الرئيسية المقالات مدارات عن فقدان الأخ الأكبر..
عن فقدان الأخ الأكبر..
فائز عبده
فائز عبده

حين طبعتُ قبلةً على جبهة شقيقي الأكبر، المسجّى جسده على سرير الموت، ظهيرة الثلاثاء الماضي، تذكّرت يوم وفاة شقيقتي الصغرى التي رحلت وهي رضيعةٌ، بينما كنتُ في الـ6 من عمري. يومها رفضتُ تقبيلها؛ جزعاً وخشيةً، واخترتُ الابتعاد هرباً من مواجهة الموقف.

سنواتٌ مرّت بين ما بات من ذكريات طفولةٍ غابت عن الذاكرة بعض تفاصيلها، وبين حالة فقدانٍ هزّت جدار القلب، وسرت في أعماقي مرارتها. هي فترةٌ تجاوزت الـ30 بنيفٍ من السنين، وهو الأمر الذي جعلني أختار، هذه المرّة، مواجهة الموقف، والنهوض بما يجب عليَّ القيام به.

الوحدوي نت

ولقد فاجأتُ نفسي بتماسكي طوال يومي الوفاة والدفن والعزاء (18 و19 يونيو 2013)، إلا من هزّاتٍ وجدانيةٍ طفيفةٍ ترافقت مع بعض لحظات التذكّر، من حينٍ لآخر. ربما لم أكن لأبدو بتلك الصلابة والجسارة التي تلبّستني مؤخراً، لولا وجود شقيقي توفيق عبده، بجانبي، وتقاسمنا معاً مسؤوليةً عظيمةً لم نخبر أو نختبر مثلها من قبل، إضافةً إلى تحمّله مهمة متابعة علاج الفقيد الغالي، طوال 10 أيامٍ؛ هي فترة رقوده في مستشفى الثورة العام بصنعاء، بعد استضافته لأيامٍ في منزله، وبمساعدةٍ جليلةٍ من الشابين وسيم وجزيلان اللذين تناوبا على مرافقة الفقيد في المستشفى.

"علي عبده القشيبي"؛ هو الاسم الذي سار لسنواتٍ في دروب الحركة النقابية العمالية اليمنية، وفي مسالك العمل التنظيمي في صفوف التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، توّج مشواره الحافل بالنضال والعطاء، عضواً في قيادة فرع التنظيم بأمانة العاصمة، ومسؤولاً عن القطاع العمالي فيه، ورئيساً لنقابة عمال البناء والأخشاب التي كان أحد أبرز مؤسسيها.

مثّل العمل النقابي والعمل التنظيمي للفقيد، جناحي نضالٍ استأثر بالجانب الأكبر من اهتمامه ووقته وجهده، وحتى على حساب قوته وصحته واستقراره ومصدر رزقه، دون أن يطلب مقابلاً، أو ينتظر شكراً. ومع ذلك، لم يحظَ بتكريمٍ، ولم ينل تقديراً لما بذله من جهودٍ، وما قدّمه من عطاءٍ، وما حققه من إنجازاتٍ، وما خاضه من صراعاتٍ من أجل حقوق الطبقة العاملة، وطرح همومها وقضاياها على المستويين النقابي والتنظيمي.

***

تصعب الكتابة عن فقدان الأخ الأكبر، لذلك أظنني لم أستطع ترتيب أفكار الفقرات السابقة، وأكثر من ذلك، أنني لم أستطع التعبير عن كل ما أردتُ الكتابة عنه هنا، بخاصةٍ أن هذه أول حالة فقدانٍ أعيشها منذ أن غادرتُ مرحلة الطفولة.

يبقى أن أنوّه إلى اختلاط مشاعر الحزن لفقدان شقيقي علي، وفرحتي لدى استقبال العزاء، بكثيرٍ من المعزّين الأفاضل، وبكثرة حاضري قاعة العزاء نهار ذلك اليوم العصيب. وهنا لابد أن أشكر كل من حضر وقدّم التعازي، وكل من اتصل مواسياً، أو معتذراً عن عدم الحضور. والشكر موصولٌ لكل من ساهم وسعى وبذل جهداً، ووقف بجانبنا في مصابنا الجلل هذا.

وإنه بقدر ما أسعدني حضور واتصال كثيرين، فقد آلمني غياب وعدم تواصل البعض من الأصدقاء والأقارب، ومن قيادة التنظيم الناصري الذي وهب فقيدنا شطراً كبيراً من حياته للنضال في صفوفه، وفي قيادة قطاعه العمالي، بصدقٍ وتفانٍ، وتمثيله بأمانةٍ وإخلاصٍ في الحركة النقابية العمالية.

وكان الفقيد الذي أبصر النور العام 1960، خاض صراعاً مريراً مع مرضٍ عضالٍ، استمرّ ينخر جسده، ويهدّ قامته، أكثر من شهرين، مختتماً رحلةً مليئةً بالمعاناة والقسوة، وبالصراع مع الحياة، ومن أجلها، وفي سبيل حقوق المظلومين والبسطاء، وتوفي قبل ظهر الـ18 من يونيو 2013، وبذلك يكون ولد قبل ثورة 26 سبتمبر 1962، بعامين، وغادر دنيانا بعد عامين من ثورة 11 فبراير 2011، التي بادر للمشاركة فيها؛ باعتبار أنها جاءت لتجسّد فكرة النضال التي آمن بها، وصبغ بقيمها ومبادئها فلسفة حياةٍ، ومسيرة وجودٍ. وبين الثورتين، عاش الرجل حياةً ثوريةً حافلةً بالكفاح الجسور، رافضاً الظلم والقمع، واستلاب الحقوق، لا يساوم ولا يهادن، ولا يوفّر فرصةً للتعبير عن رأيه، وإعلان موقفه، حتى وإن اختلف فيهما مع كثيرين.

وإنني، هنا، ودائماً، لأرجو من الفقيد الغالي السماح، وأسأل من الله له الرحمة والمغفرة، ووعداً بالجنة.

***

لم تكن شقيقتي الصغرى أول الراحلين في حياة أسرتنا؛ فقد سبقها "محمود": آخر الذكور، الذي كان طفلاً يصغرني بـ3 سنواتٍ، وأذكر قليلاً من مشهد مرضه ووفاته. غير أن رحيل الرضيعة "أفراح" ربما هو ما جعل الفرح لا يُكثر من إطلالته على أسرتنا من نافذة أيامها.

[email protected]


إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي