غلطة الشاطر..
فائز عبده
فائز عبده

ذات يومٍ ينتمي إلى العام الدراسي 88/1989، حصل موقفٌ لم أكن أتصور حينذاك أنني سأكبر لأروي قصته لأولادي في سياق توجيههم إلى سلوكياتٍ معينةٍ، ونصحهم بشأن ما ينبغي عمله أو الاعتماد عليه في مسار حياتهم.

دخل الأستاذ سيف أحمد يحيى، الفصل الذي يضمّ تلاميذ الصف السادس الابتدائي، وفي حوزته أوراق أجوبة اختبار أحد الأشهر للمادة التي يدرِّسها في مدرسة "الجيل الصاعد"، بمنطقة "قَشيبة"، التي خدم فيها سنتذاك، قبل أن يتخرّج من كلية التربية، ويعمل في مدارس العاصمة صنعاء. وقبل أن يعلن نتيجة كل طالبٍ، أطلعنا على التالي: من يرسب سوف ينال جلداً بالعصا بعدد ما نقص من درجاتٍ عن حدِّ النجاح. وقد فعل.

كنتُ من الطلبة المتفوقين في الصف، بحسب تقديرات المعلمين وتقييمهم لمستوى التحصيل الدراسي، وأحد المتنافسين على المراكز الـ4 الأولى، طوال سنوات دراستي الابتدائية والإعدادية. غير أنّ المفاجأة التي صدمت المدرس نفسه، جاءت وسط أحداث مهرجان الضرب ذاك. صمت الأستاذ سيف، بعد أن لفظ اسمي، ووجَّه إليَّ نظرةً قاسيةً، طويلةً، وذات شررٍ، ثم قرأ اسمي مجدداً، بصوتٍ حادٍّ، وبلهجة استغرابٍ، ورأيتُ في وجهه علامات الاستنكار وملامح الغضب. كانت المفاجأة هي حصولي، لسببٍ ما، على 18 من 40، ما يعني استحقاقي جلدتين.

بدوري، وقفتُ عن مقعدي، وتوجهتُ إلى مقدمة الفصل حيث يقف المدرس. فعلتُ ذلك بكل بساطةٍ دون أي وجلٍ أو ترددٍ؛ ليس استهتاراً أو عدم خشيةٍ من الأستاذ الغاضب ومن العقاب المنتظر، وإنما اقتناعاً بما استحققته، وقبولاً بعدالة ونزاهة أستاذي الفاضل الذي عرفته آنذاك، كما اليوم، كواحدٍ من حاملي تلك القيم السامية.

مددتُ يدي اليمنى لأتلقى جلدةً أعلم أن الأستاذ استجمع كل قواه ليرسلها إلى كفي، وأخرى مماثلةً سطرت أثرها على كفي الأيسر، محملتين بكمية غضبٍ واستياءٍ لم يشاركني فيها أحد من التلاميذ. غير أنني لم أشعر بألم تلكما الجلدتين القويتين، اللتين ربما فاقت الواحدة منهما مجموع ما حصل عليه 10 من زملائي، ذاك اليوم.

ليست قدرتي على التحمل هي ما امتصَّ الألم، ولا كنتُ قوياً بما يكفي لتلقي مثل ذلك العقاب القاسي. بل إنني أدركتُ أن لغضب الأستاذ معنىً، ووراء قسوته رسالةً، وقرأتُ في مجمل تصرفه مغزىً عبَّر عنه بالشكل العنيف الذي ارتآه الأنسب لإيصال الفكرة التي أرادني أن أتلقاها.

أظنني كنتُ عند حسن ظنه يومذاك: وصلتني الفكرة من فورها؛ إذ عرفتُ المعنى لغضبه، وتلقيتُ الرسالة المغلفة بتلك القسوة، واستبان لي المغزى من ذاك التصرف المسؤول من المعلم القدير. مسؤوليته تجلَّت في ما وراء غضبه الذي ينمُّ عن حرصه على مستوى التحصيل العلمي لتلامذته، واهتمامه بتطوير تقديراتهم، وتنمية قدراتهم، كما يعبر عن احترامه لمهنته الجليلة، وتقديره للرسالة التي يؤديها من خلالها.

ظل هذا الموقف راسخاً في ذاكرتي، منذ 27 عاماً، لم أنسه قط، احتفظتُ به كجميلٍ لأستاذي، ودرسٍ لحياتي. ومؤخراً، رويتُ قصته لولدي فادي، مبيناً له مغزىً أو ربما أكثر من مغزىً يحمله ذلك الموقف الذي يحثُّ على الاجتهاد والتفوق في كل المجالات، ويدعو إلى الحرص على رفع المستوى، والسعي إلى النجاح، والحفاظ على مؤشرٍ تصاعديٍّ في مسار الحياة العلمية والعملية، ويحضُّ على الاستفادة من التجارب، وأخذ الدروس من المواقف، والاعتبار بالأحداث والشواهد. وإذ أعترف أنني أخفقتُ في بعض ما مضى، وتعثرتُ في غير محطةٍ سابقةٍ، فإنني أرجو ألا تعترض ولدي ظروفٌ مشابهةٌ لتلك التي أعاقت خطواتي، وكبَّلت إرادتي.

ويحمل الموقف أيضاً تأكيداً على التواصل المعرفي بين الأجيال، والمعنى الحقيقي للتربية والتعليم القائمين على المشاركة والاستيعاب، واستخدام الأساليب المهارية والوجدانية، وتطوير القدرات والمدارك، وتنمية الملكات الفكرية، وتهذيب المسلك والمعاملة.. لا الاكتفاء بالتلقين، والاعتماد على الإلقاء، وعدم متابعة الحالة التحصيلية والسلوكية للطالب، كما هو سائدٌ في كثيرٍ من المرافق التعليمية للأسف الشديد. الأمر الذي أثّر كثيراً على العملية التعليمية، وساهم في تدهورها عموماً، قبل أن تصل بها الأحداث الأخيرة إلى التوقف التام في كثير من المناطق والمحافظات، وما لذلك من أثرٍ سلبيٍّ بالغٍ على حاضر ومستقبل الأجيال.

وتفيد تلك الحادثة، ضمن فوائدها الجمة، في أهمية تكريس العلاقة الإيجابية بين المدرس وتلميذه، وبنائها على أساسٍ من المسؤولية المتبادلة؛ حيث يسعى الأول لتكوين الشخصية السوية والخلاقة للطالب الذي ينبغي أن يهيئ نفسه لتلقي واستيعاب متطلبات دوره المنشود كفردٍ صالحٍ في المجتمع، وإنسانٍ منتجٍ ومفيدٍ في خدمة الوطن.

ومن فضائل الموقف إياه، أنه يشدد على ضرورة الاستفادة من الأخطاء، عظمت أم هانت، والحرص على عدم تكرارها. وكذا التعامل مع المواقف واستحقاقاتها وفقاً لظروفها الذاتية والموضوعية، وبحسب زمانها ومكانها وأشخاصها، فلكل شخصٍ مقدارٌ وأسبابٌ، ولكل فعلٍ أثره الخاص على الفرد وعلى الآخرين، ويختلف الحال حين يأتي الخطأ ذاته من هذا الشخص أو ذاك؛ فكما يقال فإن "غلطة الشاطر بعشر".

[email protected]


إقراء أيضا