على مدى الأعوام السبعة وخمسين التي مضت على انطلاق ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، سال حبر غزير، وصدر كلام كثير عن إنجازات الثورة الكثيرة والكبيرة داخل مصر وعلى مستوى الأمة والعالم من حولنا، كما صدر كلام عن عثرات واجهت تلك الثورة كان عبد الناصر أول من أقرّ بها، وسعى إلى معالجتها، وتحمل مسؤوليتها إلى درجة الاستقالة من موقعه في 9 حزيران 1967، أثر النكسة الأليمة التي ألمّت بمصر والأمة كلها وما زلنا نعيش تداعياتها حتى اليوم.
لكن واحداً من أهم إنجازات الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر والذي لم ينل ما يستحقه من اهتمام، ولم ينشغل به العديد من القوميين العرب ولم يسعوا إلى تطويره، هو إنجاز العالمية لثورة بدت للجميع في لحظات انطلاقها الأولى بأنها ذات طابع محلي بحت لتجد نفسها، وفي زمن قياسي، تخترق دوائر حددها قائدها جمال عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" ، بعد أقل من عامين على الثورة ذاتها، وهي الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الأفريقية، ومن بعدها لتخترق ما يمكن تسميتها بالدائرة العالمية التي تضم إلى الدوائر الثلاث المشار اليها أمماً وشعوباً ودولاً على مدى المعمورة كلها.
وأهمية تسليط الأضواء على عالمية ثورة تموز التي أبرزها جمال عبد الناصر في تجربته القصيرة العمر نسبياً "1952 – 1970" تتأكد اليوم ونحن نلاحظ منذ سنوات اندفاعاً عالمياً للدفاع عن القضايا العربية، كفلسطين والعراق ولبنان، كما تجلى هذا الاندفاع بشكل خاص مع مطلع هذا القرن أثر انتفاضة الأقصى المبارك التي استشهد أول أطفالها محمد الدرة تحت شعار ناصري خالد "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" في 28 أيلول 2000، ثم مع ملحمة جنين عام 2002، فمسيرات عشرات الملايين الرافضين للحرب على العراق عام 2003، فالتحركات الشعبية الكبرى المندّدة بالعدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، وصولاً إلى ما رأيناه في كل عواصم العالم من تحركات متعددة المستويات خلال محرقة غزة مع بداية هذا العام، تلك التحركات هي التي جعلت صهيونياً متوحشاً كليبرمان وزير خارجية العدو يعلن قبل أسابيع: "إن أكبر مشكلة يواجهها الكيان الصهيوني الإرهابي هي التحول في الرأي العام العالمي"، وهو ما سيلمسه ليبرمان خلال زيارة لأميركا الجنوبية حيث ستخرج تظاهرات التنديد به في عواصم الدول بدءاً بالبرازيل.
وتبرز سلامة رهان جمال عبد الناصر على البعد العالمي لحركة التحرر العربية في أن مؤتمر باندونغ عام 1955 الذي أطلق حركة عدم الانحياز على مستوى العالم، ما زالت إشعاعاته الشعبية تضيء من خلال العديد من الملتقيات والمنتديات العالمية، بدءاً بالمنتدى الاقتصادي الاجتماعي العالمي الذي يرأسه رفيق جمال عبد الناصر القائد العربي الكبير أحمد بن بللا، والذي يجتمع في ظله عشرات الآلاف من أحرار العالم، إلى ملتقى دوربان ـ 1ـ عام 2001 والذي جرت محاولات صهيونية لإجهاضه في ملتقى دوربان ـ2ـ عام 2009 في جنيف، وصولاً إلى مؤتمر القاهرة الدولي للتضامن مع فلسطين والعراق، الذي انطلق مطلع عام 2003، إلى منتدى بيروت العالمي لمناهضة الإمبريالية والذي انعقدت آخر دوراته في مطلع هذا العام، مروراً بملتقى القدس الدولي في اسطنبول عام 2007، وملتقى حق العودة الدولي في دمشق عام 2008، والمؤتمر العالمي لنصرة فلسطين الذي كان آخر دوراته في شباط المنصرم في طهران.
لقد كانت روح جمال عبد الناصر حاضرة في كل هذه الملتقيات التي تتلاقى فيها وفود تمثل أمماً وشعوباً وأدياناً وحضارات وثقافات وتيارات عقائدية متنوعة.
ومن شارك في الاجتماع التحضيري للملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة، الذي انعقد في بيروت وحضره أكثر من 180 شخصية عربية وإسلامية وعالمية من 28 بلداً، رأى كم كانت روح ناصر حاضرة في مداخلات الكثيرين، لعل أبرزها ما قاله جورج غالاواي: أنا قومي عربي.. أنا أنتمي إلى مدرسة جمال عبد الناصر.
وتتأكد تاريخية النظرة العالمية لثورة يوليو حين نسمع أبرز قادة الكفاح التحرري يعلنون على الملأ تأثرهم بنهج جمال عبد الناصر وتجربته من فيدل كاسترو ورفيقه البطل الأسطوري تشي غيفارا الذي كانت آخر زياراته قبل استشهاده عام 1967 لجمال عبد الناصر، إلى شافيز وقادة النهضة التحررية الجديدة في أميركا اللاتينية، مروراً بنلسون منديللا، والشهيد باتريس لومومبا، وغيرهما من أبطال التحرر الأفريقي، وصولاً إلى تأثيرات ناصر في أندونيسيا مع سوكارنو، وفي الهند مع نهرو، وفي يوغوسلافيا مع تيتو، وفي غينيا مع سيكوتوري، وفي غانا مع نيكروما، وفي مالي مع موديبو كيتا، وفي قبرص مع المطران مكاريوس، وفي العديد من بلدان العالم.
غير أن تأكيد هذا البعد العالمي للثورة العربية والعمل بمقتضاه يبدو بشكل خاص ضرورياً اليوم للأمة في مواجهة تحديات النهوض الداخلي والهيمنة الخارجية بكل أشكالها.
فعلى مستوى المجابهة مع المشروع الصهيوني والاحتلال الأميركي بات واضحاً أن مقاومتنا العربية أمست بحاجة ماسة إلى أن ترفد إنجازاتها وبطولات مجاهديها بالقدرة على حسم معركتها داخل الدائرة العالمية ذاتها لا سيّما إذا أدركنا دور الدعم العالمي للكيان الصهيوني وللقوى التي تقف وراءه، بل إذا أدركنا حجم التضليل السياسي والإعلامي والثقافي التي نجح أعداء الأمة في تسويقه لعقود طويلة ضد حقوقنا ومشاريع المقاومة والنهوض في الأمة، وخصوصاً في مجال "شيطنة" صورة المقاومة وربطها بالإرهاب.
فبقدر ما ننجح في أن نكسب تفهم الرأي العام العالمي وتعاطفه لصالح قضايانا العادلة، فإننا ننجح في محاصرة أعدائنا وسلبهم أحد أبرز الاحتياطات الاستراتيجية التي يعتمدون عليها.
وإذا كان كسب تعاطف الرأي العام العالمي لصالح قضايانا مسألة في غاية الأهمية، فإن ما يفوقه أهمية هو قدرتنا على أن نقيم شبكة تواصل مع كل القوى الحية في العالم، بغض النظر عن خلفياتها العقائدية، ومشاربها القومية وانتماءاتها السياسية، بما فيها القوى المناهضة للنظام الرأسمالي الإمبريالي داخل مراكزه الرئيسية، خصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا، شبكة تتحول مع الوقت إلى جبهة عالمية لمناهضة العنصرية والصهيونية وهي الجبهة المؤهلة لأن تشكل القطب النقيض للقطب المهيمن حالياً، ولا يخشى عليها من عقد صفقات معه، كما هي حال بعض القوى الدولية الكبرى، التي تنافس الولايات المتحدة، لكنها لا تناقضها بشكل جذري، بل هي مستعدة لعقد صفقات معها كل حين على حساب قضايانا وشعوبنا.
والتواصل العربي والدولي مع قوى التحرر العالمية، وبينها أمم وشعوب وشرائح واسعة مهمشة تماماً من خلال النظام الدولي الحالي وامتداداته الإقليمية، يشكل أيضاً الرد الاستراتيجي والتاريخي على كل استراتيجيا التفرقة والاستفراد التي تحاول قوى الهيمنة على العالم اعتمادها لمنع وحدة القوى المتضررة من هيمنتها والحيلولة دون اجتماعها لخوض معركة مصيرية واحدة على المستوى العالمي ضدها.
وهذا التواصل، الذي حرص جمال عبد الناصر دائماً على بناء جسوره وتوطيد دعائمه، يوفر لكل قوى المقاومة والممانعة في الأمة تفاعلاً خلاقاً فيما بينها، وتكاملاً فعالاً بين خبراتها وتجاربها وطاقاتها، فلا تزداد قوتها الإجمالية فقط، بل تزداد قوة كل طرف من أطرافها، ويشتد بأس كل حركة من حركاتها..
والحرص على إقامة هذا التواصل يترك آثاره الإيجابية على خطابنا العربي والإسلامي إلى حد بعيد، فيحرره من مفردات التعصب الديني والتزمت الفئوي والانغلاق الشوفيني، والغلو المذهبي، لأن خطاب التواصل يكون موجهاً إلى شعوب وأمم وأديان وحضارات وثقافات، وبالتالي لا يكون الخطاب تواصلياً إذا لم يكن خطاباً إنسانياً حضارياً بعيداً عن النزوات العابرة، والعصبيات الضيقة، والمناكفات المريضة.
كما يسهم تحقيق هذا التواصل بين أمتنا والعالم في تحرير ممارساتنا من العديد من الشوائب التي تعلق بها نتيجة الاستعجال أو الانفعال أو النزق أو الضيق أو اليأس، فلا نندفع في أعمال أو تصرفات تبدو للوهلة الأولى أنها تؤذي أعداءنا، فنكتشف مع الوقت أنها تؤذينا بالدرجة الأولى.
والأفق الواسع الذي يوفره هذا التواصل مع العالم ينعكس إيجابياً حتى على علاقاتنا مع بعضنا البعض، إذ كيف نقصي بعضنا البعض فيما نحاول بناء جسور مع العالم، وبأي منطق يمكن أن نلغي من بيننا جماعات دينية أو عرقية أو مذهبية، فيما نحن نسعى لكي نصبح مقبولين من العالم بأسره بكل ما فيه من تنوع، فنعتمد معه معايير مشتركة، ومفاهيم متقاربة، لقيم أخلاقية وإنسانية خالدة..
لكن القيمة المضافة للتجربة الناصرية في هذا المجال تتجلى في أن جمال عبد الناصر لم يقع وهو يتوجه إلى كسب الرأي العام العالمي في خطأ وقع به كثيرون من بعده، حيث أنهم بذريعة كسب "المجتمع الدولي" فرّطوا بحقوقهم القومية وبسيادتهم الوطنية، وأنهم بحجة الحرص على تقديم خطاب مقبول في الخارج تنازلوا عن ثوابت أساسية في الداخل، فخسروا داخلاً أربكوه بسياساتهم الاستسلامية ولم يربحوا خارجاً متربصاً بنا وبحقوقنا ومسانداً لأعدائنا.
كما لم يقم جمال عبد الناصر، وهو الحريص على التواصل مع القوى الحرّة والحيّة في العالم، في خطأ البعض الذي تنازل عن خصوصيات عميقة في أمته، روحية وحضارية وثقافية باسم العالمية أو العولمة أو الكونية، بل إنه اعتبر أن العالمية لا تعني مطلقاً التحاق الأضعف بالأقوى، ولا ذوبان الأصغر بالأكبر.
إن الاهتمام بالبعد العالمي لقضايانا، وبإقامة كل آليات التواصل مع القوى الحيّة في العالم يجب أن يحتل اليوم موقعاً رئيسياً في حركتنا وبرامجنا، وخطط عملنا، فنوفر لمقاومتنا الباسلة المتنامية على امتداد أمتنا، قوى إضافية، ونوفر لمشروع نهوضنا أبعاده الحضارية، فتبقى جذوره راسخة في الأرض وأغصانه مطلّة على العصر والعالم من حولنا..
إن المتغيرات المتسارعة في العالم تفتح الطريق واسعاً أمام "عالمية" حقيقية لمشروعنا التحرري والنهضوي إذا فهمنا بعمق ما يدور حولنا، وإذا تعاطينا بدقة مع التحولات المحيطة بنا، وإذا رسمنا خرائط طرقنا