الرئيسية المقالات مدارات لا مصالحة بدون مقايضة بين المجتمع ومراكز القوى
لا مصالحة بدون مقايضة بين المجتمع ومراكز القوى
القاضي يحيى محمد الماوري
القاضي يحيى محمد الماوري

ما يجري اليوم على أرض الوطن من أحداث مأساوية يشكل بالتأكيد مخاطر جدية تهدد العملية السياسية السلمية بل وتهدد الكيان الوطني بالانهيار والتمزق وسقوط مشروع الدولة اليمنية الحديثة التي طالما حلم الشعب اليمني بالوصول إليها. 

لقد اعتقد اليمنيون البسطاء بان القوى السياسية وأطراف الصراع على السلطة قد أدركوا مكامن الخلل والأخطاء الجسيمة التي صاحبت تجاربهم السياسية الماضية قبل الوحدة وبعدها ، بعد أن تمكنوا في الحوار الوطني من تحقيق الإجماع السياسي على رؤية مشتركة لشكل الدولة اليمنية ألقادمة، وهو ثاني مشروع سياسي وطني يحظى بإجماع القوى السياسية وتوافقها عليه بعد انجازها التاريخي في 22 مايو 1990 م .

 لقد تفاءل اليمنيون بنجاح الحوار الوطني وتطلعوا إلى أن يلمسوا تغييرا حقيقيا في حياتهم اليومية ،وذلك من خلال ترجمة مخرجات الحوار الوطني بصدق وإخلاص من جميع المكونات السياسية وحكومة التوافق الوطني ، وأن يحققوا للمواطن اليمني حياة كريمة آمنة مستقرة بعد سنوات من الخوف والجوع ومعايشة الموت في كل لحظات ليلهم ونهارهم، كما توقع اليمنيون في الوقت ذاته ،أن يقتنع المتصارعون على السلطة بأن العنف والإرهاب والقتل ليس الوسيلة الحضارية ولا الأخلاقية للوصول إلى الحكم ،وأن يجربوا التنافس الديمقراطي والتداول السلمي أسوة بغيرهم من الشعوب المتحضرة . 

وساد الشارع اليمني شعور عام بانفراج الأزمة وحلول الأمن والسلام في ربوع وطنهم الجريح .. وتصوروا -للحظات قصيرة -أن القوى السياسية قد تجاوزت عقدة التشبث بالسلطة وتخلصت من عقدة الثأر والانتقام السياسي في ما بينها وأنها اقتنعت فعلا بتغليب مصلحة الوطن الذي تدعي حرصها عليه وتضحياتها المزعومة من اجله ، لكن ما أعقب الحوار الوطني من أحداث دامية وتدمير عشوائي لمقدرات الوطن وثوابته ،عكس لدى الجميع مشاعر أخرى ، أقساها وأمرها الشعور بان تلك القوى جعلت من الحوار الوطني وسيلة لخداع الشعب اليمني وتخديره لتأجيل الصراع والأقتتال فترة من الزمن لإعداد عدتها وعتادها لممارسة أساليبها المعتادة في الصراع على السلطة، وها هي اليوم تؤكد بأنها ما تزال تغلب منطق العنف والثأر والانتقام السياسي على منطق الحوار والتنافس الديمقراطي السلمي والقبول بمبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية ، وهذا يعد بالفعل انقلابا على مخرجات الحوار الوطني من نفس القوى التي أقرتها ووقعت عليها ، ومن المؤسف أن هذه القوى تفقد آخر فرصه لإعادة بناء الثقة مع المجتمع اليمني والتكفير عن أخطائها التاريخية التي اقترفتها بحقه .

الحقيقة أن ما يثار حول إطلاق الدعوة إلى مصالحة وطنية ليس جديدا ، فكثيرا ما رددت القوى السياسية مثل هذه الدعوات عند كل أزمة تشعر بأنها أوشكت على فقدان السيطرة على زمام الأمور كما هو الحال اليوم ، لكنها للأسف الشديد لم تكن صادقة لا مع نفسها ولا مع وطنها وشعبها . ومن ناحية أخرى فان إطلاق عبارة (المصالحة الوطنية ) هو تعبير مجازي أما الحقيقة فهي مصالحة سياسية بين أطراف الصراع على حكم الوطن وليس بين الوطن وأبنائه، المصالحة الوطنية الحقيقية والوحيدة التي تمت في تاريخ اليمن المعاصر هي التي تحققت في 22 مايو 1990 م وكانت مصالحة فعلية مع الوطن ، كما مثلت أعظم رد اعتبار للإنسان اليمني ولتاريخه وتضحيات أجياله ، وحتى نكون منصفين فإن مؤتمر الحوار الوطني وخروجه بوثيقة سياسية توافقية قد مثل خطوة سياسية غير مسبوقة للقوى السياسية اليمنية لكنه إنجاز غير مكتمل مالم تف هذه القوى بالتزامها من خلال تنفيذ قراراته وتوصياته ومنها المصالحة» الوطنية «والعدالة الانتقالية .

 المصالحة التي نسمع عن الدعوة إليها اليوم وان لم تتضح بعد إلا أنها بادرة ايجابية وبارقة أمل في ظل المخاطر الكبيرة التي تحيط بالوطن وتهدد بانهياره وتمزقه ، ولكنها لن تكتسب مصداقيتها إلا أذا كانت نابعة من قناعة جميع أطراف الصراع قناعة حقيقية بان الوطن ملكية مشتركة لجميع أبناء اليمن على قدم المساواة وأن هذه القوى المتصارعة على حكمه ليست كل الوطن وإنما جزء صغير فيه ، وان تتخلى عن أوهام الحقوق المكتسبة في الانفراد با لسلطة أو الوصاية على بعض الفئات الاجتماعية أو المناطق الجغرافية ، وتسلم بمرجعية الشعب اليمني كمصدر لجميع السلطات ، وبحقه الشرعي في اختيار حكامه بإرادته الحرة والمستقلة . لا يمكن أن تكون المصالحة الوطنية مضمونة النجاح مالم تقم على فكرة المقايضة بين المجتمع وبين مراكز القوى التي تدير الصراع وتقود أعمال العنف والاقتتال ، وذلك للتمكن من إيقاف التداعيات الخطيرة التي تجري بتسارع مخيف ،وإيقاف نزيف الدم اليمني وإقرار مبدأ حرمة هذا الدم واعتبار اللجوء إلى العنف والقوة خيانة وطنية عظمى وفي مقابل الالتزام با لمبدأ السابق ، فلابد من إقرار مبدأ تحريم ممارسة الثأر والانتقام السياسي من أي طرف سياسي يصل إلى الحكم بالطرق الدستورية والديمقراطية ضد الأطراف السياسية في المعارضة أو من كان في السلطة في فترات الصراع الماضية بشرط القبول بمبدأ التداول السلمي للسلطة ، ولابد من إقرار تطبيق العدالة الانتقالية التعويضية لضحايا الصراع السياسي وأعمال العنف وا?عتذار الجماعي للشعب اليمني عن كل ما أصابه وما عاناه جراء تلك الأعمال والجرائم والانتهاكات الصارخة للحقوق الإنسانية .

أخيرا يجب الاعتراف- وان لم يعجب البعض -بان عملية التغيير وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني وتسليم السلطة تسليما فعليا وسلميا لن يتحقق كما أسلفت إلا في إطار صفقة أو عملية مقايضة ، أما كيفية تصميم وهندسة عملية المقايضة فإن الخبرات اليمنية وخبراء الدول الراعية الشقيقة والصديقة كفيلة بإنجازها ولله در المتنبي حين قال :

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.... ختاما نردد قول الله تبارك وتعالى( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [سورة الاعراف : 89] ..

 

إقراء أيضا