الرئيسية المقالات مدارات لماذا لايموت عبدالناصر
لماذا لايموت عبدالناصر
عمرو  صابح
عمرو صابح

فى مساء يوم 28 سبتمبر 1970 ، انقطع فجأة الإرسال العادى للراديو ، والتليفزيون فى مصر ، ورنت فى الأرجاء أيات الذكر الحكيم ، وخالج الجميع شعور بالتساؤل عن سر ما يجرى ، وفجأة ظهر أنور السادات على شاشة التليفزيون ليعلن بصوت باكى ونبرة تمثيلية نبأ وفاة الرئيس عبد الناصر ، لينفجر فور اعلان النبأ الصاعق طوفان رهيب من البكاء و النحيب والحزن فى كل أنحاء الوطن العربى ، وفى كل مكان فى العالم توجد به جاليات عربية ، ولمدة ثلاثة أيام حتى يوم 1 أكتوبر 1970 ، يوم تشييع جنازة الرئيس
جمال عبد الناصر، سيطر الحزن والإحساس بالضياع على العرب فى كل أنحاء العالم .
6 ملايين مواطن
40 ألف ضابط وجندى
40 لواء من قادة القوات المسلحة
500 جندى شرطة عسكرية لحراسة الجثمان الطاهر
هذه الأرقام سجلت للمشيعين يوم جنازة عبد الناصر ، و فى اليوم التالى 2 أكتوبر 1970 ، كان مانشيت جريدة التايمز البريطانية ( أنه أضخم تجمع بشرى فى التاريخ ) ، وفى تعليق مجلة نيوزويك على جنازة الرئيس عبد الناصر قالت ( لم يشهد العالم جنازة تماثل فى ضخامتها جنازة عبد الناصر ، وسط مشاهد من عويل المصريين والعرب عليه ،بلغت حد التخلى عن الموكب الجنائزى، عندما ضغطت الألوف المؤلفة على الموكب فى محاولة لإلقاء نظرة أخيرة على النعش ، الذى يحمل جثمان بطلهم الراحل ، إن جنازات كيندى و ستالين و كمال أتاتورك، تبدو كصور فوتوغرافية إذا ما قورنت بجنازة عبد الناصر ، لقد أحس العرب أنهم فقدوا الأب والحامى لهم ).
على الرغم من مرور كل هذه الأعوام على رحيل جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970 ، الا إنه يبدو وكأنه غادرنا بالأمس ، فصورته تحضر إلى العقل الجمعى العربى ، كلما واجهت الأمة العربية مشكلة ، يبدو عبد الناصر الرمز عصيا على الموت والغياب
بشخصيته المتفردة ، عاش عبد الناصر بمقاييس الزمن ، حياة قصيرة ، فقد رحل عن 52 عاما و8 أشهر و 13 يوما ، ظهر فيها على مسرح التاريخ لمدة 18 عام ، مثلت فصلا إستثنائيا فى التاريخ العربى كله ، رحل عبد الناصر ، ولم تكتمل رسالته ، وبعد وفاته ، تم بتر تجربته ، والانقضاض عليها ، تركنا و نحن فى أشد الحاجة إلى صموده ، وصلابته ، وبعد نظره ، فى مواجهة قوى الهيمنة العالمية ، التى لا ترى الوطن العربى إلا كمصدر للبترول ، وسوق لتصدير منتجاتها، رفض عبد الناصر أن يكون وكيلا للمصالح الامبريالية الامريكية ، لم يبادر أمريكا بعداء ، بل كان كل حلمه ، أن يضمن استقلال وتنمية الوطن العربى من أجل مصالح الشعوب العربية ، وليس لصالح الاستراتيجية الأمريكية العالمية ، كان وجوده يمثل رادعا لكل الخونة ، والعملاء ، واللصوص ، والفاسدين ، وبعد رحيله ، أصبحت الخيانة حكمة ، والاستسلام للأعداء بعد نظر ، وواقعية ، والنهب ، والسرقة طموح ، وبيع ممتلكات البلاد ، ونهب ثرواتها موائمة لروح العصر ، وتعمقت القطرية البغيضة فى الوطن العربى ، أثبت عبد الناصر دور الفرد فى التاريخ ، فبعد وفاته ، أكتسبت الأمة العربية مصادر قوة جديدة أهمها الارتفاع الخرافى فى سعر البترول عقب حرب 1973 ، ولكنها فقدت فرد واحد هو ( جمال عبد الناصر ) ، فتغيرت صورتها على هذا النحو المأساوى ، كان عبد الناصر طموحا ، وحالما ، لم يتوقف عن الحلم حتى لحظة وفاته ، فبعد تحقيقه لاستقلال مصر ، وبعد انتصاره المدوى فى حرب السويس ، والذى تحول لنموذج لكل الشعوب ، والأمم المقهورة ، وضمن له مجد تاريخى ، لا يطاوله مجد ، لم يركن للراحة ، بل دخل فى معارك التنمية ، والتصنيع ، واسترداد الاقتصاد المصرى من الاجانب ، واليهود ، وبدأ معركة بناء السد العالى ، وفى نفس الوقت كان يساند كل ثورات التحرير فى العالم العربى ، وفى أفريقيا ، وفى العالم الثالث ، وعام 1958 يحقق أول تجربة وحدة اندماجية فى التاريخ العربى الحديث ، ويتصدى بصلابة للاستعمار الامريكى الجديد الطامع فى المنطقة ، وفى عهده تحقق مصرمعدلات نمو اقتصادية غير مسبوقة ، وغير ملحوقة حتى الأن ، وبدون ديون ، وتبنى السد العالى ، وتبنى أكبر قاعدة صناعية فى العالم الثالث ، إنجازات مهولة كانت تبدو مستحيلة قبل عبد الناصر ، تمتع عبد الناصر فى حياته ، وبعد وفاته بشعبية جارفة على امتداد الوطن العربى لم تحدث قبله ، ولا بعده لزعيم أخر، أحب العرب فيه روح التحدى والصمود ، والقدرة على المواجهة ، ورد الظلم ، والقهر الذى عانوا منه مئات السنين ، أحبوا فيه قدرته على التعبير عن مصالحهم ، وحقوقهم السليبة منذ قرون من الغياب التاريخى عن الأحداث ، عاش عبد الناصر زاهدا فى متع الحياة ، كان البيت الذى يسكن فيه بيت مدير مدرسة الأشغال العسكرية قبل ثورة يوليو 1952 ، وكانت كل قطع الأثاث ، والأجهزة فى البيت عهدة لمدرسة الأشغال العسكرية ،لم يمتلك شئ ، ولم يورث أبناؤه أموال كغيره من الحكام فى العالم الثالث ، بل مات مديونا بمبلغ 26 ألف جنيه ، ثمن بيتين بناهما لبناته من أجل زواجهما ، ظل عبد الناصر حتى أخر يوم فى حياته مخلصا لطبقته ، وللفقراء الذين ثار من أجلهم ، عاش ومات مدافعا عنهم ، يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل أن هناك خمس مقولات أساسية فى الناصرية صالحة لكل زمان هى :
1 – أمة عربية واحدة ينبغى أن تتوحد
2 – استقلال سياسى كامل لهذه الأمة
3 – استقلال اقتصادى كامل لهذه الأمة
4 – توازن اجتماعى بين طبقات الأمة
5- مشاركة حرة فعالة من الأمة العربية فى قضايا العالم
هذه المقولات التى حاول عبد الناصر تحقيقها ، والتعبير عنها لن تموت ، لأنها أساسية لخلاص الأمة العربية مما تعانيه من تبعية وهزيمة حضارية الأن ، جاء عبد الناصر تعبيرا عن حاجة الأمة إلى بطل حاول ، نجح ، و أخفق ، أصاب ، وأخطأ ، لكنه فى محاولاته كان وطنيا مخلصا لقضايا أمته ، أستطاع عبد الناصر أن يضع مصر فى قلب العالم العربى ، و أن يضع العالم العربى فى قلب العالم ، لم يسعى خلف مصالح شخصية ضيقة بل عاش ، ومات شهيدا فى سبيل تقدم العرب ،
وبعد وفاته ، ورغم الحملات المضادة عليه ، ومحاولات تشويهه التى لا تنتهى ، مازال حيا فى قلوب الأحرار كرمز للنضال ، والتحرر ، عبد الناصر هو الزعيم العربى الوحيد الذى مازالت صوره ترفع فى كل مظاهرات الغضب العربى من المحيط إلى الخليج ،الزعيم العربى الوحيد الذى يوجد له محبين فى كل الأقطار العربية ، بل مازال قادرا على الإلهام ووصل تأثير أفكاره ، ومشروعه إلى أمريكا الجنوبية ، فالرئيس الفنزويلى هوجو تشافيز صرح مرارا أنه ناصرى ، وطالب العرب مرارا بإستلهام تجربة عبد الناصر ، والزعيم الأسطورى نيلسون مانديلا صرح أنه من تلاميذ عبد الناصر ، وعندما زار مصر سنة 1996 قال أنه يريد يرى ثلاثة أماكن فى مصر الأهرامات ، نهر النيل ،و ضريح عبد الناصر ، وقال لقد كان لدى موعد مع الرئيس عبد الناصر ، ولكنه تأخر 26 عاما ، وعندما كانت مصر تتنافس مع جنوب أفريقيا على شرف إستضافة كأس العالم لكرة القدم عام 2010 ، وفازت جنوب أفريقيا بغالبية الأصوات ، وحصلت مصر على الصفر الشهير ، صرح مانديلا الذى كان حاضرا فعاليات التصويت ، عقب فوز بلاده ، ( لو كان عبد الناصر مازال موجودا فى مصر ، لأنسحبنا من أجله ، ولكن الأوضاع فى مصر تغيرت ) .
ولنقرأ أراء أعداءه عن وفاته؟
فى مذكرات هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأميركى الأسبق نقرأ التالى أنه شعر بالسعادة البالغة لنبأ وفاة الرئيس عبد الناصر لأن وجوده بسياسته الراديكالية المعادية للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط كان يمثل أكبر عائق لتنفيذ الأهداف الأميركية في المنطقة الأهم للولايات المتحدة في العالم، ويحلل كيسنجر أوضاع المنطقة عقب وفاة عبد الناصر، ويصل أن الوقت أصبح مناسب للوصول لحل سلمى للصراع بين مصر و إسرائيل بشرط أن يكون هذا الحل أميركى، وأن يتضمن ثلاثة شروط :
1ـ طرد النفوذ السوفيتى من المنطقة كلها
2ـ يترك مصر ضعيفة غير قادرة على التأثير بأى نفوذ على الإطلاق في العالم العربي
3ـ أن تظهر التجربة الثورية التي قادها عبد الناصر في مظهر التجربة الفاشلة.
أليس هذا ما حدث فعلا بعد وفاة الرئيس عبد الناصر ؟
وعلى الجانب الاسرائيلي يقول مناحم بيجن عن وفاة عبد الناصر (إن وفاة عبد الناصر، تعني وفاة عدو مر، إنه كان أخطر عدو لإسرائيل.إن إسرائيل لهذا السبب لا تستطيع أن تشارك في الحديث الذي يملأ العالم كله عن ناصر وقدراته وحنكته وزعامته).
ويقول بن غوريون (كان لليهود عدوين تاريخيين هما فرعون في القديم، و هتلر في الحديث، ولكن عبد الناصر فاق الأثنين معا في عدائه لنا، لقد خضنا الحروب من أجل التخلص منه حتى أتى الموت وخلصنا منه ).
و يقول حاييم بارليف رئيس الأركان الاسرائيلي: (بوفاة جمال عبد الناصر أصبح المستقبل مشرقا أمام إسرائيل و عاد العرب فرقاء كما كانوا وسيظلون باختفاء شخصيته الكاريزماتية) .
ويقول المفكر الاسرائيلي آمنون روبنشتاين : إن مصر يجب آلا تكون طرفا في الصراع العربي الاسرائيلي، إن تورط مصر الكبير في النزاع العربي الاسرائيلي تمخض بصفة خاصة بسبب سياسة جمال عبد الناصر التي كانت تقوم على ركنين أساسيين يعوزهما الحكمة :
1ـ إمكانية وجود وحدة عربية
2ـ معاداة الغرب
وقد رفض جمال عبد الناصر طيلة حياته العدول عن تلك السياسات والآن بعد وفاته نأمل أن تراجع القيادة المصرية الجديدة تلك السياسات لكى تنهى الحرب بين مصر وإسرائيل في مصر ولعيوب بنيوية في تركيب النظام الناصرى خرج النقيض المتطرف للناصرية من قلب النظام وعبر انقلاب أبيض بدون قطرة دماء في 13 مايو 1971 قاده الرئيس أنور السادات الذى قام بتنفيذ كل المطالب الأمريكية والإسرائيلية من مصر التى رفضها الرئيس عبد الناصر طيلة حكمه .
مات الرئيس عبد الناصر تاركا لمصر أرصدة ثمينة فى أفريقيا ، و أسيا ، وأمريكا الجنوبية ، للأسف الشديد تم تبديدها بغباء منقطع النظير ، وبطريقة مشبوهة منذ عام 1974 ، فى سبيل تبعية للولايات المتحدة الأمريكية ، توفى عبد الناصر شابا ، ولم تكتمل تجربته لسوء الحظ ، كل مصيبة من مصائب الحياة يقل تأثيرها مع مرور الأيام إلا مصيبتنا كعرب بفقدان جمال عبد الناصر ، وصدق نزار قبانى عندما رثاه قائلا :
و أنت أبو الثورات كلها
أنت أنبعاث الأرض ، أنت التغير
تضيق قبور الميتين ، بمن بها

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي