عن 21 مايو
فائز عبده
فائز عبده

ليلة عيدٍ كانت. وكان شطرها الثاني طويلاً إلى الحدّ الذي جلب النعاس إلى العيون الساهرة تحت نورٍ باهتٍ يرسله قمرٌ لم يكتمل بعد. غير أنّ مسامعنا استقبلت في الهزيع الأخير من الليل، نبأً صاعقاً أفزع القلوب، وقضى على كسل العيون، وطرد النوم، لنبقى مستيقظين حتى ما بعد صلاة العيد، والسلام على كل من نصادفه من أهالي القرية.

كنا؛ صديقي عبدالرقيب ناصر، وأنا، ليلتها، مستلقيين في سطح أحد البيوت في القرية، بعد أن أنهينا "السمرة" التي جمعت عدداً من الشبان، كعادتنا ليلتي عيدي الفطر والأضحى، كل عام. وتحت الضوء الخافت للقمر، بقينا من بعد منتصف الليل، ننتظر الصباح، حيث سنصلي الفجر في المسجد القريب، ثم سنعود لصلاة العيد مع جموع الناس.

تلك الليلة العصيبة، هي ليلة عيد الأضحى، الموافق 21 مايو 1994. وفيها بتنا، نحن الاثنين، برفقة المذياع الذي حرصنا على أن يكون صوته خفيضاً، ونحن نتنقل بين محطاته؛ بحيث لا يشعر بالإزعاج أيٌّ من النائمين داخل أقرب منزلٍ في الجوار. ولدى وصول المؤشر إلى محطة إذاعة عدن، كانت موسيقى عسكريةٌ مواكبةٌ لأحداث الحرب الناشبة وقتذاك، ويأتي صوت مذيعٍ يبشّر ببيانٍ سياسيّ هامّ بعد قليلٍ، ثم موسيقى عسكريةٌ، يليها صوت المذيع، وهكذا... ونحن نحاول أن نتوقع ماهية البيان المرتقب، وكان أقصى ما وصلت إليه توقعاتنا، هو إعلان استعادة مدينةٍ مهمةٍ من أيدي قوات الجيش التابعة لعلي عبدالله صالح، أو حدوث انشقاقٍ كبيرٍ داخل هذه القوات. ذلك أننا لم نسمع من إذاعة صنعاء تغييراً متزامناً في برامجها المعتادة إبان تلك الحرب.

وأخيراً، تبيّن أنّ البيان الهام الذي انتظرناه، هو إعلان علي سالم البيض "فك الارتباط" بين دولتي الوحدة اليمنية، وإعلان العودة إلى "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، و... الخ. وهو البيان الذي صعقنا لسماعه، وانذهلنا لتوقيته، وجاء صادماً ومحبطاً ومخيباً للآمال العريضة التي كانت معلقةً على ما يمكن أن تُحدثه تجربة الوحدة من تأثيراتٍ وتغييراتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ في المجتمع اليمني، وصولاً إلى بناء دولةٍ مدنيةٍ حديثةٍ.

لحظاتٍ بعد الانتهاء من تلاوة البيان، بدأت أضواء الكشافات اليدوية تخرج من بعض منازل القرية، ونحن نرى انبعاثها واحداً تلو الآخر، وتوجيهها إلى بعضها البعض، وكأنها كانت توصّل رسائل أصحابها إلى الآخرين، وسمعنا عديد صيحات استنكارٍ وغضبٍ تنطلق من حناجر أشخاصٍ تابعوا الحدث الجلل، وخرجوا من داخل بيوتهم تعبيراً عن الاحتجاج والرفض للانفصال، وحزناً على ما آل إليه الحلم الذي عاش لأجله كثيرٌ من اليمنيين، وقضى في سبيله آخرون. وهو حلم إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، التي جاء بيان الانفصال عشية ذكراها الـ4.

إقراء أيضا