الرئيسية المقالات مدارات عن الفرز المذهبي الخطير
عن الفرز المذهبي الخطير
فائز عبده
فائز عبده

في أغسطس 2002، خرجتُ أبحث في أحد شوارع مدينة صيدا بجنوب لبنان، عن مسجدٍ لأداء صلاة الجمعة. استوقفتُ رجلاً أسأله، فردَّ عليَّ بسؤال صعقني وأربكني: هل تريد مسجداً سنياً أم شيعياً؟

لم أكن أتوقع سؤالاً كهذا، رغم أنَّ لديَّ معرفةً لا بأس بها بشأن المسألة الطائفية وحضورها الطاغي في لبنان. بيد أنني تجاوزتُ إرباكي سريعاً، وأجبته بأنّ لا فرق عندي، فأشار إلى مبنىً قريبٍ على يمين الشارع، باعتباره مسجداً شيعياً، إذا رغبتُ فيه، وأشار عليَّ بأن أواصل السير في الشارع مسافةً حتى أجد آخر على جهة اليسار، إن أردتُ مسجداً سنياً. شكرته ومضيت في طريقي عدة خطواتٍ، وفي نيتي أن أدخل المسجد القريب حتى لا تفوتني الصلاة.

وقفتُ بباب ذاك المبنى الذي لا يختلف عن البنايات المجاورة، إلا أنّ على واجهته لوحةً صغيرةً مكتوباً عليها اسمه الذي لم أعد أتذكره الآن. لم ألحظ على المبنى المكون من عدة طوابقَ، أية منارةٍ، ولم يكن هناك سوى بابٍ صغيرٍ لم أرَ داخله تحركاً مألوفاً لي كأيِّ مسجدٍ، ولم أشاهد شخصاً يدخل منه. أوجستُ خيفةً، ولم أرد أن أخاطر بالدخول، فقررتُ مغادرة المكان، ومواصلة البحث عن مسجدٍ قبل أن يداهمني الوقت، حتى وجدتُ المسجد الآخر الذي بدا واضحاً ومرتفعاً على يسار الشارع، بقبّته ومناراته، وصوت الخطيب يصل إلى الخارج، فصعدتُ بضع درجاتٍ رخاميةٍ عريضةٍ، ودخلتُ رفقة بعض مرتاديه، إلى الصرح الخارجي، واستمعتُ إلى بقية الخطبة.

يومها، فكرتُ بالأمر، ووجدتُ أن ما نسمعه في وسائل الإعلام عن الفرز الطائفي لدى النخبة السياسية في لبنان، له حضورٌ في الشارع العام ولدى المواطن العادي، لدرجة أنّ ذاك الرجل لم يتردد في سؤالي بكل بساطةٍ عن هوية المسجد الذي أريد، ومن ثم تخييري بين مسجدين لطائفتين أو مذهبين، الأمر الذي لم نعتد مثيلاً له في اليمن.

ومؤخراً، استعدتُ هذه الذكرى لمَّا بدأت تظهر في اليمن، عملية الفرز بين المساجد على أساس الهوية المذهبية، والنظر إلى مرتاديها بحسب انتمائهم المذهبي والمناطقي، والتركيز على طقوسهم الشعائرية وطريقتهم في أداء الصلوات وغيرها من العبادات والممارسات الدينية.. وكل هذه المستجدات تزامنت مع بروز الحركة الحوثية كجماعةٍ مسيطرةٍ على أجزاء واسعةٍ من المحافظات اليمنية، والسلوكيات العنصرية والتمييزية التي تصدر عن أفراد الجماعة وأنصارها، والتي بدأت تتسرَّب إلى بعض المواطنين؛ بحيث بات بإمكان أحدنا أن يسمع في الشوارع والمقايل أحاديثَ مشبعةً بلهجةٍ مناطقيةٍ حادةٍ، وبالذات تجاه أبناء محافظة تعز، التي اعتادت أن تكون الضحية الوحيدة لكل الصراعات القائمة على أساسٍ طائفيٍّ ومناطقيٍّ.

هذا، علاوةً على الممارسات القمعية من قبل هذه الجماعة، تجاه معارضيها السياسيين، ومخالفيها الفكريين، والتي وصلت حدَّ التعامل العنيف مع الخصوم، وقتالهم في عديد محافظاتٍ، وبدوافعَ يغلب عليها النفَس الطائفي، واختلاق الذرائع والمبررات والمسوِّغات التي تدعم سيطرتها القهرية على البلاد.

لم نكن نعرف مثل هذه السلوكيات والممارسات التمييزية حتى سنواتٍ قريبةٍ، حيث كان الواحد منا يدخل للصلاة في أقرب جامعٍ إلى مسكنه، أو في أيّ مسجدٍ على طريقه، لا يهمّ إن كان زيدياً أو شافعياً. أتذكر أنني كنت غالباً ما أصلي الجمعة في فترةٍ من الفترات، في "جامع حجر"، الكائن قريباً من تقاطع شارعي الزبيري وحدة بالعاصمة صنعاء. أفضِّله -وغيري كثيرون- لأن الخطيب اشتهر بإلقاء خطبةٍ موجزةٍ قصيرةٍ، دون اعتبار لهويته الزيدية. وكنا نرى المصلين ضامِّين ومسربلين، متجاورين في صفٍّ واحدٍ، في هذا الجامع كما في غيره، ونسمع تأمين البعض دون آخرين، من غير أن يثير ذلك أيَّ هاجسٍ، أو يبعث أيَّ توجّسٍ تجاه الآخر، مثلما بات يحدث مؤخراً.

وتجسيداً لهذا الفرز المذهبي المقيت، فقد ذهب بعض الناس إلى ترك المسجد الذي اعتاد أن يصلي فيه؛ حيث يتحوَّل إلى الصلاة في مسجدٍ ينتمي لمذهبه، وإن كان يتطلَّب الانتقال إلى مسافةٍ طويلةٍ، أو نقل المسكن للاقتراب من المسجد الذي يناسبه، وإلا فإنه يضطرّ لأداء صلواته في منزله؛ تجنباً للمخاطرة والاشتباه. على أنَّ هذا الأمر يقتصر على بعض الناس، إما بدافع التشدّد أو الخوف، بينما آخرون ظلوا على عادتهم النابعة مما درج عليه اليمنيون من تعايشٍ مذهبيٍّ على مرِّ القرون الماضية.

أدرك أنَّ هذا الموضوع حساسٌ وخطيرٌ للغاية، لكنني موقنٌ أن حساسيته وخطورته تحتّمان إثارته لغرض التنبيه إليه، والتنبّه منه، لا لتكريسه وتعميق الهوَّة بين أبناء الشعب الواحد، الذين ينبغي أن يوظفوا تنوعهم وغناهم الثقافي، في ما يجسّد وحدتهم، ويخدم بلدهم ووطنهم.

وآمل أن تكفَّ الجماعات والأطراف المختلفة عن تسويغ الاختلاف، وتبرير التفرقة، وبثّ روح الشقاق والأفكار الطائفية والمناطقية، وأن تتجه للعمل على تجسير الهوَّة التي خلقتها الصراعات السياسية والحروب العبثية، بين أبناء الشعب اليمني الذي لم يعرف عبر تاريخه شروخاً في نسيجه الاجتماعي، كما هو عليه اليوم، للأسف الشديد.

وعلى الجميع تحمل مسؤوليته الدينية والوطنية والأخلاقية، لإخراج اليمن من هذا المأزق الخطير، وإنقاذها من محنتها الكبيرة، والانتقال بها إلى مرحلة البناء والنماء والإنتاج والتعليم الحقيقي الذي يكفل تخريج أجيالٍ تحبُّ بلادها، وتصنع لها ممكنات التطور والرخاء والإبداع والسلام.

[email protected]

  

إقراء أيضا