الرئيسية المقالات مدارات تعز التي يستقبلك دمارها وحزنها..!
تعز التي يستقبلك دمارها وحزنها..!
زكريا الحسامي
زكريا الحسامي

ما زلت أتذكر ذلك اليوم عندما ركبت الباص متوجهاً إلى مدينة تعز لمشاركة اخي فرحه عقب عيد الأضحى.. خلال فترة السفر راودني قلق , فتعز لم تعد التي نعرفها حين كانت تغمرنا الغبطة والشوق لزيارتها، تعز الآن غير، لم تعد الحالمة المسالمة فقد عمد عباد الشيطان إلى إحراقها وحصارها و حولوها إلى سجن كبير.

في الساعة الثالثة عصراً لاحت لي المدينة من بعيد، كان المشهد لمسلحين يملؤون الشوارع ويتكؤون على أرصفتها مدججين بالسلاح ترتسم على وجوههم ملامح الكراهية والانتقام.. في كل نقطة نصبوها يستبقونك بنظرة استخفاف ويمطرونك بأسئلتهم الغبية من أين قادم؟ وهل لكم علاقة بالمقاومة؟ وماذا يوجد في حقائبكم؟.

وحين نتجاوز كل نقطة تعلو الابتسامة وجه الركاب ويتنفسون الصعداء على أنهم نجوا من ذلك الشاوش العنيد لكن ابتسامتهم لم تدم طويلاً ليصعد الباص شاوش آخر نصب له نقطة على مسافة لا تتجاوز نصف كيلو ويبدأ بالصعود الى الباص ويمارس هوايته بإثارة الفوضى ونثر حقائب المسافرين والعبث بها.. وهكذا يتكرر المشهد أكثر فأكثر كلما اقتربنا من نقطة الوصول إلى المدينة، وما إن وصلت نقطة النزول وبالتحديد في جولة سوفتيل أخذت حقيبتي وأنا أتأمل المكان والخراب، كان الدمار هو سيد الموقف، لم يعد اي شيء كما كان سوى أصحاب سيارات الأجرة وهم يتسابقون لاصطياد زبائنهم وتتعالى أصواتهم لتملأ المكان ضجيجا، أما الشوارع والمحلات التجارية فخاوية على عروشها.

لا شيء يشير إلى أن هناك نبضاً للحياة، بعد وقت قصير من نزولي باص راحة وأخذ حقيبتي بدأت أسأل من هم إلى جانبي. هل لا زال شارع كذا مفتوحاً لكي نمر منه يفاجئني الجميع لم تعد هناك شوارع، هناك أزقة وممرات لم تعرفها ستكون طريقك الوحيد التي ستسلكها لكي تصل إلى وسط المدينة.. يا الله كم هذا موحش ومخيف في مدينتنا التي كانت شوارعها لا تعرف السكون ليلا ونهارا لكن وصل بنا الحال لكي نسأل عن شوارعنا هل لازالت مفتوحة أم مغلقة.

حينها عرفت أن الرحلة التي قطعتها من صنعاء إلى أن وصلت مدينة تعز لم تكن شاقة، فالمسافة الشاقة بدأت الآن وما علي إلا الاستعداد لها، فالمخاطر محدقة وباتت قريبة جداً.. بدأت أفكر بالحيطة.. توجهت إلى سائق سيارة الأجرة، طلبت منه أن يمر بي في طريق آمن بعيدة عن الاشتباكات فرد على الفور ليس هناك طريق آمن وكل شيء على الله.. قلت أؤمن بقدر الله وأعرف أن الأوضاع خطيرة لكن ربما لخبرتك بالمدينة خصوصاً وأنك قد جربت وسلكت طرقاً عديدة فإنك تعرف الأماكن الآمنة ويمكننا العبور منها.. رد علي: تفضل، حينها شعرت بأن قيمة المشوار ستكون باهضة من خلال شرحه لي بالمخاطر وارتفاع سعر دبة البترول، قلت له بكم قيمة المشوار إلى جولة وادي القاضي (المكان الذي اقصده) فرد على الفور بعشرة آلاف ريال صعقت حينها.. وقلت أنا نزلت من صنعاء إلى هنا بخمسة آلاف ريال وأنت تقول من جولة سوفتيل (الحوبان) إلى جولة وادي القاضي بعشرة آلاف، قال: نعم وبعد مراجلة ومن سائق الى آخر اتفقنا على ثمانية آلاف ريال.. كنت أردد في نفسي ليس مهماً المهم أننا نصل بأمن وسلام.

بدأ السائق بالتحرك وهو لا زال يلح علي بأن أعطيه بقية الألفين واننا سأقدر ذلك عندما أشعر بالطريق التي سيسلكها واننا سوف أعطيه العشرة آلاف ريال وظل يحكي ويتكلم وأنا غارق في صمت رهيب أنظر إلى الشوارع الخالية إلا من أناس غرباء متوحشين وبدأت تتسلل إلى مسامعي أصوات اشتباكات متقطعة في الاتجاه الذي نحن نسير نحوه طلبت من السائق أن يتوقف حتى تهدأ تلك الاشتباكات رد علي ساخراً: هذه لا شيء والآن الساعة الرابعة بعد العصر عاد الدنيا هادئة ولا بد أن نسير بسرعة أكثر فكلما تأخرنا زادت الاشتباكات ضراوة.

قبلت على مضض تبريره حين لم يكترث لطلبي بالتوقف فواصل المسير وكان يعبر من كل نقطة تابعة للمليشيات الحوثية وصالح ويرد عليهم السلام وعند مغادرته يصب اللعنات لقد حولوا مدينتنا إلى رماد.. يواصل: "إذا تمكن هؤلاء من السيطرة على تعز سيدعسونا دعس" كان يرددها مراراً.

مررنا بجولة القصر والعسكري وثعبات وصولا الى المجلية وفي تلك الأثناء كانت أصوات الرصاص والقذائف تشد انتباهي واحاول التركيز على مكان مصدرها هي قريبة منا ام في مكان آخر وملامح وجهي مكفهرة، لكن السائق يمر وكأن الامر طبيعي وأحسست حينها أن أجلي قد دنا وأن حتفي المكتوب هو اليوم.

شعر السائق وأنا في جانبه متوتر ونحن نمر من أمام تلك المتارس.. متارس الموت بأن القلق قد أخذ مني مأخذه خاصة وأنه كان يعبر الأزقة وهو يسرد لي مجموعة من الحكايات التي تعرض لها أشخاص للقنص فصاحب الخضار الذي كان يبيع الخضار هنا قنص برصاص المليشيات وفلان صاحب الباص قنص هناك وصديقه قتل بقذيفة في تلك الحارة و..و..و.. وقصص مرعبة تعودوا عليها.

وغالباً ما كانت تقطع حكايته التي كنت اسمعها بألم يعصرني أصوات الرصاص والانفجارات وكنت أخاف أن تكون من قناصين وتنال منا.

التفت إلي لفتة سريعة وعرف أن أصوات الرصاص تفزعني كثيراً فرفع صوت المسجل عالياً محاولا ان يشغل بالي بالاستماع وان لا آبه لتلك الأصوات وقال ستتعب كثير ا وحين وصلنا إلى منطقة المجلية قال لي نحن في أخطر مكان وعليك أن تردد الشهادة لأننا في نقطة التماس وسنعبرها وأشار لي هناك متارس المليشيات وتلك متارس المقاومة أي في الطرف المقابل.. لاحظت حينها وانا اتأمل المنطقة السيارات تعبر تلك النقطة الفاصلة بسرعة جنونية، فتبادل إطلاق الرصاص لا يتوقف من كل جهة وكأننا في نقطة تفصل بين اسرائيل وفلسطين، فالحواجز الاسمنتية والترابية خير دليل.. وعبرنا تلك المسافة بحمد الله وشعرت وكأن عمراً جديداً كتب لي.

دخلنا الشوارع التي تسيطر عليها المقاومة , فالقذائف التي تمطرها المليشيات على تلك المناطق الخاضعة لسيطرة المقاومة لا تتوقف، فلم تعد هناك منازل مأهولة بالسكان والمحلات التجارية مغلقة، كما ان الدمار بفعل تلك القذائف قد نال من المنازل والمحال التجارية.. لقد عاثوا بتعز خراباً ودماراً وزرعوا الموت في كل بيت.

رغم ذلك إلا أننا لمسنا عزيمة عالية وإصراراً لا يقارن لأولئك الأبطال الذين نصبوا المتارس لمواجهة المجرمين والذود والدفاع عن مدينتهم متسلحين بعزتهم وكرامتهم، لقد حملوا السلاح كرهاً للدفاع عن أنفسهم وأهليهم وحتماً ستنتصر المقاومة مهما طال الأمد أو قصر وسينتصر الحق مهما تغطرس الظالم بعتاده وعدته.

وصلنا بحمد الله الى المنزل وقد عبرنا تلك المتارس والحواجز الإسمنتية التي تقطع الشوارع والدمار والخراب الذي يعم المدينة ولازال في ذاكرتي حتى الآن.

نعم وصلنا بالسلامة كان سائق السيارة رفيقاً ممتعاً ومفزعاً معا قضيت معه نصف ساعة مسافة الطريق الى المنزل.

 غير انه في نفس الوقت يتمتع بمعنويات عالية لا ترعبها اصوات الرصاص والقذائف، وكذلك هي الحال تعز رغم ما أصابها إلا أنها تبدو شامخة عصية على الانكسار.

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي