الرئيسية المقالات مدارات لا جدوى من تحديد الهدف، دون معرفة الطريق
لا جدوى من تحديد الهدف، دون معرفة الطريق
د. أحمد قايد الصايدي
د. أحمد قايد الصايدي

في ظل الواقع المر، الذي نعيشه، تتوارد الخواطر وتتداعى الأفكار، ونجد أنفسنا نسترجع ذكرى أهداف لم تتحقق، وأحلام تبددت عبر السنين. ونوقن بعد طواف طويل، بأن تحديد الهدف لايفيدنا، إذا لم نعرف السبيل الموصل إليه. فالسير في طريق غير واضح المعالم يقود إلى التفريط بالهدف نفسه. إذ نصل، بعد عناء وجهد، إلى نقطة نجد أنفسنا فيها أبعد مانكون عن الهدف، وربما نكتشف أننا مازلنا نقف غير بعيدين عن النقطة التي انطلقنا منها، ولكن مثقلين بهموم وإحباطات، لم نكن مثقلين بها لحظة الإنطلاقة الأولى. 

كان على رأس أهدافنا في فجر السادس والعشرين من سبتمبر: "التحرر من الإستبداد والإستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والإمتيازات بين الطبقات". فأين وصلنا، بعد مسيرة جاوز مداها الزمني نصف قرن؟ لقد ابتعدنا عن هذا الهدف كثيراً ووصلنا إلى حكم يصعب تصنيفه، فلاهو جمهوري، كما يجب أن يكون النظام الجمهوري، ولاهو ملكي، كما هي الملكية في العالم الحديث. وقد أثرنا هذه المسألة في العشر السنوات الماضية، في أكثر من ندوة وفي أكثر من مقال.

إن إثارتنا هذه المسألة، بصورة متكررة، نابع من إحساسنا بضرورة استحضار أهداف الثورة السبتمبرية من جديد، وتبيُّن المسالك، التي سرنا عليها، لمعرفة مواقع الخطأ وأسباب العثرات، التي أوصلتنا إلى ماوصلنا إليه، تمهيداً لتجاوزها بوعي جديد، يتخطى ركام الأوهام وضجيج الشعارات، والبدء بالعمل بمنهجية ومثابرة وهدوء، عملاً لاتتحكم به العواطف، بل يحكمه العقل. لنضع من جديد أسس نظام جمهوري برلماني، كما يجب أن يكون. السلطة فيه مصدرها جمهور الشعب، ومفاتيحها بيد الهيئة البرلمانية، المنتخبة من الشعب، الممثلة لإرادته، الممارسة للسلطة التشريعية والرقابية نيابة عنه. نظام لاينتهي بحاكم فرد ولابسلطة تنفيذية تصادر كل سلطات الدولة وثروات المجتمع وحرية الناس.

إنه لايفيدنا ولايفيد مستقبل أبنائنا، أن نردد ليل نهار، شعارات الثورة، التي أفرغناها من معانيها، وأن نتغنى بأهدافها، التي فرطنا بها، وأن نتحدث بزهو عن إنجازات متواضعة تحققت بفعل حركة الزمن. غير مدركين أن نصف قرن من الزمان كان كافياً لأن ننتقل خلاله من مستوى الدولة الفاشلة، الذي نحن فيه، إلى مستوى دولة صناعية متقدمة. لو أننا انتهجنا طريقاً غير الطريق واخترنا حكاماً غير الحكام، وعملنا لتحقيق أهداف الثورة بجد وصدق ونزاهة وإخلاص. 

 إن حالنا اليوم ليس بأفضل من حالنا في الأمس. فبعد مصادرة ثورة سبتمبر، من قبل قوى لاتمثل روحها ولاتعبر عن حلمها، جاءت الثورة الشعبية في الساحات، لتجدد الحلم وتعيد الإعتبار لثورة سبتمبر وأهدافها. وحددت مطلباً عاماً، وهو إسقاط النظام، الذي لم يعد فيه من ملامح النظام الجمهوري سوى الإسم. ولكنها فشلت في إسقاطه، لأسباب تتعلق بمنشئها وقواها وبرنامجها، كما تتعلق بتساهلها وسماحها بأن يتولى قيادتها جزء من النظام، المطلوب إسقاطه. فأصبح المشهد بعيداً عن الثورة وطموحاتها، والنهاية مناقضة للهدف المرسوم في بداياتها. وقد لفتنا النظر إلى خطورة ذلك، في حينه، في مقال بعنوان (ثورة الشباب واختلاط الأوراق) نُشر في الصحافة المحلية، وأعدنا نشره في كتابنا (الرهان الثالث). فالنظام نفسه انقسم، وتوزع الأدوار، فأصبح حاكماً ومعارضاً في آن واحد. وكانت هذه هي النتيجة المنطقية لعدم معرفة الطريق، الذي يجب السير فيه، للوصول إلى الهدف.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد توالت محطات الفشل، وتوالت فصول المؤامرة، التي يتعمد المثقف العربي تجاهلها، بل وإنكار وجودها، وأصبحت (الفوضى الخلاقة)، وهي التمهيد العملي للمؤامرة الحالية، أصبحت واقعاً معاشاً، تمزق مجتمعاتنا العربية إلى طوائف وأعراق، يحارب بعضها بعضاً، لتخدم بحربها وتضحياتها، مشروع التجزئة وتمهد لرسم الخارطة الجديدة للمنطقة، التي يراد لها أن تحل محل خارطة (سايكس ـ بيكو)، سيئة السمعة، وأن تقسم الوطن العربي تقسيماً طائفياً عرقياً، يحوله إلى كانتونات صغيرة يعادي بعضها بعضاً ويصارع كل منها الآخر. كل هذا نملك نحن القدرة على إفشاله والحيلولة دون تحقيقه، إذا امتنعنا عن المشاركة في صنعه. فنحن أدوات هذا المشروع وجنوده، ونحن ضحاياه ووقوده. نسخر أنفسنا طواعية لخدمة القوى الخارجية وتحقيق مصالحها، التي تتناقض كلياً مع مصالحنا الوطنية. فنقتل بعضنا وندمر بلدنا ونقضي على حاضرنا ومستقبلنا، لنحقق للعدو مايعجز هو عن تحقيقه، لولا إخلاصنا لمشاريعه وتفانينا في خدمته، واستعدادنا لأن نموت شهداء، في سبيل مصالحه، التي نظن، عن جهل ووهم، أنها مصالحنا. 

هكذا عجزنا عن بلوغ الهدف، بعد أن فشلنا في تحديد المسار، وتهنا في الطرقات والمسالك، التي أنستنا الهدف نفسه، ولم تبق من الثورة وأحلامها سوى شعارات ولافتات خادعة، بل ومضحكة، حينما نرفعها وقد اغتلنا الثورة بأيدينا وصادرنا أحلامها، وسمحنا لحكامنا أن يبنوا على حسابها مجدهم وثراءهم، كما سمحنا لأنفسنا بأن نتحول إلى أدوات بيد القوى الخارجية، تسخرها لخدمة مصالحها وتدمر بها حاضر اليمن ومستقبله.

وكما حلمنا بالثورة طويلاً، ثم أضعناها وفرطنا بأهدافها، حلمنا بالوحدة. وكان حلمنا الوحدوي، ذات يوم، رابطاً يربط نضالنا ضد المستعمر في الجنوب وضد الحكم الإستبدادي المتخلف في الشمال. وتوحد نضال اليمنيين، جنوبييهم وشمالييهم، في مستعمرة عدن، حيث ولدت الحركة الوطنية الوحدوية اليمنية الحديثة. وخاض الشماليون والجنوبيون نضالهم جنباً إلى جنب، ضد المستعمر وضد الإمامة. فسقط أبناء الشمال في شوارع عدن وأحيائها وهم يحملون السلاح ويشاركون في قيادة الكفاح المسلح ضد الوجود الإستعماري. كما سقط أبناء الجنوب وهم يدافعون عن ثورة سبتمبر، في جبال الشمال وشعابه ووديانه. ثم جاء من صادروا كل هذا التراث النضالي الرائع، ووظفوه لمصالحهم الخاصة. وعلينا الآن إما أن نواصل السير خلفهم، بحكم العادة، أو أن نصحو ونخط لأنفسنا طريقاً آخر، واضح المعالم، يوصلنا إلى أهدافنا الواضحة. فنحقق أهداف ثوراتنا المتعاقبة، ونعيد لوحدتنا اليمنية اعتبارها، إذا كان مقدراً لها أن تبقى. شريطة أن تُبنى من جديد، بالصورة التي يرتضيها ويقتنع بها أبناء الجنوب أنفسهم. فبدونهم وبدون اقتناعهم ورضاهم، لايمكن أن يُبنى كيان وحدوي، يمثل مصلحة عامة لليمنيين جميعهم، ولايمكن أن تُبنى دولة مدنية ديمقراطية عادلة، يرسي قواعدها أبناء الجنوب وأبناء الشمال معاً، قادرة على تحقيق أهداف الثورة. لأن ثورة لاتحقق أهدافها، ليست ثورة، ووحدة لاتحقق المصلحة العامة للجميع وتنهض بالوطن اليمني كله، ليست وحدة.

وعلى المسرح السياسي والعسكري تبرز اليوم قوة جديدة، هي الحركة الحوثية، التي نعتبر أن أبرز عناصر القوة فيها، هو أنها لم تكن جزءاً من مكونات النظام السياسي، المطلوب تجاوزه، وبالتالي لم تكن شريكة في خطاياه، التي نحصد اليوم نتائجها. وهذا يمكن أن يعطيها قدراً من القبول ومن المصداقية في عيون المواطنين، إذا هي أحسنت التعامل والتعاون مع المكونات السياسية الأخرى، ووجهت جهدها مع الآخرين نحو هدفنا المركزي، وهو بناء الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، وتحاشت عملية التمدد والتوسع الحالية، التي ستبدد جهودها وتشتت قواها وتضعف قدراتها، وقد تولد اصطفافات ذات طابع مناطقي، عشائري، طائفي، يضر بالقضية الوطنية وبوحدة اليمن، مجتمعاً وجغرافيا. إن من مهام المكونات السياسية ممارسة الضغط على الدولة، لتضطلع بواجباتها. وليس من مهام أي مكون سياسي منها أن ينوب عن الدولة منفرداً، في التصدي للمشكلات الكبرى، التي يعاني منها الوطن. فهذا أمر يفوق قدراته، مهما بلغت قوته. وقد يقود ذلك إلى عواقب وخيمة، لسنا قادرين على درئها. نقول هذا من منطلق الحرص على الوطن والحرص على الحركة السياسية اليمنية بصورة عامة، وعلى الحركة الحوثية على وجه الخصوص، باعتبارها أداة وطنية قادرة، بمشاركة القوى الأخرى الفاعلة، أن تسهم في إحداث التغيير المطلوب، إذا هي لم تخطئ حساباتها، ولم تندفع، شأن من سبقوها، في المتاهات والمسالك غير الواضحة، التي تنعدم فيها الرؤية وتُستنزف الطاقات ويُهدر الوقت ويُدمر الوطن ويضيع الهدف. إذ لاجدوى من تحديد الهدف، دون معرفة الطريق الموصل إليه.  

إقراء أيضا