مثلما هو الفرق واضح بين مفردات الدعاية الانتخابية وآليات إدارة الدولة، فإن البون شاسع بين كتابة التقرير الحزبي وإعداد خطة خمسية تتضمن إستراتيجية بلد لخمس سنوات قادمة تقع على عاتقها- أو هكذا يجب أن يكون- مسؤولية إنقاذ البلد من هاوية سحيقة أوشكت على الوقوع فيها، وهو ما لم يتنبه إليه معدو مشروع الخطة الخمسية الثالثة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ٦٠٠٢- ٠١٠٢م والتي قدمتها الحكومة الأسبوع الماضي إلى البرلمان يناقشها مجلسي النواب والشورى في اجتماع مشترك اليوم الثلاثاء.
عـادل عـبـدالمـغـنـي*
وعلى طريقة "كل شيء تمام يا فندم" ابتعد معدو مشروع الخطة الخمسية القادمة عن التعرض لمكامن الخلل الحقيقي والقصور الذي صاحب الخطة الخمسية الثانية، كما لم تُذكر أصلاً نسب النجاح لتلك الخطة.
وأكتفت مقدمة مشروع الخطة الخمسية الثالثة بسرد النجاحات والإنجازات التي حققتها الخطة الخمسية الثانية من خلال مفردات إنشائية تفتقر تماماً للأرقام أو تحديد ماهية تلك النجاحات ليؤكد واضعو الخطة أن اليمن شهدت خلال الخطة الخمسية ٠٠٠٢- ٥٠٠٢م تطورات إيجابية في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية.
وتصوروا ما الذي يمكن أن تفعله الخطة الخمسية القادمة التي قدرت لها ميزانية (٥ تريليون و٥٤١ مليار و٦١٢ مليون ريال) إذا كانت اعتمدت ومنذ البداية على مثل هذه المفردات الشبيهة إلى حد كبير إن لم تكن منقولة نصاً عن تلك المقالات المدبجة على صفحات صحف السلطة والحزب الحاكم التي تقتصر مهمتها على سرد قائمة الإنجازات الوهمية.
وإلا ماذا يعني أن يبدأ مشروع الخطة الخمسية القادمة بصفتها الأولى بالحديث عن تطورات إيجابية شهدتها اليمن خلال الخمس السنوات الماضية في المجالات الاقتصادية والاجتماعتية والسياسية والثقافية؟
وإن كنا لا نعرف ما هي الطرق المنهجية التي اعتمدت عليها الحكومة في وضع الخطة لاستنتاج تلك النتائج، وربما يجهل ذلك معدو الخطة أيضاً إلا أننا نتساءل: ألم تشهد اليمن خلال الخمس السنوات الماضية جرعات غلاء فاحشة للأسعار والخدمات دفعت بشريحة كبيرة من فئات المجتمع الى العيش تحت مستوى خط الفقر؟ وخلال هذه الفترة نفسها ضاق الوطن بأبنائه ذرعاً حتى وصلت معدلات البطالة داخل المجتمع إلى أرقام مخيفة، ليولي عشرات الألف من أبناء الوطن وجهتهم صوب حدود البلاد في مغامرة خطيرة لتخطي الحواجز الشائكة وسط نيران عسس الحدود التي يسقط ضحاياها العشرات بحثاً عن لقمة عيش، عجز عن توفيرها لهم الوطن الأم ليسدون من خلالها ألم أمعائهم الجائعة ومن يعولون، فعن أي تطورات إيجابية تتحدث الخطة.
الخطة الخمسية التي تحدثت بإسهاب عن التعليم ومنجزاته أغفلت أن أعداد الأطفال الذين لم يلتحقون في المدارس رغم بلوغهم سن التعليم في ازدياد مضطرد ومثلهم الطلاب الذين يخرجون من التعليم في الصفوف الأولى.
وبالطبع فإن الأوضاع الاقتصادية البائسة وراء تسرب الأطفال من التعليم خاصةً عندما نعلم أن قرابة ٢٥ ألف طفل تم تهريبهم إلى المملكة العربية السعودية وحدها خلال السنوات الخمس الماضية (وهي سنوات الخطة الخمسية السابقة) ولا نعتقد أن مثل هذه الفضيحة تدخل في إطار التطورات الإيجابية التي تتحدث عنها الخطة.
العجيب في الأمر أن واضعو الخطة لم يروا أي مكمن خلل صاحب تنفيذ الخطة الخمسية للوقوف أمامه ومعالجته لتفاديه مستقبلاً، وأن كل شيء إيجابي وجيد باستثناء عدد من العوامل أدت إلى انخفاض توقعات الخطة تمثلت في سقوط الأمطار في غير مواسمها وأحداث ١١ سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق وهو ما يدعو إلى السخرية والتندر والتحسر أيضاً والشعور الأخير ينتابنا عندما نشعر أن مثل هكذا عقليات هي من تخطط لمستقبل البلد.
سقوط الأمطار وأحداث سبتمبر وغزو العراق هي وراء كل ما وصلت إليه أوضاع البلد من تدهور وانهيار شبه كامل أما النهب الجائر للمال العام والفساد المنظم الذي ينخر داخل مفاصل الدولة ومؤسساتها المختلفة فذاك أمر لا علاقة له بما وصلنا إليه اليوم.
إذن هذا هو اليمن الجديد والمستقبل الأفضل الذي يعدنا به الحزب الحاكم.
فشل
ولأن ما قام على باطل فهو باطل فإن الأرقام والتقديرات التي احتواها مشروع الخطة الخمسية القادمة لا تبشر سوى بخمس سنوات عجاف قادمة ولا أجد أبلغ من توصيف الدكتور محمد الأفندي عضو مجلس الشورى للخطة الخمسية التي قال بأنها تحمل في بياناتها بذور فشلها بسبب اعتمادها على أرقام غير معقولة وأخرى مبالغ فيها.
الحكومة وفي إحدى شطحاتها التي ضمنتها في الخطة الثالثة ذكرت أن معدل النمو الذي تستهدفها خلال الخمس السنوات القادمة ١.٧٪ وهو رقم مبالغ فيه حسب عديد إقتصاديين أكدوا ذلك.
ربما أن حكومة الحزب الحاكم تحاول تحسين صورة المستقبل أمام المواطنين ولو من خلال أرقام وهمية كما هو الحال بأحجار الأساس التي انتشر الوزراء والمسؤولون مؤخراً في مختلف محافظات الجمهورية لوضعها لدرجةٍ بات فيها مسؤولو الدولة "أسطوات" يجيدون وبشكل لا يقارن حرفة البناء لكنها للأسف الشديد تقتصر فقط على بناء أحجار الأساس لمشاريع صار المواطنين يدركون مثلما يدرك المسؤولون أنها مشاريع تبدأ وتنتهي عند أحجار الأساس فقط.
ومثلما تنبئت الحكومة بنسبة نمو ١.٧٪ توقعت في شطحة أخرى أن تخفض نسبة الفقر إلى ٩١٪ خلال الخمس السنوات القادمة.
ولا غرابة في ذلك فالحزب الحاكم يدخل بعد أقل من شهر انتخابات رئاسية حظوظه فيها جداً منخفضة ويجب أن يسخر أي شيء يجده أمامه كدعاية انتخابية لصالح مرشحه حتى وإن كان ذلك خطة خمسية للدولة، فلا ضير أن تتواءم مع شعار مرشحه للرئاسة "يمن جديد.. مستقبل أفضل".
ويبدو أن شعار المرحلة القادمة اذا ما استمر الحال على ما هو عليه.. "يمن بائس، مستقبل مظلم".
ومثلما عمدت الحكومة على المغالطة المفضوحة في اعتبار نسبة الفقر خلال السنوات الماضية ٤٣٪ فقط بدلاً من ٧٤٪ حسب تقارير دولية، حددت سعر برميل البترول بـ ٩٥٪ دولار مع أن الجميع يعرف أن سعره الحالي تجاوز ٤٧ دولار وقابل للزيادة.
الخطة توقعت أيضاً خفض معدل النمو السكاني إلى ٥٧.٢٪ ونمو التكوين الرأسمالي الثابت بمتوسط سنوي ١.٩٢٪ ونمو الناتج غير النفطي بمتوسط ١.٠١٪ وإنجاز مشروع الغاز الطبيعي المسال وبدء استغلال عوائده في عام ٠١٠٢م.
كما توقعت رفع نمو قطاع الزراعة بمتوسط ٥.٤٪ وزيادة الإنتاج السمكي بمتوسط ٧٪.
قدرت ميزانية الخطة بـ ٥ تريليون و٥٤١ مليار و٦١٢ مليون ريال منها ترليونان و٣٢٦ مليار ريال لقطاعات البنية التحتية، و٠٠٦ مليار للقطاعات الإنتاجية، و٠٧ مليار لتعزيز الحكم الجيد، و٠٠٣ مليار ريال لقطاع الخدمات الحكومية، و٠٠٥ مليار لحماية الضمان الاجتماعي، أما تنمية الموارد البشرية (تعليم، صحة، رياضة، شؤون اجتماعية، ومغتربين فقد خصص لها تريليون و٤٩ مليار ريال).
جدية
الأرقام كثيرة ومتعددة، أوردتها الخطة الخمسية القادمة للبلاد ليس من بينها طبعاً المليارات التي ستذهب إلى جيوب ناهبي المال العام ومهندسي فساد الدولة.
ويبقى أن نقول للحكومة أنه ليس من المهم وضع أرقام إيجابية مستقبلية لتطمين الناس وخداعهم بقدر ما يهم في الأمر التعامل مع الخطة بقدرٍ كبيرٍ من المسؤولية، واعتماد المنهجية السليمة في وضع التقديرات والتوقعات.
كما يبقى على عاتق الاجتماع المشترك لمجلسي النواب والشورى الذين يلتقون اليوم لمناقشة التقرير التفصيلي حول الخطة الذي أوكل للجنة المكلفة مهاماً جسيمة في تصحيح الأرقام المغلوطة والشطحات الغير مدروسة التي تضمنها مشروع الخطة.
ورحم الله الشهيد إبراهيم الحمدي الذي جعل من مجرد مفردة الخطة الخمسية عناوين عريضة لعيش هنيء، واقتصاد مزدهر يلمس ثمارها اليمنيون في سنواتها الأولى قبل أن تتحول اليوم إلى نذير شؤم وخليط من الكذب والتضليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ