الرئيسية المقالات مدارات الشرعية والحلم الجميل
الشرعية والحلم الجميل
د. أحمد قايد الصايدي
د. أحمد قايد الصايدي

تحدثت في الحلقة الخامسة من مقال نُشر في صحيفة صوت الجماهير، إبتداءً من 11 يونية 1994م، عنوانه (لحظة تأمل)، وأُعيد نشره في كتاب (الرهان الثالث)، تحدثت عن مصطلح (الشرعية الدستورية)، الذي استُخدم بإفراط شديد خلال حرب عام 1994م، وقلت فيما قلته: إن للشرعية الدستورية شكلاً ومضموناً. ولتوضيح ذلك استعنت بإحدى نظريات الدولة، نشأتها ووظائفها: "فنظرية العقد الإجتماعي، مثلاً، ترى بأن الدولة قد أنشئت بناءً على عقد اجتماعي، أُبرم بين الحاكم والمحكومين، تنازل بموجبه المحكومون عن جزء من حريتهم، مقابل قيام الحاكم برعاية مصالحهم وضمان الأمن والحماية والعدل لهم. فإذا لم يقم الحاكم بذلك، يكون قد خرج على مضمون العقد، وأصبح من حق المحكومين استبداله بحاكم آخر، يتقيد بالعقد المبرم. هنا يستمد الحاكم شرعية حكمه شكلياً من العقد، ولكنه في حقيقة الأمر يستمد شرعيته ـ وهنا يأتي المضمون ـ من قيامه بالوظائف، التي نص العقد على أن يقوم بها، وتسقط شرعيته ويبطل مفعول العقد، إذا لم يقم بها".   

هذا ماقلته في صيف عام 1994م. وهذه هي النظرية، التي استند إليها إعلان الإستقلال الأمريكي عن بريطانيا، في 4 يوليه 1776م، وثبَّت مضمونها في ديباجته. وفي هذه الأيام يتردد مصطلح (الشرعية الدستورية) من جديد، ولكن في سياق آخر. ففي عام 1994م كان النظام الحاكم بمجمله هو الذي يدَّعيها، أما اليوم فيدَّعيها الحاكم منفرداً، رغم أن رئاسته في حقيقتها رئاسة توافقية إنتقالية إضطرارية، إتفقت عليها المكونات السياسية خارج سياق الحياة السياسية الطبيعية، وخارج نصوص الدستور.

وإذا ما ابتعدنا قليلاً عن موضوع الشرعية، التي توظف حالياً لخدمة أهداف لاعلاقة لها بشرعية الحاكم اليمني أو عدم شرعيته، وتوقفنا عند الحرب، التي تشنها على اليمن دول التحالف الخليجي، مسنودة ببعض الدول العربية الأخرى، ذات الإحتياجات الخاصة، وببعض الدول الكبرى في العالم، ووضعنا المصالح الكامنة وراء هذه الحرب أمام أعيننا، فسنقف على الأسباب الحقيقية، التي جعلت الدول المعتدية تبادر إلى شن حربها هذه، بسرعة لم نعتدها في كل قضايانا العربية، بما فيها قضية فلسطين.

ولكن لايجب، ونحن نشير إلى العدوان الخارجي، أن نعفي أنفسنا من مسؤولية مايحدث، ومن مسؤولية استدعاء الخارج، إستدعاءً مباشراً صريحاً ومعلناً، من قبل الرئيس هادي، ووزير خارجيته، واستدعائه أيضاً بصورة غير مباشرة، بتعامل المكونات السياسية مع القضية الوطنية تعاملاً غير مسؤول، وتعاملها بعضها مع بعضها الآخر تعاملاً يفتقر إلى الصدق ويتسم بعدم الثقة وبالمراوغة، التي تسببت في ضياع الوقت وتعطيل الحوار، تعطيلاً لم تكن تحتمله أوضاع اليمنيين الأمنية والمعيشية، واللجوء إلى خيار العنف المسلح وسيلة للتعامل مع الخصوم.

لقد خشينا نهج العنف المسلح وكررنا التحذير من عواقبه، ليس فقط تحسباً للعدوان الخارجي المباشر، الذي لم نكن نتوقع أن يأتي من الجوار العربي، بل لما سينتج عنه، أي عن العنف المسلح، من اصطفافات مناطقية وطائفية، تمزق النسيج الإجتماعي وتؤسس لعملية تجزئة اليمن، سياسياً وجغرافياً واجتماعياً ونفسياً. وها نحن اليوم نلمس بوادر التجزئة، في نفوس الناس ومواقفهم، ونراها رأي العين. وقد لايطول بنا الوقت، إذا واصلنا نهجنا هذا وتعامينا عن رؤية مصالحنا الوطنية العليا الجامعة ولم نع حقيقة أننا جميعنا إخوة في الوطن وفي المصير، وأنه لن يحرص علينا أحد إذا لم نحرص نحن على أنفسنا وعلى بلدنا وشعبنا، قد لايطول بنا الوقت حتى نرى ست دويلات هزيلة، تحل محل اليمن الواحد، يسهل التحكم بها خارجياً، سبق التأسيس لها، تحت عنوان الأقاليم الستة، بحكوماتها وبرلماناتها المستقلة. وهو موضوع تحدثنا عنه في حينه، برسالة مفتوحة وجهناها للرئيس هادي ولرئيس وأعضاء لجنة إعداد الدستور، بتاريخ 29 مارس 2014م، ثم تناولناه في مقال مستقل، في تاريخ 24 أغسطس 2014م، عبرنا فيه عن تخوفاتنا من تقسيم اليمن على هذا النحو، وأوضحنا مخاطره المحتملة.

إن خيار العنف المسلح ينطوي على إخفاق سياسي فاضح، ويعبر عن غياب المشروع الوطني الحقيقي، الذي لن تبنيه لغة الدبابات والمدافع، بل تبنيه لغة العقل والحوار الصادق. إنه خيار ينذر بويلات لايعلم مداها إلا الله، سيكون ضحيتها الشعب اليمني كله، وسيتحمل إثمها من تسببوا فيها، سواءً بتعطيل الحوار السلمي، أو باللجوء إلى منطق القوة والغلبة. وأما استدعاء الخارج للإستقواء به ضد الخصوم المحليين، فليس حدثاً فريداً في التاريخ. فقد تكرر أكثر من مرة في تاريخ الشعوب. ولكن الأفراد أو القوى، التي استدعت الخارج مثلت نقاطاً سوداء في تاريخ بلدانها، لم يستطع الزمان محوها، ولم تستطع الشعوب نسيانها. ولم تكْفِ المبررات، التي تذرعت بها، لتطهيرها من جرم ما أقدمت عليه.

وبما أن مصالح الخارج ودوافعه معروفة، فإن تكرار الحديث عنها هنا لالزوم له. والأهم من ذلك أن نستحضر ثقافتنا الوحدوية وحلمنا في توحيد وطننا العربي الكبير، الذي كدنا ننساه، بفعل عاملين: أولهما: عجزنا الذاتي وتآمر بعضنا على بعضنا الآخر وانشغالنا بصغائر الأمور وانصرافنا عن القضايا الكبرى المصيرية. وثانيهما: كوابيس المؤامرات الخارجية، التي لم تنقطع منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم. ولنتساءل: ألا تمثل وحدة الجزيرة العربية، في دولة ديمقراطية إتحادية واحدة، مدخلاً عملياً إلى توحيد وطننا العربي الكبير ومخرجاً معقولاً من دائرة النزاعات والصراعات الداخلية وتضارب مصالح دول الجزيرة، التي أُعُدّت خطط تمزيقها من قبل أصدقاء لها، لايخفون نواياهم تجاهها، وسيأتي عليها الدور، بعد الإنتهاء من تمزيق اليمن؟

إنها مجرد خاطرة يستعيدها العقل الواعي من العقل الباطن المليء بكل الأحلام والطموحات، التي دفنتها النخب العربية ودفنها الحاكم العربي، كما دفنها الأغراب، خاطرة قد تشكل الرد الصحيح على العواصف القادمة من الخارج، وعلى الإقتتال الداخلي بين أبناء الوطن الواحد، وعلى كل المؤامرات، التي استهدفت أمتنا، والتي تديرها مصالح كبرى في العالم. فمشاريع التفتيت لايمكن مواجهتها، مواجهة استراتيجية أشمل وأعمق وأبعد أثراً، إلا بمشروع توحيدي، يسعى إلى توحيد الأقطار العربية، المهددة جميعها بالتمزيق، توحيدها في دولة عربية إتحادية واحدة، قادرة على امتلاك قرارها السياسي والدفاع عن مصالحها في وجه طواغيت العصر، تكون نواتها دولة الجزيرة العربية. فمتى سنشهد ميلاد حركة سياسية مؤهلة للنهوض بهذا الدور التاريخي؟.

لا أظن أنه يوجد يمني واحد لايرحب بوحدة الجزيرة العربية كلها، ووضع عقد إجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم. فبهذا تتلاشى أسباب الصراعات الداخلية وتنتفي الحاجة إلى عواصف الصحراء والحزم وغيرهما من العواصف، التي لن نحتاجها في ظل حكومة مدنية عادلة منتخبة ديمقراطياً وحائزة على رضى الشعب. إنه حلم مشروع، مادمنا نتحدث عن الشرعية. ولابأس أن نهرب من قصف الطائرات ودوي المضادات وهدير الدبابات ولعلعات الرصاص ومشاهد الدمار وصور الأطفال القتلى والمشوهين والمتفحمين، ومن الحصار المضروب على اليمن، براً وبحراً وجواً، كما نهرب من كابوس قتل اليمنيين بعضهم بعضاً، تحت شعارات ومبررات خرقاء، لاتقنع عاقلاً ولا تنطلي على طفل مرعوب أو مشوه أو محروق، أن نهرب من هذا كله إلى حلم جميل كهذا الحلم، الذي إذا ماتشبثنا به، فسيحدث تغييراً في نفوسنا وفكرنا وأوضاعنا، وستتغير نظرة العالم إلينا، المتسمة بالإستهانة والإزدراء، كما ستتغير نظرتنا إلى أنفسنا. وليعذرني المتمترسون وراء عوامل التمزيق من قطرية ومناطقية وطائفية، إذا ماتحدثت عن هذا الحلم، الذي قد يبدو لهم حلماً ساذجاً، يُطرح في وقت غير مناسب. ولكن لعلها أجواء الحرب، التي لاتفجر في الإنسان غرائزه الوحشية فحسب، بل وتفجر أيضاً أحلامه الجميلة، المدفونة في أعماق النفس.  

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي