الرئيسية المقالات مدارات عيسى محمد سيف «الأخيرة»
عيسى محمد سيف «الأخيرة»
حسن العديني
حسن العديني

  في سياق حديث الأستاذ عبدالله عبدالقادر الأغبري عن النبل الإنساني لعيسى جاء أنه كان يتجاوز عن الخروقات التنظيمية التي تستلزم طبقاً للنظام السياسي ولوائحه التنظيمية، توقيع عقوبة الفصل وربما في أخرى التهديد بالإعدام، وفي موقع آخر سيذكر الإعدام.

الوحدوي نت

الحق أنه لم تكن ثمة عقوبة اسمها «التهديد بالإعدام» وإنما كانت العقوبات طبقاً للائحة الداخلية تتمثّل في التنبيه واللوم وتتخذهما قيادة الفرع، ثم التجميد وتوقعها اللجنة المركزية ، وأخيراً الفصل؛ وهي أعلى عقوبة من سلطة المؤتمر العام، وقد اتخذت مرة واحدة أثناء مسيرة العمل السري من قبل المؤتمر الرابع في حق أحد المناضلين “نظراً لانحرافه الفكري” كما جاء في نص القرار، ثم تبيّن أن ذلك الانحراف الفكري إنما كان شطحات شاب تملّكه قلق فكري وراح ينغمس في الدعاية للماركسية وينكر على الناصرية أن تكون فكراً كاملاً متكاملاً، ولقد غادر القلق قبل هذا الرجل الذي نراه اليوم بضمير لم تجرحه تلك العقوبة القاسمة.

وإذاً فإن الإعدام أو التهديد به لم يكن ضمن قائمة العقوبات في اللائحة الداخلية؛ وإنما حدث مرةً واحدة أن اتخذ قرار غير مكتوب بالإعدام على ما سيكون أصدره المؤتمر العام الخامس، في ذلك المؤتمر الذي انعقد بالحديدة بمنزل عبدالعزيز سلطان، مدير عام الكهرباء في المحافظة في 29 - 30 ابريل 1977م فاجأت القيادة التنفيذية العليا الحاضرين بعضو غير متوقّع في المؤتمر إنه إبراهيم الحمدي “اسمه التنظيمي محمد”.

كان الترتيب مقصوداً، فعيون أجهزة الأمن في الحديدة ليست باليقظة والكفاءة التي عليها في صنعاء، والرئيس قرّر تنظيم الاحتفال بالأول من مايو في المدينة التي أنشأ فيها أول مدينة للعمال، وكذلك جرى اختيار وقت المؤتمر بما يحقّق كفاءة أكبر بتأمين حضور الرئيس، وهو من جانبه معتاد على صرف حراسته فلا يثير هذا من فضول أحدهم شيئاً، المهم أن تلك المفاجأة استوجبت إصدار قرار من المؤتمر بإعدام أي شخص يسرب خبر عضوية إبراهيم الحمدي في التنظيم؛ والمعنى أن ينحصر العلم في أعضاء المؤتمر وحدهم باعتباره أعلى سلطة في التنظيم وبضرورة أن يحضره رئيس الدولة، ولقد حدث بعد ذلك ما لا أرغب في الخوض فيه ولا أريد.

في هذا المؤتمر حاول عيسى أن يدفع بإبراهيم الحمدي إلى موقع الأمين العام؛ فاعتذر هذا ورشح عيسى للمكان «كان سالم السقاف هو الأمين العام بين المؤتمر الرابع والخامس» وأمام الإلحاح عليه برّر الحمدي رفضه بحجة لا تبدو منطقية، فهو لا يستطيع أن يكون قائداً لتنظيم ثوري ثم يذهب إلى السعودية للاجتماع بالملك خالد، وقال له عيسى: إن جمال عبدالناصر كان يدعم المقاومة الفلسطينية كقائد ثوري وفي نفس الوقت يلتقي الملك فيصل كرئيس دولة، وفشل عيسى ونجح إبراهيم الحمدي وانتخب بدلاً عن ذلك عضواً في القيادة التنفيذية العليا.

لم أكن عضواً في المؤتمر ولا حاضراً فيه؛ ولكن ما جرى قد شاع داخل التنظيم بعد مقتل إبراهيم وانكشاف عضويته، ولقد رويت بعضاً منه وتحاشيت ما يثير حساسيات عند البعض لا أرى داعياً لها، وما رويته ليس مصدره شخص أو ثلاثة أو خمسة وإنما هي روايات كل من تطوّع في الحديث ممن شاركوا في المؤتمر؛ وهي روايات متطابقة تجعلني أسوقها مطمئناً ومصدقاً، على أنني مرةً أخرى أتمنّى على الناصريين أن ينشروا أدبياتهم وأن تضم فيما تضم محضر جلسات هذا المؤتمر.

إن حديث عبدالله عبدالقادر عن نُبل عيسى وتسامحه مع الأعضاء صحيح إلى أعلى درجات الصحّة، لكنني أعتقد أنه كان ليّناً عند المحاسبة؛ فلا يوافق على إصدار عقوبات قاسية، ويعتبر التحقيق في المخالفة إجراءً زاجراً في ذاته، أما وقد أصدر القرار بالعقوبة فإنه لا يمنع تنفيذه وإلا ضاع الانضباط وساد الاستهتار وانتفت صفة التنـظيم الحزبي- خصوصاً في الأوضاع السرية - وتحوّل التنظيم إلى جمعية أهلية ، لكن عيسى كان يحافظ على العلاقات الانسانية أرقى ما تكون بجميع الذين اختلفوا مع التنظيم أو خرجوا منه، ولكي لا يكون الكلام مطلقاً ومرسلاً بلا دليل سأروي بعض الوقائع التي كنت شاهداً عليها.

في فترة ما حدث خلاف مع مجموعة في التنظيم يتزعّمها المرحوم صالح الحارثي، وكان ضابطاً كبيراً في الجيش، والمجموعة تضم نخبة من كبار الضباط والمثقفين ومناضلي حرب التحرير ،بينهم على سبيل المثال القائد الفدائي البارز في التنظيم الشعبي للقوى الثورية محمد عبدالله الصغير وفارس الشريف الذي تولّى في وقت ما من الثمانينيات قيادة القوات الجوية وعبدالله الحسيني الضابط رفيع الرتبة في المخابرات وآخرون أعرف كثيرين منهم وأتذكّر أسماءهم، ولن أتحدث عن أسباب الخلاف لأنني أولاً لم أكن قد التحقت بالتنظيم، ثم إنني بعد أن غدوت سمعت من الجانب الذي كنت معه وحده ،لذلك لن أكون أميناً إن أوردت وجهاً واحداً من العملة كما لو أنها الحقيقة كاملة، لكن الجماعتين التحمتا بفضل حوار شاق لكي تتباعدا بعد حين.

كنّا نسمع من إخوتنا في تعز ما يجعلنا نتطير غضباً من أولئك الذين يعملون على الانفراد بتنظيم جنوبي في الشمال، وفي أحد الأيام من سنة 1975 جمـعنا مقـيل في منزل عبداللطيف علي؛ وكان محمد عبدالله الصغير ـ شفاه الله ـ موجوداً وربما محمود المنتصر، وأدهشني أن عيسى بدا ودوداً معهما حانياً عليهما....

بعد وصولنا القاهرة أول مرة لغرض الدراسة كان فرع اليمن قد جمد عضويته في التنظيم القومي، ما أثار احتجاج البعض أبرزهم من الدارسين في مصر الرائد حمود عبدالجبار سلام - رحمه الله- وكان يحضر للماجستير في العلوم الاستراتيجية بأكاديمية ناصر العسكرية، والمرحوم علي بن علي محمد، وتم إبعادهما عن الهيكل التنظيمي أو هما ابتعدا. جرى الحديث عنهما في المستوى التنظيمي بما يحمل معنى التحذير، مما قد يثيرانه في عقولنا من بلبلة وارتياب بسلامة الموقف من العمل القومي. والواقع أنني بنيت علاقة صداقة معهما لكن أحداً منهما لم يفتح معي في أي يوم حديثاً ذا صلة بالعمل التنظيمي، فضلاً عن أن يحرض على التنظيم، أو يشير من بعيد إلى العمل القومي.

كنا نتحدث في الأمور السياسية مجردة، وكان حمود عبدالجبار صاحب عقل راجح وبصيرة ثاقبة.. مع ذلك فقد وقعت معه مرة في حرج شديد؛ إذ دعوته ليلقي محاضرة في مقر الرابطة عن الصراع في القرن الأفريقي، وكانت الحرب في اريتريا في أوج استعارها، وتداعياتها واضحة على أمن البحر الأحمر والمنطقة كلها. وأزعجني الحضور الضئيل والغياب المكشوف لقيادة وكوادر التنظيم في القاهرة حتى استبدت بي الظنون أنهم أخذوا معهم غيرهم للمقاطعة.

وسط هذه العلاقة المتوترة كان عيسى إذا جاء القاهرة يقضي معظم وقته مع هذين اللذين استحقا نفورنا وغضبنا.. بعد إكماله الماجستير انتقل حمود عبدالجبار إلى موسكو ملحقاً ثقافياً، وأدركنا أن ذلك تم بقرار من عيسى الذي بدأ ينشر كوادر التنظيم في الملحقيات الثقافية والإعلامية. وهناك في موسكو سوف يحصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد الصناعي. لكن عيسى سيستدعيه إلى صنعاء أثناء الإعداد لحركة 15 أكتوبر، ويوكل إليه مهمة إعداد خطتها، ولقد صمم خطة محكمة ودقيقة ونادرة المثال، كما سمعت من ضباط كبار مشهود لهم، واحد منهم أحمد حسين العقيلي صاحب العقلية والثقافة العسكرية الفذة. كانت خطة ضابط داهية نفذها ضباط تنقصهم الكفاءة أو الشجاعة أو كليهما.. في المسافة بين المؤتمر الخامس وحركة أكتوبر أحداث فارقة وحضور طاغ لعيسى محمد سيف. لكني قابلته آخر مرة جوار مؤسسة الكهرباء في القاع، وكنت في صنعاء بمهام عدة منها حل مشكلة الطلاب الذين تمتنع السفارة في القاهرة عن تجديد أو استبدال جوازاتهم. وكان صاحب القرار هناك نائب القنصل الذي يعمل الآن وكيلاً لجهاز القومي. قابلت وزير الداخلية محسن اليوسفي من باب إبراء الذمة؛ لأننا كنا ندرك أن القرار بيد الرئيس. واصطحبني عبدالله سلام الحكيمي للقاء الرائد علي الشاطر مدير التوجيه المعنوي، حيث كان عبدالله رئيساً لصحيفة 13 يونيو التي تصدر عن التوجيه. قدمني عبدالله للشاطر وأوضح له رغبتي في مقابلة الرئيس والغرض منها. ثم جئت في اليوم الذي وعدني أنه سيأتيني في الرد فقال: إن الرئيس وافق على أن يقابلني إلا أنه مشغول بالاحتفال بعيد الثورة، وعليّ أن أنتظر إلى أن يعود من زيارة المحافظات.

كنت أنزل في بيت يستأجرها التنظيم في القاع، وفي إحدى الظهيرات جاء عيسى، كانت المرة الأولى التي أراه في الشارع لابساً فوطة على عكس ما عهدته بالبدلة وربطة العنق، وخلال دقائق زودني بتوجيهات عما يجب أن أطرحه على الرئيس: «قل له أننا لسنا ضدك، على العكس نحن معك بلا تحفظ، ولكن هناك عناصر في الأمن الوطني إما أنها تشتغل لصالح أطراف أخرى أو أنها دون أن تدرك تستعدي ضدك القطاع الطلابي» إلى آخر ما قال لي ذلك اليوم. وانتظرت وحصلت محاولة أكتوبر قبل أن يعود الرئيس من الحديدة، ثم سمعت عيسى في المحاكمة، وقضى الله أمراً كان مفعولاً.

عن الجمهورية

إقراء أيضا