الرئيسية المقالات مدارات ما معنى التعددية الثقافية (1-2)
ما معنى التعددية الثقافية (1-2)
قادري أحمد حيدر
قادري أحمد حيدر

إنّ المقصود هنا بمفهوم أو مصطلح "التعددية الثقافية" ليس جذره أو أصله الأنثروبولوجي الذي انطلقت منه الدراسات السوسيولوجية الاستشراقية الغربية التي أجريت على المجتمعات الافريقية، حيث ارتبط مفهوم "التعددية الثقافية" بدراسة الفئات والمجموعات السكانية على أساس أنثروبولوجي:عرقي، ديني، لغوي، -لمزيد من تفتيت المجتمع- على افتراض أن هذه الجماعات أو المجموعات لا تشكل وحدة اجتماعية ثقافية واحدة، بل هي مجموعات متنافرة، متناحرة، متضادة، على أساس من أصول أنثروبولوجية تاريخية أصلية محددة لها (القبلية، العرقية، الدينية، اللغوية، الثقافية) .

 وبما أن هذه المجموعات السكانية البشرية، يشكل كل منها مجتمعاً مستقلاً، قائماً بذاته، وفي عزلة عن الجماعات والفئات السكانية البشرية الأخرى في المجتمع الواسع الكبير، يعيشون في "جيتوهات" متجاورة ولا تفاعل أو امتداد أو تأثير أو تأثر فيما بينها إلا في الحدود الدنيا،(قطيع غير متعايش ولا متآلف)، فإنّ هذه الدراسات السوسيولوجية "الإفتراضية"، حاولت في العقود الأخيرة، الدخول والتغلغل في مجتمعات بلداننا العربية، وفي بيئة مجتمعاتنا الداخلية، في محاولتها تقديم قراءات مماثلة، ذات طبيعة أنثروبولوجية، -لأغراض سياسية مباشرة وليس علمية سوسيولوجية، بحثية،-كما هي في بعض الدراسات التي تستهدف البحث العلمي الموضوعي-دراسات هدفها العميق تقسيم وحدة المجتمع وضرب إمكانية قيامه واستمرار وحدته على أساس من الاندماج الاجتماعي الوطني، وعلى أسس وقواعد علمية موضوعية معاصرة (مدنية، وديمقراطية)، -منها مبادرة وزير الخارجية الأمريكية كيري / حول الأقليات الدينية -ونحن نقرأ اليوم العديد من الأبحاث والدراسات الإجتماعية اﻹستشراقية الانثروبولوجية التي تحاول بدأب أن تقدم "التعددية الثقافية" على هذا الأساس، ومن هذا المنظور .

 ونجد بهذا الصدد العديد من الدراسات عن اليمن تحديداً، وعن غيرها من دول المنطقة، وهي رؤية ثقافية أنثروبولوجية استعمارية استشراقية جديدة لإعادة تقسيم المجتمعات العربية على أساس الجذر العرقي.

 وهنا نجد انفسنا أمام سايكس – بيكو من جديد- ولكن على قاعدة وخلفية تقسيم تقوم وتتأسس على التقسيم الاقتصادي والمذهبي والقبلي ، والجهوي للمنطقة العربية، كما هي استمرار وامتداد لسايكس بيكو القديمة التي قامت على أساس التقسيم الجغرافي التاريخي (النقاء العرقي التاريخي) الذي لم يعد له وجود ولا أصل موضوعي أو ذاتي في الواقع اليوم.

 وهي محاولة لتدمير وتفكيك النسيج الاجتماعي الثقافي الوطني لبلداننا وشعوبنا، ومحاولة لقطع طريق أمام وحدة مدنية ثقافية اجتماعية تعددية وديمقراطية إبداعية، قاعدتها دولة مدنية حديثة.

إن مصطلح أو مفهوم "التعددية الثقافية" الذي نحاول في هذا القراءة الإشارة إليه، لا صلة له بتاريخية المفهوم الثقافي الأنثروبولوجي الاستشراقي الغربي.

 وقد اضطررنا إلى هذا التأكيد منعاً للالتباس، أو الخلط بين المفهومين في دلالاتهما السياقية الثقافية التاريخية المختلفة .

 فالتعددية الثقافية هنا إنما نعني بها التنوع الثقافي، نعني بها ثقافة الخصوصيات والتعدد والتنوع في إطار الوحدة، –كما سبق أن اشرنا- الوحدة التي لا ترفض الاختلاف وتقبل بالآخر كما هو، أي الثقافة "بمعناها النخبوي الذي يشير إلى الإبداع الثقافي بوجه عام، بما في ذلك التيارات والاتجاهات والمذاهب والمدارس والانجازات الثقافية المختلفة، أكثر مما يشير إلى الجماعات البشرية ذات الثقافات المتعددة والمتمايزة .

 وبقدر ما يشير تعبير التعددية الثقافية في تحفظ وتخوف، خاصة حين يصل الأمر إلى حد المناداة بمنح الجماعات الثقافية المتمايزة الاستقلال السياسي الذاتي داخل الدولة، بقدر ما يترتب على التنوع الثقافي في المجتمع الواحد من إثراء للثقافة الوطنية، حيث تصب مختلف التيارات والمذاهب الفكرية الأدبية والفنية في نهر الثقافة الوطنية"(1) وبهذا المعنى نفهم التعددية الثقافية والتنوع الثقافي، وضمن هذا السياق المفهومي نقدم رؤيتنا لمعنى التعددية الثقافية باعتبارها التعددية التي تخلق وتؤلف نسيجاً اجتماعياً وطنياً واحداً، متعدداً، وليس على قاعدة تقسيم المجتمع على أساس من الخصوصيات الثقافية القائمة في المجتمع، بعد تحويلها إلى هويات كلية قاتلة / متقاتلة، وما أكثر حالات ووقائع الخصوصيات التي هي دليل تنوّع وليست مدخلاً للتفكك والشقاق المجتمعي والدولتي. وفي ختام هذه الفقرة من المهم التأكيد أن ليس هناك فواصل حدية مطلقة بين المستويات الثقافية التي سنأتي على ذكرها أو الإشارة إليها في الفقرة التالية.

فالمستويات الثقافية هي الوجه الآخر للتعددية الثقافية، وهي امتداد موضوعي للخارطة الاجتماعية الاقتصادية الطبقية. وكما أن الوضعية الاجتماعية والاقتصادية الإنتاجية في بلداننا متداخلة، ورجراجة، يتعايش فيها أنماط إنتاج واستهلاك (اقتصاديا) مختلفة ، رأسمالية وما قبل الرأسمالية، فإن الوضع الثقافي يأتي بالضرورة حاملاً السمات العامة لذلك الوضع.

 بهذا المعنى نقرأ المستويات الثقافية، وبهذا المعنى كذلك نفهم معنى التعددية الثقافية، وليس من خلال المفهوم الانثروبولوجي الاستعماري الاستشراقي للتعددية الثقافية.

إن الحوار الصريح هو الفضاء الواسع الذي تتحرك فيه التعددية الثقافية، ونقصد بالحوار هنا الحوار السياسي والديني والاجتماعي والوطني والحضاري على قاعدة الإيمان الراسخ والعميق بحرية الرأي والفكر والتعبير (التعبير بمستواه العلمي، والحراك السياسي والاجتماعي، والخطاب النظري).

 ذلك أن حرية التعبير تعني القدرة على حماية الاحتجاج المدني السلمي الديمقراطي، بقدر ما تعني حرية القول والكتابة والخطاب عما تريد التعبير عنه.

 ومن هنا ندخل سريعاً إلى قراءة المستويات الثقافية القائمة في اتجاهاتها العامة في اليمن اليوم.

المستويات الثقافية الراهنة.

من الضروري في البداية التأكيد أن للثقافة بعدين هما: بعد سلوكي عملي موضوعي تاريخي يشتمل على مجموعة القيم والأعراف والتقاليد والأحكام والممارسات والمعتقدات الشعائرية الطقوسية العملية، والبعد الآخر ثقافي تجريدي خيالي إبداعي، مكتوب (أدب، فن، جمال، أيديولوجيا).

 وإذ كانت الأولى عملية مكتسبة بالخبرة والتجربة والتواصل الثقافي الاجتماعي، فالاخيرة ثقافة واعية عقلية . وسنحاول الإشارة لماما إلى هذين البعدين معاً، من منظور القبول بالآخر والاعتراف بحقه ووجوده الثقافي المستقل حتى تكتمل الصورة .

 ومن نقطة الانطلاق هذه يمكننا القول إن الواقع اليمني في تعدده الاقتصادي والاجتماعي يحتوي أو يتشكل من مجموعة رؤى، أو بنى ثقافية أساسية يمكن إجمالها أو تحديدها في ثلاثة مستويات ثقافية، هي رؤى وبنى ثقافية حاضرة وفاعلة كاتجاهات ثقافية عامة تعيش معاً، ولكنها لا تتعايش بصورة فاعلة ومشجعة، فهي متجاورة مع بعضها البعض (مكانياً، جغرافياً)ولكنها غير متحاورة بصورة ابداعية ، تشير إلى بعضها، ولكنها لا تتواصل مع بعضها البعض، بما يؤدي إلى إنتاج حالة ثقافية إبداعية مشتركة فيما بينها -وتضاعف هذا الأمر أكثر من بعد حرب1994م وفي سياق الحرب الجارية- وهو في تقديرنا الوجه البارز والمعبر عن أزمة التعددية الثقافية في اليمن وفي غيرها من الحالات العربية، وهي ليست سوى امتداد لواقع الأزمة السياسية والوطنية الشاملة التي يعيشها البلد والمجتمع، ولذلك لم نصل إلى حد تأسيس ثقافة العيش المشترك.

المستويات الثقافية الراهنة:

وتنقسم إلى ثلاث مستويات ثقافية:

المستوى الأول، الثقافة التقليدية الرسمية وتنقسم إلى بعدين أو مستويين:

أ-الثقافة التقليدية الرسمية الماضوية.

ب-الثقافة الرسمية التقليدية / الحديثة ، أو المحدثة ، الملحقة -حسب تعبير المفكر- د/هشام شرابي.

المستوى الثاني، هو المستوى الثقافي الحداثي المدني الديمقراطي.

 المستوى الثالث، هو المستوى الثقافي المعبر عن الأغلبية الصامتة.

           المستوى الثقافي التقليدي الرسمي: وينقسم إلى قسمين

أ) المستوى الثقافي التقليدي الماضوي.

وهو القسم الأكثر تعبيراً وتجسيداً للخطاب الثقافي الرسمي، فهو عمقها الأيديولوجي والروحي والسيكولوجي التاريخي،هو البنية الفوقية العميقة، التي ترتكز عليها حقيقة، وتعبر من خلاله عن نفسها، ووجودها، ومن أرضية تعارض القوى الثقافية الأخرى، تؤكد اسمها ومعناها في الواقع. .وهذه الثقافة مؤسسة تاريخياً على القوة، ومعبرة عن السلطة السائدة، وغالباً ما تستند إليها العصبيات الاستبدادية جميعاً (القبلية، المذهبية، الطائفية، السلالية، الجهوية) في ترسيخ أنظمتها وحكمها وتدعيم أيديولوجياتها السياسية في قمع وحصار الرؤى الثقافية المعارضة . ومن جذر هذا العمق الثقافي الماضوي سينطلق خطاب ثقافة التخوين، وخصوصاً خطاب التكفير الديني . وهذا المستوى من الخطاب الثقافي يتميز بالعصبية المتزمتة لمزاعمه بإسم الدين/والمقدس،"حقه اﻹلهي" ولذلك يرفض الاخر ولايقبل بالتعدد والتنوع على جميع الأصعدة ، وهذا المستوى من الخطاب الثقافي، السياسي، الإقصائي، مدعوم بقوة من الجهاز الأيديولوجي والمفاهيمي الرسمي السياسي، التربوي، التعليمي، الإعلامي والأمني . هي ثقافة نجد مقرها في طبيعة البنية الاجتماعية التقليدية، وفي رموز وقوى اجتماعية شبه إقطاعية، أبوية (المشيخة القبلية، وشيوخ الدين)، وبراجوازية طفيلية مشوهة ، مندمجة بالسلطة السياسية / العسكرية .

 والثقافة التقليدية الماضوية هي في الجوهر ثقافة عصبوّية، أحادية ،ثأرية ،انتقامية، ثقافة شقاقية، تتأسس على الروابط اﻹجتماعية والثقافية ما قبل الوطنية ولا مكان فيها للمواطنة، وتعوق أي دور للدولة الحديثة المدنية المؤسسية .

 فالقبيلة وثقافتها وأحكامها ونمط حياتها هي البديل العملي لسلطة الدولة وللقانون والقضاء والمؤسسات وشعار الثقافة التقليدية الماضوية: "أنا وأخي على بن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب" وكذا "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" والبيت الشعري القديم القائل "وما أنا إلاَّ من غُزيَّة إن غَوَتْ غويتُ وإن تُرشَدْ غُزَيَّةُ أُرْشَدِ".

 إنه تجسيد عميق لحالة الموقف من الآخر والعداء للمغاير المختلف.

 إن الخطاب الثقافي الايديولوجي الرسمي عمل وما يزال يعمل بدأب على توظيف الثقافة الماضوية الأصولية باتجاهاتها المختلفة ضد المجتمع، وضد الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، والأهم، ضد فكر قيام ووجود الدولة المدنية المؤسسية الحديثة .

 ويمكننا القول: إنّ البنية الاجتماعية التقليدية البطريركية، اتسع اليوم حضورها وتأثيرها على مركز القرار السياسي في السلطة وفي المجتمع أكثر مما كان قائماً في زمن التشطير -وهو ينطبق على واقع ما قبل ثورة الشباب، بقدر ما ينطبق على واقع ما بعدها- حتى واقع الحرب الجارية . ومنذ نيف وعقد من الزمن، عملت هذه الثقافة الماضوية (القبلية، الدينية) على إعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية التقليدية القديمة من جديد، كما عملت على إعادة إنتاج ظواهر فئوية (الثأر، حمل السلاح، الموقف السلبي من المرأة، القبلية ، وغيرها من القيم والمفاهيم التي اطلقت عليها اﻹمامة"أحكام الطاغوت".

ب) الثقافة التقليدية / الحديثة الملقحة.

تعكس الثقافة التقليدية/الحديثة أو الملقحة، رؤى ومفاهيم وتصورات قطاع اجتماعي / سياسي في قمة الحكم أو النظام، وهي ثقافة لم تنفصل عن الثقافة التقليدية الماضوية، ولم تتخذ موقفاً ثقافياً عدائياً من الثقافة الحديثة. باختصار، هي ثقافة مشدودة إلى الماضي، ولكنها تعمل على التمسك بتلابيب الجديد، القشرية، وكأن دورها ارتسم وتحدد بتشوية وتزييف الحداثة، وعملية التحديث، في أشكال توظيف الحداثة لخدمة التقليد . وهي ثقافة علاقاتها بالثقافة الماضوية استراتيجية، وعلاقتها بثقافة الحداثة، والتقدم تكتيكية، مصالحية مراوغة ملتبسة، لخدمة أهداف سياسية ذات صلة باستمرار الحكم وتكريسه وإعادة إنتاجه. وتتميز الثقافة التقليدية / الحديثة بأنها عصبوية بدرجة أقل، نسبياً، من الثقافة التقليدية الماضوية، ولكنها تبقى كذلك ،أحادية، حداثية الشكل، استبدادية المضمون، ولم تتوقف يوماً عن خلط الديني، بالسياسي لصالح إعادة إنتاج النظام.

 ورموز هذه الثقافة في قمة السلطة ليسوا مع دور حقيقي للدولة المدنية المؤسسية في إدارة المجتمع وتنظيم شؤونه، بل مع حصر دور الدولة في نطاق أو إطار دور السلطة، والدولة التقليدية الوسطية "السلطانية"، أي دولة لجماعة معينة تمثل وتعكس مصالحها في واقع الممارسة، وهي مع غياب ثقافة الدولة المؤسسية، وثقافة سلطة القانون والنظام .

 وعند هذه اللحظة أو النقطة، تلتقي مع الثقافة المشيخية القبلية، والدينية، كما يتفقان في أنهما إقصائيتان للآخر، ويساهمان موضوعياً في إنتاج ثقافة الكراهية ضد الآخر الثقافي، الديني، والاجتماعي، بقدر محسوب ومعلوم ومدروس مسبقاً. وإن كان طابع التحديث السياسي الشكلي هو الغالب عليها وليس ٍالتكفير الديني، لكنها / لكنهم ، في لحظة سياسية مصالحية معينة، يمكنه/ ويمكنهم تبرير التكفير الديني كما جرى حرب 1994.

 ومن يتابع خطاب ثقافة هذه الرموز والمجاميع الثقافية السياسية الحاكمة في صور مخرجات الصحافة المكتوبة والمرئية، يجد أن حجم خطاب الكراهية وثقافة الخصومة والعداوة، هي السائدة تجاه الآخر، الذي يتحول في خطاب الثقافة الرسمية إلى خائن، ومتآمر، وعدو للوطن، وللدين، (كافر/ مرتد)، ومجرد من كل القيم الإنسانية.

 إن ذلك هو ما تضخه الآلة الأيديولوجية والإعلامية والثقافية الرسمية،المتسم عموماً بخطاب لا يساهم في تنمية ثقافة، ولا يعزز مكانة الوحدة في المجتمع .وقد تجلى ذلك بوضوح في الموقف من القضية الجنوبية، ومن حرب صعدة فترة حكم علي عبدالله صالح الذي وظف المذهبية الدينية (سنة/شيعة) لتكرس قضية التوريث في الأبناء، والأبشع استخدامه تنظيم "القاعدة" كورقة سياسية في صراعه مع الداخل، ولابتزاز الخارج، وصولا إلى الموقف العدائي العملي من ثقافة التعدد والتنوع .

 وما يجرى في قلب الحرب الجارية هو تنويع على الأصل الاستبدادي الثقافي الواحد ، في تمظهراته المختلفة من علي صالح ، إلى ما هو حاصل اليوم.

إقراء أيضا