الرئيسية المقالات مدارات النظام الناصري وأربعينية نصر أكتوبر
النظام الناصري وأربعينية نصر أكتوبر
عمرو  صابح
عمرو صابح

تحل الذكرى الأربعون لحرب 6 أكتوبر 1973 ،هذا العام فى أجواء مغايرة عن كل عام ، فضلاً عن مرور 4 عقود كاملة على هذا النصر العسكري الفريد فى تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، فإن انحياز القوات المسلحة المصرية لثورة الشعب المصري فى 30 يونيو 2013 ،يضفي على تلك الذكرى الخالدة معانى وقيم تؤكد العلاقة العضوية والارتباط الوثيق بين المصريين وجيشهم.

كتب الكثيرون عن المعارك العسكرية لتلك الحرب ، ووثق قادتها وبعض المؤرخين للبطولات النادرة التى شهدتها المعركة ،ولكن كل ذلك ليس كافياً ، فما زلنا نحتاج للمزيد من التوثيق لمعارك تلك الحرب من أجل الحفاظ على الذاكرة الوطنية للمصريين ،وللرد على محاولة العملاء والمرتزقة لتشويه الجيش المصري وحربهم الضروس ضده ،لإسقاطه تنفيذاً للمخططات الغربية بالخلاص من الجيوش العربية القوية ،حتى لا يبقى جيش قوى بالعالم العربي إلا جيش العدو الصهيونى .

بدأت تلك المحاولات منذ عام 2003 بتدمير الجيش العراقى ثم حل وتسريح بقاياه، و تجري منذ عامين وحتى الآن بسورية فى محاولة لتدمير الجيش العربي السورى، كما حاول نظام حكم الإخوان المسلمين تطبيقها فى مصر عبر صناعة جيش من الإرهابيين ، تابع للجماعة كخطوة أولى للخلاص من الجيش الوطنى المصري،وقد أحبطت قوة وصلابة الجيش العربي السورى تلك المحاولة ،وبعون الله سوف ينتصر على جيش الإرهابيين والمرتزقة ،كما أن الشعب المصري أطاح بحكم الإخوان المسلمين وحمى جيشه الوطنى.

ما يعنيني فى ذلك المقال ،هو عرض محاولة لتحليل أسباب نصر 6 أكتوبر 1973 العسكري ، فقد لفت نظري ان تلك الحرب كانت بمثابة ذروة المشروع الناصري، الذى أمتد من 23 يوليو 1952 حتى يناير 1974 ، ليس فى الأمر تحيزاً للرئيس "عبد الناصر"، أو تقليلاً من قرار الرئيس "السادات" التاريخي بشن الحرب فى 6 أكتوبر 1973 ، ولكن لا لنراجع معاً بعض الحقائق عسى أن نستفيد حالياً منها.

دخلت مصر حرب أكتوبر 1973 بقيادة "السادات" ، وليس "عبد الناصر" الذى وافته المنية قبلها بثلاثة أعوام وثمانية أيام ، ولكن النظام الذى أقامه "جمال عبد الناصر" كان ما زال هو النظام الحاكم ، فهناك حزب واحد حاكم هو "الاتحاد الاشتراكي"، والقطاع العام هو الذى يقود الاقتصاد ، كان هناك قطاع خاص محدود جداً ،وبالطبع لم يكن هناك انفتاح ، كانت العلاقات المصرية الأمريكية فاترة ،وليست شديدة الوثوق كما جرى بعد الحرب، ورغم تخلص السادات من مجموعة من أقرب المعاونين لعبد الناصر فى انقلاب مايو 1971 ،إلا أن مجموعة أخرى من المقربين لعبد الناصر كانت مازالت شديدة القرب منه ،وتؤثر فى سياساته على الأقل حتى بدء الحرب مثل "محمد حسنين هيكل – حسين الشافعى – محمد حافظ إسماعيل ).

وهكذا سياسياً واقتصادياً كان النظام الناصري ما زال حاكماً حتى مع تغير رأسه ، لنصل الآن للعامل الرئيسي فى تحقيق النصر العسكرى بالمعركة، وهو القوات المسلحة المصرية التى تعرضت لصدمة غير مستحقة فى حرب 5 يونيو 1967 ، ولكن منذ 11 يونيو 1967 حتى 6 أكتوبر 1973 استطاعت أن تتجاوز تلك الصدمة بسرعة قياسية لم يكن أحد يتخيل أن تتم بتا.

فالجيش المهزوم والمنسحب من سيناء ،يتم غربلته من جديد ،وإنشاءه على أسس علمية احترافية ، لم تكن ممكنة لولا مئات الألوف من حملة المؤهلات العليا ،والمتوسطة ،التى أتاحت لهم مجانية التعليم التى نفذها النظام الناصري فرص التعليم الجيد ،ولولا مئات القادة العسكريون البارعون الذين تم إرسالهم فى بعثات علمية فى أفضل المعاهد العسكرية فى العالم خلال فترة حكم "عبد الناصر" ،وإصلاحات النظام الناصري الاقتصادية والاجتماعية هى التى حافظت على استقرار المجتمع المصري داخلياً مما أتاح للمصريين تحمل ظروف الحياة فى ظل الحرب ، وشعبية "عبد الناصر" الجارفة عربياً ، هى التى وفرت لمصر الدعم المالى العربي بعد حرب 1967 ، وعلاقات "عبد الناصر" الوثيقة بالاتحاد السوفيتى ، هى التى مكنت مصر من إعادة تسليح جيشها بعد النكسة ، وخوض حرب الاستنزاف المجيدة ، والتى كانت بمثابة بروفة حية لحرب أكتوبر 1973 ، والتى تم خلالها وضع خطط العبور والتدريب عليها ،وتوفير كل مستلزماتها ، والتى انتهت ببناء جيش النصر ،وحائط الصواريخ المنيع على حافة الضفة الغربية لقناة السويس ،والذى بدونه ما كان ممكناً أبداً أن يتم العبور لسيناء ، من الجدير بالملاحظة ان شركات القطاع العام بالتعاون مع القوات المسلحة المصرية ، هى التى اضطلعت ببناء هذا الحائط الضخم ، والذى كان وقتها أكبر حائط صواريخ فى العالم ، مضافاً لكل ذلك إصرار "عبد الناصر" على وجود جبهة شرقية قوية ممثلة فى "سوريا "، للمشاركة مع مصر فى المعركة المقبلة ، وقد تبين مدى أهمية تلك الجبهة عندما اندلعت المعركة بالفعل فى ظهيرة يوم 6 أكتوبر، فبفضل التنسيق المصري السورى خلال المعركة ، كانت خسائر مصر أثناء عملية العبور هى 5 طائرات ، و20 دبابة ، و280 شهيد ، كان ذلك بمثابة إعجاز بشري ، وكان مستحيلاً أن يتم لولا الجبهة السورية ، فقد ركز العدو الصهيونى 80% من قواته الجوية على جبهة الجولان يومها ، والـ20% الباقين على الجبهة المصرية ، لقرب الجبهة السورية من العمق الإسرائيلي، بينما تفصل صحراء سيناء الشاسعة القوات المصرية العابرة عن الحدود مع إسرائيل.  

يكفى أن نعلم أنه كان متوقعاً أن تفقد مصر فى عملية العبور فقط 26 ألف شهيد، وهو ما تم تلافيه بفتح الجبهة الشرقية .

خلال حرب أكتوبر 1973 أغلقت البحرية المصرية مضيق باب المندب فى وجه الملاحة الإسرائيلية والغربية ، لم يكن هذا ممكناً لولا حرب "عبد الناصر" الضروس ضد الاستعمار البريطانى فى شرق السويس، والتى انتهت بطرد البريطانيين من الخليج العربي كله ، ولولا مساندته لثورة اليمن عام 1962 .

وهكذا جسدت حرب 6 أكتوبر 1973 كل إيجابيات النظام الناصري فى شتى المجالات ،ولكنها تمت بدون وجود "عبد الناصر" مؤسس النظام ذاته ، والمدهش أن "السادات" أستغل هذا النصر العسكرى العظيم فى تفكيك النظام الناصري سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ،عقب الحرب مباشرة ،عبر الانفتاح ، والعلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة ، والسلام مع إسرائيل ، والقطيعة مع العرب.

لذا يبدو مثيراً للضحك حتى البكاء ،إصرار البعض على أن النصر تم لأن "عبد الناصر" اختفى من الحياة ،ولأن "السادات" حل محله ، بالطبع هناك دور مهم للفرد فى التاريخ ، ولكن هناك قواعد حاكمة لسير التاريخ ، بالإمكان تفهم وجهة نظر أنصار هذا الرأى ، لو أن حرب أكتوبر 1973 ، تمت فى ظل تعدد الأحزاب و الانفتاح ، والعلاقات الطيبة مع الغرب ، والعلاقات السيئة مع العرب ، وبدون اقتصاد موجه وبدون أسلحة سوفيتية ، لكن مادام ذلك لم يحدث ، فوجهة نظرهم تظل قاصرة ومشوبة إما بعدم وعى ببنية الأنظمة السياسية ، أو بكراهية "عبد الناصر" ، أو بالاثنين معاً.

هنا يثور سؤال لابد من الإجابة عليه وهو لو أن طرحي سليم ،إذن لماذا هُزم النظام الناصري فى حرب 5 يونيو 1967 ؟!!

هناك أسباب عديدة لهزيمة النظام الناصري فى تلك الحرب ، منها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وبعض الدول العربية ، ولكن على قمة أسباب الهزيمة العيوب البنيوية فى تكوين النظام ، والتى استشرت بعد الانفصال عن سورية فى 28 سبتمبر 1961 ، والتى جعلت من المشير "عبد الحكيم عامر" نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة نداً لرئيس الجمهورية ،وحاكماً بأمره فى القوات المسلحة ، مما أدى لانفصال القيادة السياسية عن القيادة العسكرية للدولة ، وأدى لأن تجئ الهزيمة بتلك الصورة المهينة.

أستطاع "عبد الناصر" بعد النكسة علاج بعض تلك الأسباب ، وأعاد بناء القوات المسلحة المصرية على أسس علمية عسكرية ، مما أدى لأدائها شديد البراعة خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973 .

ولكن لأن النظام الناصرى كان قائماً على مجموعة توازنات فى قمة السلطة ، وكان "عبد الناصر" هو المتحكم فيها بمفرده، جاء غيابه المفاجئ ليخل بتلك التوازنات ، مما سهل للجناح اليميني فى قمة السلطة أن يطيح بالجناح اليساري فيها ، ممهداً لتفكيك النظام الناصري بالكامل ، ولكن لم يكن ذلك التفكيك ليتم لولا الشرعية التى أكتسبها "السادات" عبر قيادته لحرب أكتوبر 1973 .

وهكذا جاء أعظم تجسيد عملي وانتصار فعلى للنظام الناصري بمثابة النهاية الحقيقية لخيارات هذا النظام على شتى الأصعدة .

ليس هدفى من ذلك المقال تمجيد الرئيس "عبد الناصر" أو الانتقاص من دور الرئيس "السادات" فى حرب أكتوبر 1973 ، فقناعتى راسخة أن للرئيسين دوراً هاماً فى تلك المعركة ،ومعهما جميع قادة وضباط وصف ضباط وجنود القوات المسلحة المصرية فى الفترة من 11 يونيو 1967 حتى نهاية حرب أكتوبر 1973 ، ويقينى أن البطل الحقيقي للمعركة هو الإنسان المصري العادى الذى تحمل ويلات 3 حروب فى 6 سنوات.

لم تكن حرب 6 أكتوبر 1973 حدثاً عابراً أو استثنائياً خارج مسار التاريخ المصري فى العشرين سنة السابقة عليها بل كانت تتويجاً لمرحلة مجيدة من تاريخ مصر ، وللأسف بدلاً من أن تصبح قاعدة انطلاق جديدة نحو مستقبل أكثر قوة وإشراقاً لمصر ، حولها "السادات" لمبرر لانقلابه على كل الثوابت الوطنية المصرية ، مما قادنا لمرحلة حكم "مبارك" ، وصولاً لثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 .

فى الذكرى الأربعين للنصر العسكري المجيد تحية لشهداء مصر والأمة العربية فى كل حروبهم ضد العدو الأمريكي الصهيونى.

المجد والخلود للقادة والأبطال، ولا عزاء لمن باعوا النصر بثمن بخس سياسياً، وقادونا للمتاهة الحالية.

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي