الرئيسية المقالات مدارات مرتاحٌ من لا عقل له
مرتاحٌ من لا عقل له
د. أحمد قايد الصايدي
د. أحمد قايد الصايدي

"الإنسان فيلسوف بالطبع". عبارة استهلَّينا بها دراسة مقرر الفلسفة في نهاية المرحلة الثانوية، عندما لم تكن الفلسفة قد أضحت لدى البعض أمراً مخيفاً وشراً مستطيراً. ويكفي هذه الأيام أن تنصت إلى مايقوله الناس في الشارع، أياً كان مستواهم الثقافي، لتسلِّم بصحة هذه العبارة، ولتكتشف أن الناس يتفلسفون بتلقائية. فعندما تختلط الأوراق ويشعر المرء بالإرباك الذهني والتعب النفسي، وهو يتابع تطور الأحداث، في اتجاهات غير معلومة ونحو مصير يصعب التنبؤ به، يبدأ بالتفلسف. والتفلسف في منشئة هو البحث عن إجابات تسهِّل فهم مايحيط بالإنسان من ظواهر تكتسي بالغموض. ولنقرأ جواب صاحبي، على سؤال روتيني بسيط، وجهته إليه: كيف الأحوال؟ وكنت أقصد بسؤالي أحواله الخاصة. لكنه فهم السؤال فهماً عاماً. فكان جوابه عاماً أيضاً، استرسل فيه، حتى خلته لن يتوقف.

قال صاحبي: "أتعرف أن البعض يفهم حرية التعبير، فهماً يتطابق مع مايُحكى على لسان حاكم مستبد (لقد منحتكم الحرية كاملة. فأنتم أحرار في مدحي كما تشاؤون). هكذا يرسم الحاكم المستبد حدود الحرية التي يتكرم بها على رعيته. صحيح أن هذا القول يُحكَى على سبيل الطرفة، ولكنه في الواقع يطبع حياتنا بطابعه ويشكل سلوكنا، ويبرز في ردود أفعالنا، تجاه أي تعبير يصدر مخالفاً لقناعاتنا ومزاجنا. ولاعجب في هذا، فالناس على دين ملوكهم، كما يقال. وفي قول آخر (الملوك على دين شعوبهم). وهذا القول الأخير أقرب إلى مارُوي عن الرسول الكريم (كما تكونوا يولَّى عليكم). فإذا ماحاولت أن تمارس حريتك المشوهة، وتتحدث عن إيجابيات حركة سياسية، مثلاً، أو انقلاب ثوري أو ثورة إنقلابية، ثم أخطأت فذكرت سلبية من سلبياتها، فأنت، في نظر مؤيديها، معاد لها دون شك. وإذا تحدثت عن سلبياتها، وسوَّلت لك نفسك أن تذكر إيجابية واحدة فيها، فأنت في نظر المعادين لها محسوب عليها".

واستطرد صاحبي في جوابه، الذي تجاوز حدود سؤالي الروتيني: "جرِّب، في أجواء التشنج والتشنج المضاد وغياب العقل، أن تتحدث عن مكوِّن سياسي ما، فتقول لقد أحسن في كذا وأخطأ في كذا. ثم تحدث عن المكوِّن المعادي له، بالطريقة نفسها. إنك لن تأمن من سخط الجميع عليك. فأنت حر أن تمدح، في حضور المؤيدين كما تشاء، وأن تقدح في حضور المعادين كما تشاء. أما أن تبرز الإيجابيات والسلبيات، في آن واحد، فلن تجني سوى سخط هؤلاء وأولئك. وستغدو في نظرهم جميعاً، شخصاً متذبذباً، ليس له موقف مبدئي. والموقف المبدئي هنا هو التعصب لطرف بعينه، في صوابه وخطئه. 

إذا أصابك مسٌّ من الصدق والموضوعية، وظننت أن العقل السوي يرى الإيجابيات في كل كائن بشري وفي كل مكوِّن سياسي، ولايغفل عن رؤية السلبيات، في الوقت نفسه، وأن العقل الأخرق لايرى إلا جانباً واحداً، وحاولت، انطلاقاً من هذا الظن، أن تنصف، متوهماً بأننا قد أصبحنا بين ليلة وضحاها ديمقراطيين متسامحين، نقبل الآخر المختلف معنا ونحترم حقه في التعبير عن رأيه، فأنت دن شك إما مجنون أو أحمق. فكل موضوع لايحتمل في نظرنا إلا لوناً واحداً، أبيض أو أسود، أما اللون الآخر أو تداخل الألوان، فأمر خارج عن المألوف ومناقض لطبائع الأشياء، ولم ترق عقولنا بعد للتعامل معه.

      ألا يبدو حديثنا عن الديمقراطية وحرية الرأي والحوار وقبول الآخر، وإلى ماهنالك من التعابير الرومانسية الجميلة، ألا يبدو حديثنا عنها ضرباً من الكذب على النفس والهزل الممل؟ إذا كانت دول عريقة في أنظمتها الديمقراطية، تمارس الكذب وتمرر كل ضروب العدوان والعنف والإرهاب والتحيز الكريه، تحت عباءة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فكيف بمن لم يعرفوا الديمقراطية في كل تاريخهم؟ الديمقراطية نظام للحكم، وصلت إليه بعض شعوب العالم، بعد مسار تاريخي طويل، لم نبدأه نحن حتى الآن. ومع ذلك ماتزال الديمقراطية لديهم مغلفة بهيمنة الطبقات المسيطرة على الصناعة والتجارة والمال. الحكام يأتون ويذهبون، يديرون مؤسسات الدولة كموظفين بعقود مؤقتة. أما السلطة الحقيقية فهي بيد أولئك المسيطرين، المتحكمين بالقرار السياسي من وراء الستار، الذين يصنعون الحكام، ويضعونهم على كراسي الحكم، ليخدموا مصالحهم ويشنوا الحروب على الشعوب المستضعفة، نيابة عنهم، بل ويقوموا أحياناً بوظيفة مدراء التسويق لشركاتهم، يفاوضون ويعقدون الصفقات مع دول العالم، لتسويق منتجاتها، ثم إذا شاءوا أطاحوا بهم واستبدلوهم بحكام أكثر كفاءة وتفانياً في خدمتهم. ألا يفصح الموقف المعلن، قبل أيام قليلة، لرئيس أكبر دولة ديمقراطية في العالم (أوباما)، وتهديده لكوريا الشمالية، المتهمة باختراق الشبكة الإلكترونية لإحدى الشركات الأمريكية (سوني)، وتأكيده على أنه يحتفظ بحق الرد المناسب، في الوقت المناسب، ألا يفصح هذا الموقف عن طبيعة العلاقة بين رؤساء الديمقراطيات الحديثة وصانعيهم. فإذا كان هذا حال من سبقونا قروناً في مسار الديمقراطية وحرية الرأي وقبول الآخر، فكيف بنا نحن، الذين لم نتعرف على الديمقراطية بعد، وماتزال صدورنا تضيق بالرأي الآخر، ولانحتمل الحديث عن حسنات خصومنا، ولانتسامح مع مخالفينا؟ 

لستَ محسوداً إذا لم تنضم إلى أحد الخنادق المتناحرة، واخترت الوقوف في موقع وسط، ونظرت إلى كل الأطراف نظرة موضوعية منصفة، لاتنكر إيجابياتها ولاتُغفل سلبياتها، ولن يجديك تعقلك وحياديتك وموضوعيتك، وتمسُّكك بالإنتماء إلى الأهم والأبقى، وهو الوطن، بكل من فيه وكل مافيه، بدلاً من الإنتماء إلى واحد من تلك الخنادق. فأنت في موقفك هذا موضع نفور من الجميع، أو في أحسن الأحوال موضع تجاهل من الجميع. وقد يصيبك بعض رذاذ الخصومات وشظايا المعارك، التي يثيرها غيرك، فلا يبادر أحد إلى مساعدتك. أنت بالنسبة لكل المتخاصمين كائن غير موجود. لا أحد يتعب نفسه في السؤال عنك، وإذا مت، فلن يحزن عليك أحد. أنت لست من نسيج هذا ولاذاك. لذا لن يشعر أحد منهم بحضورك أو غيابك. فكيف يمكن أن يكترث بصوتك إذا بح من طول حديث أو كتابة أو حتى صراخ. فحري بك أن تغير مافي طبعك ومافي نفسك، ليتطابق مع مايجري في الواقع، مهما تبدت لك شروره وتكشفت سيئاته. والأنجع من هذا أن تتخلى عن عقلك، وتلقي بنفسك في نهر الجنون. وسترى أنك لن تندم، وستبلغ بذلك السعادة القصوى. فالمرتاح في هذا الزمان العجيب، هو من لاعقل له".

 كان هذا جواب صاحبي، على سؤال روتيني عابر. وهو جواب لايحتاج إلى تعليق، ووجهة نظر تحمل طابع التفلسف، وتثبت أن الإنسان فيلسوف بالطبع. ينساق إلى التعبير عن طبيعته هذه، كلما ضاق حاله واصطخبت الحياة من حوله. ولصاحبي الحق في أن ينظر إلى بعض مظاهر الواقع بعين الفيلسوف، وأن يعبر عن رأيه بحرية، دون أن يخشى أية عواقب، مادام يتحدث مع صديق يحلم مثله، بأن يأتي يوم تسود فيه قيم المحبة والتسامح والتكافل والتعاون والعمل والبناء، وتُشاد قواعد الدولة المدنية العادلة، ويُكرَّس مبدأ المواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص، أمام المواطنين جميعهم دون تمييز، ويختفي الفساد وصُنَّاعه، وتنتهي كل دواعي الحروب والخصومات، ويأخذ اليمن مكانته اللائقه بين دول العالم، ويستعيد اليمني كرامته، التي هُدرت في الداخل والخارج، وتسود حرية الرأي، وتصبح قيمة يحترمها الجميع، ولاتجني على صاحبها سخط ولا غضب، ولاتورده موارد الهلاك. حلم سنظل نتمسك به، رغم كل مظاهر الجنون.

 

إقراء أيضا