الرئيسية المقالات مدارات مع الشعب ضد مشروع الرعب
مع الشعب ضد مشروع الرعب
حسن العديني
حسن العديني

عندما اندلعت الحرب اللبنانية 1975 انساق إلى أتونها وجهاء البلاد وزعماؤها التقليديون وقادوا إليها أحزابهم وتنظيماتهم وعشائرهم وكتلهم السياسية على اختلاف توجهاتها وتباين أحجامها وتأثيرها في الحياة العامة. وفي ضرامها ظهرت زعامات جديدة شابة، ونشأت، بدوافع شتى، ميليشيات وأحزاب لم تكن موجودة. ومع حسبان الفارق الجوهري بين الأهداف الخبيثة للقوى الانعزالية اليمينية وارتباطاتها المشبوهة بدوائر أجنبية، وبين الدوافع النبيلة للأحزاب اليسارية في الدفاع عن حق المقاومة الفلسطينية في الوجود بلبنان، فإن الحرب بمجملها مثلت كارثة للفلسطينيين فوق كونها مأساة لبنانية لم تزل جراحها مفتوحة حتى الآن.

رجل واحد عزت عليه بلاده فاعتزل الحرب والسياسة وغادر إلى باريس وأقام هناك إلى أن مات في غربته قبل أن تسكت المدافع. ذلك الرجل هو العماد «ريمون إده» رئيس الكتلة الوطنية والوزير السابق للداخلية والمرشح للرئاسة في 1970. ولئن اكتنف الصمت ذكرى هذا الراهب السياسي في زحمة الحوادث التي يشهدها لبنان فإن التاريخ كفيل بأن يبدد عنها ضباب السنين.

قبل ذلك بثلاثة عشر قرناً 656م أبى «سعد بن أبي وقاص» أن يضع السيف في رقاب أهله ويشارك في تمزيق دولته، فالتزم الحياد في صراع بني قومه على السلطة قبل وبعد مقتل الخليفة «عثمان بن عفان» وكذلك في جميع الفتن التي تتعرض لها الشعوب والأمم يستدق الفارق بين المواقف التي تمليها العواطف وتلك التي يأمر بها الضمير.

وأشعر أن اليمن اليوم في المنحنى الضيق على الطريق الوعر الذي يؤدي إلى نهايات فاجعة ومدمرة، وأن القوى السياسية - كلها تقريباً - قد ذهبت في هذا الطريق، بعضها تحركت فيه بالإرادة عارفة ما تريد ولو كان ما تريده مجرد الانتقام من آخرين أو من الشعب بمجمله، فضلاً عن أنها في تقدير مصالحها لا تلقي بالاً لعواقب وبيلة تدرك تماماً أن البلاد ستدفع ثمنها، لكن البعض القليل يمضي في هذا الطريق بضمير قلق ونفس غير مطمئنة، رغم ذلك فهو يكابر خشية أن يحسب في عداد المتخلفين أو أملاً في نصيب من جوائز عاجلة بصرف النظر عن سوء الخواتم وحساب التاريخ.

ومع كل اليقين بأن نظرية المؤامرة تنطبق على ما يجري فإن هناك ظروفاً داخلية مواتية وقوى داخلية قابلة بدور أدوات التنفيذ، بل إن هذه القوى بممارساتها وأدائها في الماضي قد هيأت تلك الظروف ووفرت للمؤامرة الأسباب.

ولقد أكرر، دون ملل، ما قلته أكثر من مقالة عن قوى الرعب الثلاث المتربصة بالوطن والشعب، والمصممة على الدفع به نحو مصائر ومقادير لم تكن محتملة بدونها ومن غير أهوائها ومطامعها. ولقد ذكرت هذه القوى بمسمياتها حتى جاء الوقت ليتأكد أنها، هي ذاتها، تخوض معركة انتحار الوطن، الحوثيون، علي عبدالله صالح ورجاله القبليين، الإصلاح بأذرعه المسلحة. وبينما وضعت في معادل قوى الدمار ما اعتبرتها، قوى للأمل فإنني ما أزال على قناعة بأن هذه القوى تستطيع أن تقاوم وتكبح إذا وقفت حيث تأمرها ضمائرها وتتوافق مع تاريخها. وربما بدا أن الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري وحزب البعث «على ضعفه البادي» لا يمتلكون وسائل القوى التي تتصدى للسلاح فإن لديها قوة الضمير، وهي قوة غلابة قد تخسر المعركة الراهنة غير أن انتصارها مؤجل وحتمي، إنها بقوة الضمير تستطيع اختيار الموقف الصحيح بما يضعها في عين الشعب أداة خلاصه ومحط رجائه، فليس بعيداً عن الملاحظة أن الكتل الكبيرة من المواطنين غير راضية بالجاري والمتلاحق من الأحداث، غير أنها لم تجد مناط النجاة لتمسك به، ذلك أن قوى الأمل هذه لم تقدم نفسها للناس. إن الناس يعرضون أنفسهم لمن يقدر على قيادتهم، وذلك رأيناه فيما سمي بالحراك التهامي، وفي محاولة المواطنين في إب والبيضاء التصدي لقبائل الحوثي وعلي عبدالله صالح المسلحة. وإذ حاول الإعلام أن يصف أبناء البيضاء في طابور تنظيم القاعدة أعلنوا على من لديه سمع داخل البلاد وخارجها أن ذلك موقفهم بعيداً عن أي علاقة وبريئاً من أي شبهة، وكذلك رأيناه في يقظة تعز وسكانها والقائد العسكري المسؤول عنها اللواء محمود الصبيحي، وإن كانت تلك اليقظة معرضة لغدر اعتاد عليه تحالف الحوثي- صالح منذ بدأ حروبه.

وإذن فليسوا أشخاصاً بذواتهم المؤمل بهم أن يتـأسوا بـ«ريمون إده» في لبنان و«سعد بن أبي وقاص» في الفتنة الكبرى، وإنما هي أحزاب سياسية ما برحت أمامها فرصة تأكيد أنها قوى للأمل، ومن غير ذلك فسوف تخسر الناس وتخلي موقعها لقوى جديدة لا مناص من أن يفرزها الشعب من صفوفه بقوة التاريخ وحتميته. وثمة شاهد لا يدحض في مشاعر الرضا لدى اليمنيين من موقف الأستاذ عبدالله نعمان الأمين العام للتنظيم الناصري عندما امتنع عن التوقيع على «اتفاق السلم والشراكة» بعد أن فحص الوثائق واكتشف أن ممثلي الحوثي رفضوا التوقيع على الملحق الأمني. إن هذا الشاهد يعطي إشارة مشجعة للقوى الوطنية بأن الانحياز للشعب هو خيارها الطبيعي، وخيارها الصحيح.

ولقد أكدت كل الشواهد من قبل أن يجتاح مسلحو الحوثي وصالح مدينة عمران إلى هذه اللحظة أنهم لا يلتزمون بأي اتفاق ولا يوفون بأي عهد، ولما كان اتفاق السلم والشراكة يلزمهم بسحب مسلحيهم من العاصمة والمدن الأخرى فقد واصلوا انتشارهم واستولوا على مدن وبلدات ومراكز أخرى، وبقي حديثهم عن الاتفاق محصوراً في أمر تشكيل الحكومة الذي يتحايلون من أجل تأجيله لكي يلتهموا مناطق ومدناً جديدة. وفي هذا فهم يملون شروطهم ثم لا يتورعون عن القول بأنهم لن يشاركوا في الحكومة أو أنهم بحسب زعيمهم سيتخلون عنها للحراك الجنوبي، وسواءً ردوها أو أسندوها للجنوبيين فالنتيجة الطبيعية أنهم يريدون أن يحكموا دون أن يتحملوا المسئولية، وذلك مخالف لمقتضيات السياسة ومبادئ الإدارة بأي حال. ثم إن أظهر تجليات الزيف تكشف عن نفسها في التعامل مع المبادئ المعلنة قبل ما تنكشف من الممارسة، فعلى حين يتوسط الشعار الثلاثي لجماعة الحوثي على تدمير أمريكا «الموت لأمريكا» شاهدناهم في رداع يقاتلون بغطاء جوي تتولاه الطائرات الأمريكية.

وليست أبعاد المؤامرة واضحة أمامي بكل تفاصيلها، لكن بعض صورها واضحة، في حرب طائفية قائمة وفي إزالة العقبات أمام القوى الراغبة في فصل الجنوب، وربما في التمكين لفصل حضرموت والمهرة في دولة مستقلة. ولقد يُفهم من خطاب الحوثي الأخير المحمل بتطمينات للجنوبيين بأن مسلحيه لن يتقدموا نحو الجنوب ما يؤكد أن ساحة نشاطه ستقتصر على ما كان يعرف بالمملكة المتوكلية اليمنية أو الجمهورية العربية اليمنية وفقاً لهوى علي عبدالله صالح. وقد لا ننتظر طويلاً، ذلك أن دعوته لاجتماع لوجهاءاليمن نهاية الأسبوع قد يسفر عن قرار يصدر باسمهم ذي مغزى يتعلق بمستقبل الدولة الحالية، وقد يفرض القرار المتوقع من مجلس الأمن في التاسع والعشرين من الشهر الجاري التعجيل بتصعيد عبّر عنه أنصار علي عبدالله صالح في تلميحات أخرى.

وحتى لو أجل القرار إلى حين فإن على قوى الأمل الوطني أن تنأى بنفسها عن دور الكومبارس في مسرحية مأساوية تنتهي بتمزيق اليمن ووضع شعبها في جحيم حرب أهلية. إن دور الكومبارس المطلوب من قوى الأمل هو مهزلة في المأساة تثير الضحك في غمرة انهمار الدمع.

عن الجمهورية

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي