الرئيسية المقالات مدارات بين يدي لجنة صياغة الدستور.. العدالة الاجتماعية ؟؟
بين يدي لجنة صياغة الدستور.. العدالة الاجتماعية ؟؟
خالد محمد هاشم
خالد محمد هاشم

قد يكون الحديث عن العدالة الاجتماعية - كانحياز واضح للفقراء – بعد هذه الجرعة القاصمة لظهور كل فقراء الوطن ، وقبولها بصمت من كل القوى بما فيها قوى اليسار ، قد يكون ذلك نوعا من الترف الفكري ، المنعزل عن الواقع ، الا اننا هنا نخاطب المستقبل ، عبر لجنة صياغة الدستور المكلفة بترجمة مخرجات الحوار الوطني الى نصوص دستورية تحكم المستقبل الذي اتفق عليه اليمنيون ، والعدالة الاجتماعية احتلت موقعا مرموقا بتلك المخرجات واكد عليها اكثر من فريق من فرق مؤتمر الحوار الوطني .

ولان المصطلحات تخضع للتاويل بل والتحريف فان ما نخافه ان يتم تحريف مفهوم العدالة الاجتماعية في الدستور القادم لافراغه من مضمونه كعادة دأب عليها اليمنيون بافراغ مضامين الكثير من القيم الاجتماعية الجميلة ، ومن هنا فاننا سنجتهد بوضع مفهوم العدالة الاجتماعية كما اراده وتصوره رواد فكر اليسار ، كون هذا المصطلح منتجا فكريا حصريا لقوى اليسار عبر تاريخها الطويل .

ان فهم الاساس الفلسفي لهذا المصطلح ، يساعدنا على الفهم العميق له ومغزاه ، وهذا بدوره يساعد لجنة صياغة الدستور على وضعه بمفهومه الهادف لتحقيق اغراضه ، كون وضع الدساتير يبنى على اسس فلسفية ايضا .

ان العدالة الاجتماعية ترتكز بفلسفتها على تقسيم المجتمع الى طبقات ( غنية – متوسطة – فقيرة ) يسودها الاختلال الاقتصادي بشكل مجحف بحق الطبقة الفقيرة ، وبالتالي فالعدالة الاجتماعية انحياز للطبقة الفقيرة لانصافها ورفع الحيف عنها ، كون جزاء العمل(1) هو مرتكز ذلك الانصاف على اعتبار ان الطبقة الغنية اقل عملا واكثر ثراء ، والطبقة الفقيرة اكثر عملا واكثر فقرا ، مما يعني ان الطبقة الغنية استحوذت على فائض عمل الفقراء بدون وجه حق ( فائض القيمة لدى ماركس ) ، وكما قال الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجه " لقد جعل الله اقوات الفقراء في ارزاق الاغنياء ، والله ما تخم غني الا بجوع فقير ) .

هذا ما تتفق عليه قوى اليسار ، وكلها تسعى لجعل الطبقة السائدة في المجتمع هي الطبقة الوسطى ، حيث فيها - الى حد ما - يكون جزاء العمل ( المردود الاقتصادي ) منصفا ومتناسبا مع العمل ، فكانت الاشتراكية هي الوسيلة(2) لذلك الانصاف ، الا ان مفهوم الاشتراكية يختلف داخل قوى اليسار اختلافا شاسعا ، فالاشتراكية الماركسية او الشيوعية تضخم ملكية المجتمع بحصر تلك الملكية للدولة فقط وحرمان افراد المجتمع من تلك الملكية ، والاشتراكية العربية تفتت ملكية المجتمع المتركزة بيد القلة بتوزيعها على افراد المجتمع ، فالاشتراكية الماركسية تعتبر امتلاك ادوات الانتاج سببا لاستحواذ ارباب العمل على فائض عمل العمال ، وبالتالي فان مصادرتها للدولة يمنع هذا الاستحواذ ويحقق العدل ، والاشتراكية العربية ترى ان اعادة توزيع الثروة على ابناء المجتمع ( الفلاحين والعمال ) ، يحقق العدل ويمنع ذلك الجور والاستحواذ . في الاشتراكية الماركسية منع للملكية وبالتالي اذابة الفوارق بين الطبقات بحيث لا توجد ، والعربية توسيع للملكية لا منعها وبالتالي تقليص الفوارق بين الطبقات .

هذا تبسيط – ارجو الا يكون مخلا – للاساس الفلسفي للعدالة الاجتماعية ، ونحن الان بحاجة لمعرفة مفهوم العدالة الاجتماعية ، وساسعى جاهدا لتبيسط ذلك المفهوم وتحديده ليسهل صياغته في الدستور القادم ، ويمكننا تعريف العدالة الاجتماعية بابسط صورها انها : انحياز للفقراء والمساكين ، او السعي لتكون الطبقة الوسطى هى الطبقة السائدة ( وليست الوحيدة ) في المجتمع .

ويتحقق ذلك بالتالي :

1-    المواطنة المتساوية ( المساواة بين جميع المواطنين بالحقوق والواجبات ... ) .

2-    الفرص المتكافئة بين المواطنين ( اتاحة الفرص امام كل المواطنين لتحقيق المستوى المعيشي والاجتماعي المناسب لهم وفقا للعمل ، وبالتالي تكون اتاحة فرص العمل المتكافئة ( توظيف ، مقاولات ، اغتراب ، .. ) دون تمييز اساسا لتحقيق هذا البند .

3-    التوزيع العادل للثروة : ونقصد به ان يحصل كل مواطن على حصته العادلة من الثروات الوطنية ، وهنا تكمن الاختلافات بين الاحزاب والتيارات السياسية ، فالبند الاول والثاني قد لا توجد اختلافات كبيرة بين القوى التيارات السياسية المختلفة ، الا ان البند الثالث هو محور الاختلافات بينها ، وبهذا البند ايضا تكمن خطورة التاويل ، والتحريف والالتفاف على مفهوم العدالة الاجتماعية ، لذلك سنركز عليه ، مقدمين اجتهادا نامل ان يكون بناء في صياغة بنود العدالة الاجتماعية في الدستور القادم ، منطلقين من ادراكنا بان العدالة الاجتماعية هي انحياز للفقراء والمساكين ، او بمعنى اخر هي السعي للقضاء على الفقر او تقليصه الى ادنى حد ممكن .

ومن هنا فاننا ملزمون بتعريف الفقر فماهو ؟

تعددت تعاريف الفقر الا ان معظمها لا يلامس التعريف الحقيقي له ، فعدم امتلاك المال ليس فقرا ، وانما هو نتيجة للفقر ، ومن هنا فالفقير ليس من لا يمتلك المال ، وانما يمكنني تعريف الفقر بانه الافتقار للقدرات والفرص التي تمكن الانسان من الحصول على العمل ، وعليه فالفقير هو من لا يمتلك تلك القدرات والفرص التي من تمكنه من الحصول على العمل ، انا لا اعمل اذن انا فقير ..

وللتوضيح اكثر ، فالامي المتقدم للوظيفة لا يحصل عليها الا بشرط المؤهل الجامعي ، فهو يفتقر للقدرات التي تمنحه اياها تلك الشهادة ، وقس على ذلك بقية الامور التي تتطلبها سوق العمل بمختلف مكوناتها ( الشهادة ، الدورات التدريبية ، .. ) .

اما الفرص فنقصد بها : توفر فرص العمل لمن يمتلك القدرات التي تؤهله للعمل ، اي القضاء على البطالة ،

وعليه يمكننا توزيع الثروة على النحو التالي :

1-    التعليم المجاني ، والصحة المجانية ، ( الثروة تقدم للمواطن كتعليم وصحة .. ) .

2-    التدريب والتاهيل المجاني ( التنمية البشرية ) بما بتناسب مع سوق العمل المحلي والاقليمي والدولي .

3-    استثمار الثروة باقامة مشاريع تنموية كبيرة قادرة على ايجاد فرص عمل لكل قادر عليه .

4-    الضمان الاجتماعي لكل مواطن غير قادر على العمل ، وبمبلغ لا يقل عن الحد الادنى للاجور في السلم الوظيفي للدولة .

5-    فرض الضريبة التصاعدية على الاغنياء .

ومما سبق يمكن للجنة الدستور ان هي ارادت تحقيق العدالة الاجتماعية ، والنص عليها في الدستور : ان تنص صراحة على واجب الدولة بتوفير كل الفقرات ( تعليم وصحة وتدريب وتاهيل مجاني ، وخلق فرص عمل ، وضمان اجتماعي لايقل عن الحد الادنى للاجور ... ) . بالاضافة على المواطنة المتساوية والفرص المتكافئة ، بنصوص صريحة غير قابلة للتاويل او الاجتهاد فيها .

مع الاخذ بالاعتبار عدم امكانية او قبول مفهوم الاشتراكية الماركسية ، ومن الممكن جدا الاخذ بمفهوم الاشتراكية العربية ، ولو على نطاقها الضيق ، كون اليمن ليس فيها ذلك الاقطاع الذي يمكن اعادة توزيع ثروته على من يمارس عليهم الاقطاع ظلمه وجوره ، والاكتفاء بتطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية على الثروات الوطنية ، عبر البنود المذكورة انفا.

مخاطر الالتفاف على العدالة الاجتماعية في الدستور الجديد ... التكافل الاجتماعي

من المؤكد بان اليسار هو الاب الشرعي لمفهوم العدالة الاجتماعية ، الا ان مخرجات الحوار ملزمة لكل القوى اليمنية بيمينها ويسارها ، وبالتالي فالعدالة الاجتماعية ملزمة للجميع ، الا ان اليمين والراسمالية ، لها وجهة نظر اخرى لمفهوم العدالة الاجتماعية ، كونها معالجة لمساوئ وازمات الراسمالية او رشوة تقدم للفقراء لمنع ثورتهم او انتقامهم من الاغنياء ، انها وسيلة للتخفيف من وطأة وجور الرأسمالية ، وتبنى فلسفتها على اساس الالتفاف والتحايل على فقراء المجتمع لامتصاص غضبهم ونقمتهم ، وبالتالي فهي مبنية على اساس المن والعطف والاحسان ، يمكن التراجع عنها في اللحظة التي تصبح فيها عبئا على الاغنياء ، ولا تبنى على اساس الفرض والالزام ، وفي اليمن هناك مفهوم التكافل الاجتماعي ، القائم على الوعظ والحض والاستعطاف للاغنياء لبذل اموالهم من اجل الفقراء رجاء بالجزاء الاخروي ، ونعيم الجنة وحور العين فيها .

ان هناك فارق جوهري بين العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي ، حيث ان التكافل الاجتماعي يقوم على ترقيق قلوب الاغنياء وعطفهم على الفقراء ، وهو يقوم على المعرفة الشخصية للفقراء والعلاقة الحزبية او المناطقية او المذهبية ، وبالتالي فأثره محدود للغاية في معالجة مشكلة الفقر ، بينما العدالة الاجتماعية لها فعالية كبيرة بمعالجة مشكلة المفقر ، كما ان امتدادها يشمل جغرافية الوطن كله ، بعيدا عن الشخصنة او المعرفة الفردية او العلاقة الحزبية او المناطقية او المذهبية ، لانها واجب دولة وليست واجب فئة او حزب او طائفة ، كما هو حال التكافل الاجتماعي . 

ومن هنا يمكن ان تصاغ مواد العدالة الاجتماعية وفقا لهذا المعنى ، فلا تكون لها قوة الالزام والفرض ، وانما الاستحسان والعطف والمن .

ان العدالة الاجتماعية وفق مفهومها الحقيقي توازي مفهوم الزكاة وقوتها الفرضية ، بينما التكافل الاجتماعي يوازي مفهوم الصدقة كنافلة لا كفرض .

ان قوى التخلف ومراكز القوى الطامحة للاستحواذ على ثروات الوطن ، ستسعى جاهدة لافراغ مفهوم العدالة الاجتماعية من مضمونها الحقيقي ، والاستعاضة عنها بفهوم التكافل الاجتماعي ، لتتحول الحكومة الى جمعية خيرية ، تخطب ود الاغنياء ، وتبعثر ثروات الوطن بحفلات الصدقات والاحسان التي تقيمها الجمعيات المهتمة بشؤون الايتام والارامل وافطار الصائم في رمضان وغيرها .. .

املنا بيقظة قوى اليسار الممثلة بلجنة صياغة الدستور ، وتفهمها للمعنى الحقيقي للعدالة الاجتماعية ، وصياغة الدستور على ضوء ذلك .

إقراء أيضا