع بين عهدين، عهد قديم لا يزال يحن إلى الآليات العنيفة والوسائل الدموية في إدارة الصراع وعهد جديد حضاري يؤمن بالسلم والآليات والوسائل السلمية في مواجهة الخصوم.

فإذا سلمنا بهذا فإنه يمكن الجزم بأن أهداف المشهد الثوري المتفاعل في شوارع وساحات الاعتصام بالعديد من محافظات الجمهورية ومدنها لم تعد قاصرة على تغيير نظام الحكم فقط، بل أيضا هنالك هدف آخر ربما يفوق الهدف الأول أهمية والمتمثل في إرساء أسس جديدة وحضارية لبلادنا وشعبنا في خوض الثورات وإحداث التغييرات والتحولات المستقبلية سواء استهدفت الأنظمة السياسية أو سلطات الحكم وغيرهما والمتمثلة في السلم وآلياته.

خلال الفترات الماضية ظلت سمة التسلح التي يحرص عليها الكثير من اليمنيين مدعاة في جميع بلدان العالم لوسم شعبنا اليمني بالتخلف والعنف والدموية...الخ، وربما حتى اليوم... ورغم السمة السلمية لفعاليات ثورة الشباب وعزوفهم عن إظهار أسلحتهم في مشاهد تظاهراتهم واعتصاماتهم (على الرغم من اقتناء أغلبهم لها) أو التلويح باستخدامها والذي لا شك أنه لا يخلو من إعجاب الكثير في العديد من البلدان خصوصا منها تلك التي تعرف اليمن وخصائص مجتمعه ولها اهتمامات باليمن وشعبها، إلا أن تمام ذلك الإعجاب وكماله وديمومته مرهون بسمات المشاهد المتبقية، وما إذا سيكون للسلاح والعنف والدماء علاقة بها من عدمه.

إذا.. ومع أن بلادنا قد ضاقت ذرعا بالعنف وعانت كثيرا من دواماته، وأن شعبنا قد سئم من الدماء وعانى كثيرا من مراراتها، إلا أن شعبنا وبلادنا بما يعتمل منه فيها خلال هذه الأيام وهذه اللحظات من فعاليات ثورية لا يزال في المحك ومحل اختبار وترقب خارجي وداخلي، طارحا على الطاولة عدد من التساؤلات، مفاد أبرزها...ترى هل ينجح اليمنيون في تحقيق أهداف ثورتهم سلما؟ أم أنهم سينزلقون نحو العنف والدماء؟.. لمن ستكون الغلبة يا ترى؟... هل للشباب المتسلحين بالوعي المؤمنين بقدرة وفعاليات الآليات السلمية على تحقيق أهدافهم وتطلعاتهم؟ أم لمن يحن إلى العنف ولا يرى فيما سواه أي كفاءة أو قدرة على الحسم؟.

ومع أهمية ذلك، إلا أن ما هو أهم منه هو ضرورة التفكير وبعمق في جدوى العنف وآلياته ونتائجه في بلوغ الغايات، ولكلا الطرفين على حد سواء، سوءا أكان بالنسبة لشباب الثورة، أو بالنسبة للنظام...وحتى نتبصر الروية عن ذلك تعالوا سويا نتكشف مبيناته من خلال هذه الأسطر في صفحات الأحداث المماثلة وخصوصا منها القريبة جدا والحديثة العهد بنا، بل حتى منها تلك التي لا تزال فعالياتها تعتمل حتى اللحظة، لنتحقق هل سُجل للعنف بها مشهدا يفتخر به؟ وهل أنجزت المدافع أو حققت لمن يعتد بها نصرا أو جدوى أو مكسبا عظيما يعتد به؟

سجل وقائع أحداث الثورة في كل من تونس ومصر والبحرين وليبيا وأيضا اليمن تفصح لنا بالحقائق التالية:

أولا: بالنسبة للأنظمة التي بيدها آليات القوة من جيوش وقوى أمنية ودبابات ومدافع وصواريخ وغيرها : وقائع تلك الثورات تؤكد على الأتي:

1.  الحسم العسكري مستحيل للغاية، فالقمع بآليات القوة... إما قد يكبت أنفاس الثورة إلي حين، لكنه لا يحسمها، حيث أن نيران الثورة تظل كامنة تحت الرماد وذلك كما هو الحال مؤخرا في البحرين، أو كما كان حالنا بعد حرب 1994م، أو أنه يشعل فتائل نيرانها هنا وهناك فتتحول إلى تمردات وقتل وقتال وخسائر فادحة في الأرواح وتدمير للمنشئات الاقتصادية والبنى التحتية وهلم جرا من ضغائن وارتهان و...و...الخ كما هو جار مع الأسف حاليا في ليبيا.

2.  الهروب من المواجهة المباشرة عبر البلاطجة والمستأجرين كما حدث فيما أضحي يعرف بواقعة الجمل في ميدان التحرير بالقاهرة في 29، 30 من شهر يناير الماضي، وكذا كما حدث هنا في صنعاء وفي غيرها من ساحات الاعتصام في تعز وعدن وغيرها في مواقيت متفرقة والتي كان افضعها يوم الجمعة 18من مارس الماضي في صنعاء وفي الأيام القليلة الماضية بتعز، لم ولن تنجز للأنظمة حسما، بل على العكس من ذلك، فعلاوة على حتمية الفشل التي آلت إليه وخيبة الأمل التي ألمت بالمعولين عليها، فإنها وكما لاحظنا ومن خلال ردود أفعالها قد أضرت بأصحابها كثيرا حيث أضعفت مواقفهم في المواجهة وشوهت بهم لدى كافة الأوساط الداخلية والخارجية، ولاقت استنكارا وإدانة إنسانية رسمية وشعبية دولية وإقليمية، وبالمقابل أكسبت شباب الثورة المزيد من الالتفاف الشعبي والمزيد من التعاطف الدولي الرسمي والشعبي.

ثانيا: أما على صعيد الفعاليات الثورية المتمثلة في شباب ومجاميع الثورة: فإن وقائع الثورات العربية الحديثة لا تدع مجالا للشك في أن:

1.  سمتا السلم والصمود للتظاهرات والاعتصامات في كل من مصر وتونس كانتا هما الحاسمتان في إسقاط النظم بهما وبأقل قدر من الخسائر البشرية والمادية، في حين أن سمة التسلح والمقاومة المسلحة قد أفرغت الثورة الليبية من سمة المدنية المسالمة بما نال من قدراتها على بلوغ مشارف الحسم حتى الآن، علاوة على تلك الخسائر الفادحة في الأرواح من كلا الطرفين والتدمير الذي أصاب المدن والبنى التحتية والمنشئات التنموية والاقتصادية، ناهيكم عن مترتبات ذلك من انزلاق نحو المجهول ( حرب أهلية – تقسيم – تدويل...الخ).

2.   حياد آليات القوة في المجتمع وأبرزها وأهمها الجيش، وكذا الالتفاف الشعبي حول ثوار تونس ومصر والمنبثق عن عمق كل من تجانس البنية المجتمعية وتجذر الوعي في أوساطهما، وما ترتب على ذلك من اكتساب إسناد دولي رسمي وشعبي قوي كان له تحقيق الحسم وخلال فترة قياسية لم تتجاوز 18 يوما في مصر و3 أسابيع في تونس، في حين أن انقسام الجيش في ليبيا وانخراط قسم منه مع الثوار في خوض الفعاليات الثورية بما توفر لهم من السلاح، قد لوى أذرع قوى المجتمع المدنية في ليبيا وبسرعة من نسج عرى قوية لالتفاف شعبي حاسم حولها، ومن ثم فعلى الرغم من مضي أكثر من 60 يوما على فعاليات الثورة في ليبيا، وهي زمنيا تجاوزت ثلاثة أضعاف الفترة التي استغرقتها كل من ثورتي كل من تونس ومصر، لم يلح حتى الآن في الأفق أي بادرة للحسم موثوق بها.

3.  الإرادة الشعبية الداخلية القوية وليس الدعم الخارجي، هي التي كانت الفيصل في إحداث التغيير المنشود وحسمه سريعا في كل من مصر وتونس على الرغم مما كان يحضى به النظامان بهما من رضى وتأييد قويين إقليمي ودولي رسميين، في حين أن السخط الإقليمي والدولي على نظام القذافي والذي حفز أطرافه للتدخل المباشر في الشأن الليبي عسكريا وسياسيا وغيره لم يفلح عن مؤازرة مثمرة للثورة على الأرض، بل أضفى عليها المزيد من التعقيد وأسهم في انزلاقها نحو المجهول كما سبق الإيضاح عنه، لاختلاف في نوعية ذلك الدعم وحدوده، فالدعم الخارجي الذي حظيت به كل من ثورتي مصر وتونس أتسم بوجود مسافات كافية وواضحة بينه وبين التدخل المباشر، حيث أقتصر على المؤازرة المعنوية الشعبية والرسمية وهو ما أضفي عليه قدر كبير من البراءة والايجابية مكنه من مؤازرة الثورتين حتى تحقق لهما النجاح، في حين أن تجاوز الدعم الخارجي للثورة في ليبيا لتلك المسافات ووصوله إلى حدود التدخل السياسي والعسكري المباشر، قد أصابه بقدر كبير من الضبابية والريبة وعدم الوضوح، بما لم يمكنه من تقديم عونا ناجحا ومثمرا.

4.  استجداء الدعم المباشر من الخارج والتعويل عليه لا يخلو من مساس حتمي بالسيادة وارتهان مستقبلي لأطرافه، كما أنه وبالصورة التي تطرح من بعض الأطراف السياسية في المعارضة يؤسس لديمومة غير مرغوب فيها، وهذا حتما سيؤول مستقبلا عاجلا أم أجلا إلى تعارض مع مصالح الوطن وإرادات الشعب.

عموما يمكن القول إنه وعلى الرغم مما علق بموكب ثورة الشباب المتوقد من ظواهر سلبية إلا أن جميعها تهون ويمكن معالجتها، أما عنف الدماء والتدخل الخارجي المباشر فلا.

وعليه أرجو أن هذه الأسطر ومضامينها وما تحذر منه قد مثلت تبيانا حقيقيا لمخاطر الدماء وعبث الغير، وأن صيحة تحذيراتها بلغت أذان وعقول أبنائنا الشباب شباب الثورة والتغيير حتى لا ينزلقوا بثورتهم هذه العملاقة إلى مستنقعات العنف أو الارتهان الخارجي وأن لا يدعوا أدنى مجالا لتسرب ذلك إلى تفكيرهم أو فرصة للاندساس بين صفوفهم مهما كلف الثمن، وصدقوني أن سلمية ثورتكم ونظافة أيديكم أيها الشباب من آثام العنف وظلمات العمالة حتى اليوم هو الذي قد جعل من وهج ثورتكم نورا وبهاء في سماء اليمن أرضا وأنسانا، تماما كما أشعلها في وجه النظام نارا وجحيما، ومن ثم فثقوا أن لا حاجة لكم لا لنيران الفتنة ولا لخبائث التدخل الخارجي، فأنتم منصورون بإذن الله ما دمتم على الحق، فصاحب الحق الذائد عن حقه بالحق، المستعين وبحق بالمولى الحق عزّ وجلّ لن يضيع له حق.

إقراء أيضا