الرئيسية المقالات مدارات التصحيح.. حاجةٌ يمنيةٌ راهنةٌ
التصحيح.. حاجةٌ يمنيةٌ راهنةٌ
فائز عبده
فائز عبده

حين يسوء وضع بلدٍ ما، ويستفحل فيه الفساد، ويستعصي الإصلاح، يكون البلد بأمسِّ حاجةٍ إلى تغييرٍ ينهض بمهمته طليعةٌ من أبنائه؛ استشعاراً لمسؤولية انتشال البلاد من حالتها السيئة، وإنقاذها من التدهور والتردّي، وتصحيح الوضع المختلّ الذي تعيشه.

هذه المهمة الوطنية هي ذاتها التي اضطلع بها القائد إبراهيم محمد الحمدي، الذي استشعر الحالة المزرية التي وصلت إليها اليمن، مطلع سبعينيات القرن الماضي، في ظل نظام الانقلاب الرجعي في 5 نوفمبر 1968، واستشفَّ برؤيته الواعية مخاطر الوضع القائم، واستشرف مآلاته الخطيرة على مستقبل البلد الذي كانت تتنازعه الإرادات الخارجية، وتنهشه الأطراف الداخلية، وهو لمّا يخرج بعد من آثار معركته الطويلة مع رموز وأذناب النظام المثور ضده في 26 سبتمبر 1962.

فما كان من الحمدي، وقد بانت له ملامح ما هو قادمٌ على اليمن من تدهورٍ شاملٍ وأخطارٍ محدقةٍ، إلا أن قرر القيام بحركةٍ تغييريةٍ تقوم على أسسٍ إصلاحيةٍ تلتزمها القيادة العليا للدولة، ويلمس نتائجها كل أفراد المجتمع، فأعلن في 13 يونيو 1974، حركة التصحيح، التي حلّت الأسبوع الماضي ذكراها الـ41. وهي حركة تغييرٍ بيضاء لم تسفك فيها قطرة دمٍ واحدةٌ، وسرعان ما التفَّ حولها الشعب اليمني؛ إذ رأى فيها المخرج الأنسب مما كانت تعيشه البلاد من صراع مراكز القوى السياسية والقبلية والعسكرية، ومن تدهورٍ في كافة المجالات، وفسادٍ مستشرٍ في أغلب مرافق ومؤسسات الدولة الناشئة، التي كانت تتجه حثيثاً إلى الفشل الذريع على مختلف المستويات.

ولم تلبث قيادة الحركة أن أظهرت وطنيتها من خلال البدء بتنفيذ رؤيتها السياسية والتصحيحية التي انتظمت في إطارها كامل جغرافيا اليمن الشمالية حينها، ووقوفها على مسافةٍ واحدةٍ من جميع القوى السياسية، رغم توجه الحركة القائم على حظر الحزبية نظراً لظروف المرحلة الحساسة التي كانت تعيشها البلاد آنذاك، وتجنباً لاستمرار الصراعات التي كانت تخوضها الأطراف السياسية قبل ذلك.

كما تضمنت برامج الحركة عمليات التصحيح والتطوير التي استهدفت كافة المصالح الحكومية، وعمَّت مختلف مناطق البلاد، مع التركيز على تنمية الريف الذي شهد نقلةً نوعيةً في الخدمات التي قدمت إليه خلال تلك الفترة القصيرة.

ولم تغفل قيادة الحركة قضية الوحدة اليمنية التي كانت ضمن أولوياتها كواحدٍ من أهداف ثورة سبتمبر التي هدفت الحركة أساساً لإعادتها إلى مسارها الحقيقي الذي انحرفت عنه بفعل صراعات القوى التقليدية التي تحكّمت بأمور الدولة والمجتمع بعد انقلابها المشؤوم على حكومة الرئيس عبدالله السلال، في 5 نوفمبر 1968.

وخلال عمرها القصير الذي لم يستمرَّ أكثر من 3 سنواتٍ وبضعة أشهرٍ، حققت حركة التصحيح إنجازاتٍ عظيمةً، وقفزاتٍ هائلةً، وقطعت أشواطاً كبيرةً في إصلاح مؤسسات الدولة، وتنمية مقدرات البلد، وتعزيز مستوى تطور المجتمع على مختلف المجالات والأصعدة.

ليس من مجالٍ هنا لسرد كل تلك الإنجازات التي حققتها حركة 13 يونيو، لكنها جديرةٌ أقلّه بالإشارة إلى كونها عملياتٍ تأسيسيةً في ذلك العهد، وتركزت على إنشاء وتشييد البنية التحتية لنهضة الشعب اليمني اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، فتمَّ شقُّ الطرق وبناء المدارس والمرافق الصحية، وإنشاء الحدائق العامة والمجمعات السكنية، وتشجيع زراعة المحاصيل الاستهلاكية والنقدية، وتشييد المصانع ووسائل الإنتاج المختلفة. وهو ما حقّق ازدهاراً اقتصادياً، ووفّر مواردَ هائلةً، ورفع مستوى معيشة الفرد في وقتٍ لم تكن اليمن تملك ما امتلكته لاحقاً من مواردَ نفطيةٍ وغيرها. هذا، بالإضافة إلى استعادة كرامة المغترب اليمني الذي بات يفاخر بهويته، ويستمدُّ قوَّته من رئيسه الشاب الذي قهر أركان الرجعية والتخلف في المنطقة.

تلك الإنجازات لم يشهدها ويشهد لها معاصروها من المواطنين، وحسب، بل لم تزل الأجيال اللاحقة حتى اليوم تلمس آثارها، رغم كل محاولات الطمس والتشويه التي قادها، على مدى 3 عقودٍ، نظام علي عبدالله صالح، من أجل محو ذكرى الحركة وقائدها الشهيد إبراهيم الحمدي، الذي اجتمعت كل الأطراف الداخلية والخارجية، المتضررة من توجهاته الوطنية والاستقلالية، لاغتياله في 11 أكتوبر 1977، عشية توجهه إلى عدن للاحتفال بذكرى ثورة 14 أكتوبر 1963، والتوقيع مع قيادة اليمن الجنوبية، على اتفاقية الوحدة اليمنية. ليتمّ بذلك اغتيال الحلم اليمني الذي أجمعت عليه جماهير الشعب، ومنحته ثقتها وتأييدها.

اليوم، تعيش اليمن واحدةً من أسوأ مراحل تاريخها، إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق، حيث تشهد البلاد أشدَّ الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، وحروباً واقتتالاً في عديد مناطق، وتدخلاً عسكرياً سافراً، في ظل استمرار جماعة الحوثي في اختطاف الدولة وانتهاك حقوق وحريات المواطنين، والعبث بالمؤسسات والمرافق الحكومية التي فرضت نفسها على إداراتها، فضلاً عن ممارساتها المشهودة في المناطق والمحافظات التي سيطرت عليها بقوة السلاح، وما ترتب على كل ذلك من انقساماتٍ مجتمعيةٍ ونفسيةٍ حادةٍ، وفرزٍ مذهبيٍّ ومناطقيٍّ مقيتٍ.

هذا الوضع السيئ، وحالة العنف السائدة، والفساد المسيطر على مفاصل الدولة والمجتمع في اليمن، هو بكل تأكيدٍ، أشدُّ وأقسى وأمرُّ وأخطر مما كان معاشاً قبيل قيام حركة 13 يونيو التصحيحية، وهو ما يمثل بحقٍّ إرهاصاتٍ مواتيةً لحركة تغييرٍ مماثلةٍ لتلك التي اضطلع بها طيّب الذكر إبراهيم الحمدي، عام 1974.

اليمن، اليوم، أحوج ما تكون لحركة تصحيحٍ تنتشلها من مستنقع الفساد والحروب، الذي أغرقتها فيه جماعات العنف وقوى الاستبداد، وإنقاذها من مخاطر الضياع في متاهات النزاعات المحلية والإقليمية التي تحصد أرواح الأبرياء من أبناء الشعب اليمن، وتقضي على تطلعاته المستقبلية، وعلى أحلام الأجيال القادمة.


[email protected]


 

إقراء أيضا