الرئيسية المقالات مدارات كلهم آدميون ومدنيون
كلهم آدميون ومدنيون
محمد كريشان
محمد كريشان

«العالم أعور!! يسأل من القاتل أولا ومن المقتول، ثم يـُـــخرج الموقف!! الإنسانية في واد والموقف في واد آخر». صاحب هذه التغريدة في «تويتر» كان يعلق على تغريدة أخرى، قال فيها صاحبها «لا فرق بين قتل المدنيين بطائرات حديثة وقتلهم بأحزمة ناسفة ومفخخات. الإرهاب إرهاب. يجب أن يدان بقوة هنا وهناك».

لم تكن هناك من مناسبة لمثل هذه الكلام سوى الغارة الروسية الأخيرة على سوق شعبية وما خلفته من ضحايا مدنيين تناثرت أشلاؤهم في كل مكان ولم يكن لهم من بواكي. ليس فقط لأنهم سوريون لم يعد لدمهم قيمة بعد ما أوغل النظام فيه، وما جرّه على البلد من ويلات من أفحشها جلبه لتلك التنظيمات المتطرفة التي لا تراعي هي الأخرى للمدنيين حرمة، بل أيضا لأن الفاعل هو روسيا التي يقرأ لها حساب بين الدول في وقت بات فيه بعضنا مفتونا بتدخلها في سوريا طالما هي ترفع لواء محاربة «تنظيم الدولة الإسلامية» مع أنها لا تفعل.

مناسبة هذا الكلام أيضا، أن العالم كله يهتز في كل مرة، وهو محق في ذلك، لأدنى عملية ضد المدنيين الغربيين يرتكبها متطرفون يرفعون شعار الإسلام، في حين يبدي برودة غريبة كلما تعلق الأمر بضحايا عرب تقتلهم غارات طائرات سورية أو روسية أو أمريكية أو فرنسية أو غيرها في كل من سوريا والعراق.

مناسبة هذا الكلام كذلك، ما كشفه تقرير صادر قبل يومين عن مركز «وقف إطلاق النار» المعني بالحقوق المدنية، ومقره بريطانيا، من أن أكثر من أربعة آلاف مدني قتلوا، في العمليات العسكرية ضد «تنظيم الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا خلال عامي ألفين وأربعة عشر وألفين وخمسة عشر، وأن نحو ألفين وثمانمئة شخص منهم قتلوا بنيران القوى الأمنية العراقية وحدها، فيما قتل البقية في غارات نفذها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ونظام الأسد وبالغارات الروسية في سوريا.

مناسبة هذا الكلام كذلك، أن الغارات الروسية لوحدها قتلت أكثر من 1500 شخص في سوريا، ثلثهم من المدنيين، منذ بدء موسكو حملتها الجوية في 30 ايلول/سبتمبر، في حصيلة جديدة أعلنها المرصد السوري لحقوق الإنسان الاثنين. ومن بين هؤلاء الــ 485 مدنيا يوجد 117 طفلا دون سن الــ 18 و74 امرأة. وحتى إذا صدقنا ما يقوله المسؤولون الروس عن استهدافهم لمواقع تنظيمي «الدولة» و»النصرة» دون غيرها، فإنه، على الأقل، لا يمكن نفي ما تسببه غارات القوات الروسية من انعكاسات مدمرة على المدنيين، فوفق ما ذكره الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك فإن ما يناهز الــ 124 ألف سوري أضطروا إلى ترك بيوتهم في محافظات حلب وإدلب وحماة في غضون 25 يوما فقط، بين 5 و30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ولأن المدنيين في كل من سوريا والعراق واقعون في حقيقة الأمر بين إرهابين، إرهاب النظام ومن معه من الروس والمليشيات الطائفية القادمة من إيران ولبنان والعراق وغيرها، وإرهاب بعض التنظيمات المعارضة المسلحة التي تقول إنها تحارب النظام لكنها لا تفعل إلا زيادة معاناة الأهالي في المناطق التي تسيطر عليها. فقد كشفت حصيلة جديدة للمرصد السوري لحقوق الإنسان أن تنظيم «الدولة الإسلامية» أعدم 3591 شخصا في سوريا، أكثر من نصفهم من المدنيين، منذ إعلانه «الخلافة الإسلامية» نهاية شهر حزيران/يونيو 2014. ووفق المصدر نفسه فإن التنظيم أعدم 1945 مدنيا، بينهم 77 طفلا و103 نساء، «رمياً بالرصاص أو بالنحر أو فصل الرؤوس عن الأجساد أو الرجم أو الرمي من شاهق أو الحرق» في عدة محافظات.

ومثلما يعتبر الأكثر مرارة هو إقدام قوات النظام السوري في أكثر من مناسبة على قصف مدنيين بالبراميل المتفجرة، دونما توضيح أو اعتذار، ومع وضوح فاقع أنهم مدنيون وليسوا مقاتلين، تتعامل الحكومة العراقية بمنطق فظيع هي الأخرى مع مدنييها ممن سبق لها أن وصفتهم بــ»المختطفين» أو «الرهائن» لدى تنظيم «الدولة الإسلامية» في المناطق التي يسيطر عليها في الأنبار وفي مدينة الرمادي تحديدا. هؤلاء الذين يبلغ عددهم زهاء الــ 200 ألف، طلب منهم مؤخرا مغادرة تلك المناطق رافعين الأعلام البيضاء تهيئة لعملية عسكرية وشيكة على ما يبدو، مما سيفاقم من محنة هؤلاء الذين بات عليهم الآن الاختيار بين البقاء المذل في مناطق سيطرة تنظيم لا يرحم وبين السعي لنجاة محفوفة بكل هواجس الهلاك والهوان. من المخجل أن يتعرض كل هؤلاء المدنيين لهذا الإرهاب ولا أحد يهتم أو يكترث وسط هذه الجلبة الدولية عن محاربة الإرهاب، في حين أن الإرهاب الآخر الذي يهتز له العالم ما هو إلا إحدى ثمرات الإرهاب المسكوت عنه.

 

عن القدس العربي ..

إقراء أيضا