تزخر الدراسات حول الإسلام وتاريخه، بصفة عامة، والدراسات القرآنية، بصفة خاصة، بالكثير من وجهات النظر والتأويلات المستندة إلى أسس أنثربولوجية وتاريخية ولغوية وغير ذلك، وبينما ساد البحث عن الأثر اليهودى والمسيحى فى الدين الإسلامى، فإن قلة من الباحثين اهتموا بالكشف عن تأثير ثقافة جنوب الجزيرة القديم فى بيئة الإسلام الأولى، وبالتالى فى مفاهيمه وأحكامه وألفاظه، ومن هنا يأتى كتاب «القرآن ونقوش اليمن»، الصادر عن «دار الرافدين»، الذى ترجم فيه محمد عطبوش عددًا من الدراسات ذات الصلة بهذه المسألة لنخبة من الباحثين.
يوضح المترجم أن مسلّمات أصول الإسلام فى البحوث الغربية قد تشكلت قبل اكتشاف وتحليل معظم نصوص اليمن القديم فى النصف الثانى من القرن العشرين، ما يفسر غلبة الاهتمام بإرجاع معظم المكونات الإسلامية إلى المسيحية واليهودية، بل إلى مقارنة شخصية النبى محمد بالمسيح، ولكن بعد الإضاءة على تاريخ اليمن القديم ونقوشه، لم يعد هذا مقبولًا، ولم يعد ينم إلا عن جهل بجديد الاكتشافات الأثرية المتسارعة فى اليمن.
ولا تنطلق البحوث، التى نشرت خلال الخمسين عامًا الماضية التى يضمها الكتاب، من محاولة إثبات الأصول اليمنية للقرآن على غرار محاولات بحثية سابقة سعت لإثبات الأصول السيريانية له، ولكنها بالمقابل تبرز الخلفية اليمنية للقرآن بوصفها عنصرًا مهمًا فى تكوين الإسلام، فيناقش المتخصصون قضية العلاقات اللغوية والمفاهيمية بين القرآن الكريم واليمن القديم، وتأثير عقائد اليمن فى بيئة القرآن، كما تعرض بعض الدراسات تفسيرات جديدة لبعض الآيات القرآنية وحوادث السيرة النبوية، وفقًا لأفكار وممارسات اليمن القديم الأقرب إلى بيئة الإسلام الأولى.
ينوه باحث، مثل روبرت سيرجنت، على أهمية هذا المسلك بالقول: «قبل البحث عن العناصر اليهودية والمسيحية فى الإسلام، سيكون من الحكمة بمكان أن نحدِّد ما هو عربى، وأعتقد أن هذا سيكون أكثر بكثير مما يفترضه العديد من الباحثين الغربيين»، كما يرى الباحث النرويجى يان ريتسو أن «الاكتشافات المدهشة والمستمرة فى جنوب الجزيرة العربية تعمل على تغيير وجهات نظرنا حول تاريخ ما قبل الإسلام بطريقة لم يلاحظها معظم الغرباء على المجال حتى الآن، فلطالما وجّه الباحثون أنظارهم نحو الشمال، بحثًا عن تأثيرات يهودية ومسيحية وغنوصية فى الإسلام من سوريا وبلاد ما بين النهرين، لقد حان الوقت الآن للتوجه نحو الجنوب».
ويستعين الأكاديمى الأردنى، هانى هياجنه، فى دراسته باللغة العربية الجنوبية وباقى اللغات العربية لدراسة أصول المفردات القرآنية، انطلاقًا من فرضية أن بعض الكلمات القرآنية لو فسرت على ضوء لغة النقوش العربية نجدها تحمل معنى يوضح مقصود الآيات بشكل أفضل، ومن اختبار جذر الكلمة القرآنية من خلال اللغة العربية الجنوبية، فضلًا عن مقارنة الكلمات والتعبيرات القرآنية مع نظيراتها المعجمية فى اللغة العربية الجنوبية.
ويصل «هياجنه» إلى أن المعنى المستخلص من اللغة العربية الجنوبية قد يُفسِّر الكلمات القرآنية ويعرض لها حقلًا دلاليًا جديدًا، وأن نقوش اليمن تكشف عن مدى تأثير ثقافة جنوب الجزيرة القديم فى بيئة الإسلام الأولى، وبالتالى فى مفاهيمه وأحكامه وألفاظه. فمن الكلمات القرآنية ذات المرجعية الجنوبية التى يتوقف عندها كلمة «الأخدود» التى تتصل بالتاريخ القديم، و«الأمانات» فى القرآن تعنى أولئك الذين لهم حق الاحتفاظ بمنصب وفقًا للنقوش العربية الجنوبية التى ظهرت بها الكلمة بمعنى خدام المعبد، أى شاغلى المناصب الإدارية، وغير ذلك من الألفاظ التى يحللها الباحث ويصل إلى دلالات مغايرة لها.
أما المؤرخ التركى سليمان دوست فيقارن الألفاظ العربية الجنوبية القديمة ومثيلاتها القرآنية المتعلقة بالطهارة، ليصل إلى إمكانية مناقشة فكرة الطهارة الطقسية فى الشريعة الإسلامية على خلفية المصادر النقشية العربية الجنوبية، ولوجود نظائر للأحكام القرآنية الصارمة عن الطهارة فى نقوش جنوب الجزيرة العربية أكثر مما فى الأحكام الأكثر تفصيلًا فى الكتابات الفقهية اللاحقة.
ويرى الأكاديمى الألمانى فيرنر داوم أن كثيرًا من جوانب وألفاظ وتوجيهات القرآن لا يمكن فهمها إلا من خلال خلفيتها العربية الجنوبية، فيقول: «تسمح لنا المراقبة الدقيقة للطقوس والعادات والمعتقدات المرتبطة بهذه الأماكن المقدسة بمراقبة الحياة اليومية لما ظل باقيًا من ممارسات على مدى آلاف السنين، وبالتالى إعادة بناء كاملة لنظام الدين السابق على الإسلام، فهو يرى أن الاحتفالات وما يرتبط بها من معتقدات متعلقة بالأضرحة متطابقة بينها جميعًا وتعكس تصورًا دينيًا واحدًا امتد حول جميع أنحاء جنوب الجزيرة».