الرئيسية المقالات مدارات معضلة التشكيك
معضلة التشكيك
فائز عبده
فائز عبده

يكاد التشكيك أن يكون سمةً ملازمةً للمجتمع اليمني، وغالبةً على معظم تفاعلات أفراده وانفعالاتهم؛ حيث يتجلَّى كردِّ فعلٍ تجاه أيِّ حديثٍ أو تصرفٍ أو موقفٍ، بغرض تبخيسه وتحقيره، أو نفي إيجابيته وجودته، وإثبات سلبيته وسوئه، أو التهوين منه، والتقليل من شأنه، أو تهويله وتعظيم أمره، أو تفسير أسبابه ودوافعه، وتأويل غاياته ومقاصده.

ويتم التعبير عن هذا التشكيك، بكلامٍ أو تصرفٍ أو موقفٍ مضادٍّ للقول أو الفعل الصادر عن الشخص أو المكون المراد معارضته أو النيل منه. وغالباً ما تتجسد هذه العملية في حياتنا الشخصية والعامة، وعلى مستوى البيت والشارع والعمل، وفي إطار العمل السياسي، بصورةٍ يوميةٍ، وبشكلٍ يجعلها تبدو كغريزةٍ أساسيةٍ جُبل عليها الإنسان اليمني.

يعبر رد الفعل هذا عن فقدان المصداقية تجاه الآخر، وعدم الثقة فيه، وسوء ظنٍّ في نواياه وسلوكه. قد يكون هذا الآخر شخصاً أو أفراداً أو جماعةً أو حزباً أو حكومةً أو سلطةً أو دولةً، وقد يكون قريباً أو بعيداً، صديقاً أو عدواً، حليفاً أو خصماً، وقد تكون العلاقة معه عاديةً أو متأزمةً، والتعامل معه سلمياً أو عنيفاً.

وأنت تتحدث عن أمرٍ ما، يبادرك من تحدثه: "قل والله"، "بالله عليك!"، "أمانة!"، "مش معقول!"، "من صدق؟"، أو يطلب منك يميناً بالله على صدق كلامك، فتفعل، ولا يلبث أن يكرر تلك التعبيرات مراراً، ولا يألو جهداً في انتزاع تأكيداتك المتتالية على صحة أقوالك، وربما تجد أخيراً أنك أنهيت حديثك العادي مصحوباً بالكثير من الأيمان المغلظة والإثباتات الأكيدة التي تدعم صدقيته وصحته.

أحياناً تتلقى أو تواجه ردَّ فعلٍ متشككاً إزاء فعلٍ لست معنياً به أو مسؤولاً عنه، إنما لشبهة علاقةٍ لك بالجهة الصادر عنها ذاك الفعل، أو حتى لمجرد تخمينٍ وتوهُّمٍ وسوء تقديرٍ. ويمكن أن تتعرض لمواقفَ محرجةٍ نتيجة سوء فهمٍ، لأن أحدهم نظر لتصرفك من الناحية السلبية، أو قدَّر الجانب السيئ فيه. وقد تجد ذاتك محاطاً بأسوارٍ من التوجُّس وعدم الاطمئنان بحكم قربك المفترض من طرفٍ ما، أو علاقتك المحتملة به، أو تجد نفسك مداناً بجرمٍ لم تقترفه، أو معاقباً بجريرة غيرك، فقط لأن الآخر تسرَّع في الحكم عليك بسبب انعدام حسن الظن، والافتقار إلى التفاهم، وغياب الشفافية في العلاقات الاجتماعية.

وفي العلاقات السياسية، لا يختلف الأمر من ناحية التعاطي مع المواقف بارتيابٍ وشكٍّ؛ حيث يتخذ حزبٌ أو تنظيمٌ سياسيٌّ موقفاً لا ينسجم مع مواقف بعض شركائه في العملية السياسية، فيتم التشكيك في أسباب وأهداف ذلك الموقف، وتحميله أكثر مما يحتمل من الظنون والتأويلات، ويتعرض الحزب وقيادته للتجريح والتجريم، وإطلاق الاتهامات العديدة بالخروج عن الإجماع مثلاً، وغير ذلك من ردود الفعل المتشنجة التي تنمُّ عن قصورٍ شديدٍ في تقدير الوضع وفهم الظروف المحيطة بذاك الموقف، وإدراك المعطيات الذاتية والموضوعية التي حتَّمت اتخاذه.

كما أن رأياً سياسياً لحزبٍ معينٍ، تطابق أو تقارب مع وجهة نظر حزبٍ أو بعض أحزابٍ في الطرف الآخر من العملية السياسية، لا بدَّ أن تصوَّب نحوه سهام التشكيك، وتلاحقه قوائم الاتهام، وتتناوشه مخالب التشنيع، وتتربص به سكاكين الانتقاد، باعتباره خيانةً لمبادئ التحالف، وارتماءً في أحضان الخصم السياسي، أو ناتجاً عن تنسيقٍ معه، وصفقةٍ سيكون لها ثمارها القادمة، بحسب تقديرات ذوي النزوع التشكيكي حيال المختلف مع مكوناتهم السياسية.

ويتناسى هؤلاء المتشككون أن السياسة تحكمها الظروف المتغيرة، وتجسدها المواقف التي تتوافق مع واقع الحال ومقتضيات الزمان والمكان، وتتسق مع طبيعة القضايا المطروحة. وهم إنما يسعِّرون ممكنات الصراع، ويوقدون النار تحت مراجله، بدلاً من أن يسهموا في تحجيم نقاط الخلاف، وتقريب وجهات النظر، ونزع فتيل التوتر والشقاق، وتوفير موجبات الاتفاق.

وبعيداً عن وجع السياسة، وأنانية معظم السياسيين الحريصين على تنمية مصالحهم على حساب المصلحة الوطنية، فإن معضلة التشكيك تلقي بظلالها القاتمة وتأثيراتها السلبية وعواقبها الوخيمة على كل جوانب حياتنا الأسرية والاجتماعية والعملية، وتتدخل في أدقِّ تفاصيلها، ولا تغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا دسَّت فيها أنفها.

ركزوا على أحاديثكم وتصرفاتكم، راقبوا أولادكم وردّات أفعالهم، وتأملوا حولكم وفي محيطكم... ستجدون مظاهر التشكيك وتجلياته وتعبيراته ترافقكم في كل مكانٍ، وفي كل آنٍ، سيجد الرجل من زوجته العديد من ردود الفعل المتشككة، ربما بقدر ما سيقابلها به منها، وسيلاحظ الأب في خطاب أبنائه وسلوكهم الكثير من سوء الظن وانعدام المصداقية والثقة في ما بينهم، أو بينهم وبين الوالدين.

وكلما خرج أحدنا من إطار البيت ونطاق الأسرة، أدرك المزيد من النماذج والأمثلة: يطلب المتسول حسنةً، فيشكك المارة في كونه محتاجاً، يرى الناس مجنوناً في الشارع، فيصنفونه كمخبرٍ، يعرض البائع بضاعته، فيعبر الزبون عن عدم اطمئنانه إلى صلاحيتها وجودتها، تسير الفتاة في الشارع، فينظر إليها البعض بعين الريبة، يخرج أحدنا مع زوجته بمفردهما، فيحسبهما سيئو الظن عشيقين، يقدم شخصٌ خدمةً، فيساء الظن به، تخرج الزوجة للتسوق أو لزيارة أهلها أو إحدى صديقاتها، فيلاحقها الزوج بالاتصالات بدعوى الاطمئنان عليها، كونها في رأيه لا تجيد التصرف بمعزل ٍعن توجيهاته، يعود الرجل إلى البيت متأخراً، فتبادره امرأته بالسؤال عن سبب التأخير، وأين كان، ومع من... ولا تتوقف الأسئلة النابعة من أعماق الشك.

إن التشكيك بهذه الصورة والحال المبالغ فيها، بات معضلةً خطيرةً، سواءً على العلاقات الاجتماعية، أو على الأطراف السياسية، ولا بدَّ من مراجعة المواقف وتقييم الأداء، وافتراض حسن الظن عند متابعة مواقف الآخرين، والنظر إلى الأشياء بإيجابيةٍ، والتركيز على الجانب الجيد منها، والكفّ عن إطلاق الأحكام المتسرعة، حتى لا يصبح التشكيك ثقافةً سائدةً في أوساطنا، ولكي نحدَّ من كوارث هذه الآفة الخبيثة المتوغلة في حياتنا، والتي تنخر مجتمعنا في الصميم دون أن نشعر.

  [email protected]


إقراء أيضا