الرئيسية المقالات مدارات اليمن وأخباره.. واليمن وهمومه
اليمن وأخباره.. واليمن وهمومه
رضوان السيد
رضوان السيد

ما أن تحدث مشكلة في بلد حتى يسارع الباحثون والمراقبون إلى «تتبع العوامل» التي تجعل من تلك المشكلة ضرورة وتحصيل حاصل! وينطبق ذلك على اليمن كما ينطبق على غيره من البلدان، بيد أن المسائل مع اليمن تظل أكثر صعوبة وتعقدا. فقد كان اليمن لدى العرب دائما مثار اعتزاز وافتتان، ومنذ صدر الإسلام، وربما قبل ذلك، ظل اليمن رمزا للتحضر والازدهار والاعتدال والتعقل، بخلاف عرب الشمال ذوي الأصول والسلوكات البدوية القاسية.

بيد أن الطريف أن القبلية التي تزول بالتدريج من سائر أنحاء الشمال، تظل عاملا أساسيا في حياة اليمنيين وتنظيمهم الاجتماعي والسياسي. والقبلية غير البداوة، ففي حين تشير الكلمة الأولى إلى التنظيم الاجتماعي والسياسي، تشير الثانية إلى نمط الحياة أو المعيشة. واليمن ثلاث بيئات أو أربع: البيئة الساحلية، ويعيش سكانها منذ أقدم العصور على البحر والتجارة. والبيئة الوسطى، وهي بيئة الفلاحين والأراضي الخصبة. والبيئة الجبلية، وهي بيئة الرعي والزراعة في الوقت نفسه، وهي تمتد في الجبال إلى الحدود السعودية، وفي الوسط والجنوب بمحاذاة دولة الإمارات العربية والسعودية وعمان أيضا، حيث تختلط الجبال البركانية بالرمال الصحراوية المترامية الأطراف.

وترجع أصول اليمن الحديث إلى القرنين الخامس والسادس للهجرة، حين نشأت هجر العلم، وهي مستقرات للقبائل، يقوم بالعمل الديني والقضائي فيها سيد من أهل البيت في غالب الأحيان، وليس من السلطة الحاكمة، ويتبادل التأييد وصون المصالح مع البطون والعشائر وأبنائها. وعندما تصارع الأوروبيون مع العثمانيين حول التجارة في البحر العربي والمحيط الهندي، نال ذلك من استقلالية الشواطئ وحريتها في الحركة بعض الشيء، في حين ظل سكان الجبال ـ وتحت سطوة أشراف من أهل البيت ـ خارج سيطرة الأوروبيين فالعثمانيين. وهكذا أطلت الأزمنة الحديثة على اليمن بلا نفوذ استعماري في غير بعض السواحل (مثل عدن)، في حين ظهرت حركة وطنية غير مذهبية في المدن والبلدات، تتنفس برئة مصر ثم سورية والعراق، وتعمل على طرد البريطانيين، وإعادة توحيد اليمن، وإصلاح الإمامة أو إزالتها. لكن كان من سوء حظ الجمهورية الجديدة أنها ظهرت في الحرب الباردة واصطفافاتها العربية (مصر في مواجهة المملكة العربية السعودية على أرض اليمن). وأدى الانسحاب المصري من اليمن بعد نكسة عام 1967 إلى تحول اليمن بيئة للانقلابات ضمن صفوف الجيش اليمني الناشئ، ولا يزال الجنرال علي عبد الله صالح في السلطة منذ عام 1979 نتيجة استيلائه على السلطة بعد مقتل سلفه في عمليات حك الركب وقتها بين شمال اليمن وجنوبه.

 ولأن صراع الحكم في اليمن الشمالي كان مع اليمن الجنوبي ذي النظام الماركسي، فإن تحالفاته الداخلية والخارجية تحددت على هذا الأساس، فتصاعد دور القبائل ونفوذها، وهي القبائل التي لم تكن متحالفة مع نظام الإمامة، بالإضافة إلى الصحويين الإسلاميين الصاعدين (من إخوان وسلفيين). وكما أثار ذلك في الثمانينات من القرن الماضي عداء التقدميين والقوميين، أثار أيضا حساسيات لدى الزيدية، (وهم كثرة بين سكان الجبال في شمال اليمن، والرئيس منهم) الذين ظلت الأطراف المتحالفة مع النظام تعتبرهم من أنصار الإمامة البائدة. وبالإضافة إلى عامل القلقلة هذا، اضطربت علاقات الرئيس صالح بالسعودية والكويت بعد عام 1990 بسبب انحياز اليمن إلى صدام في حرب العراق على الكويت. وما صلحت العلاقة تماما بعد ذلك.

وحقق الرئيس علي عبد الله صالح إنجازين رئيسيين: إعادة الوحدة إلى اليمن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي نصير الكيان الجنوبي (1990)، وفرض الاستقرار على مدى نحو ربع قرن، والذي ما كانت تعكر صفوه غير عمليات الخطف التي كانت بعض القبائل تقوم بها ضد السياح الأجانب وموظفي شركات التنقيب عن النفط أو استخراجه. بيد أن الأطراف الدولية والعربية التي كانت تقدم مساعدات تنموية سخية لليمن قللت من دعمها بالتدريج بسبب الفساد الهائل المنتشر.

وكما في كل الأنظمة «التقدمية العربية» فإنه بعد مضي عقد أو عقدين على تسلط الضابط أو الانقلابي على الأمور، يحل على رأس الدولة والأجهزة العسكرية والأمنية أبناء المتسلط وإخوانه وأصهاره وأقاربه الأقربون والأبعدون. وقد حدث هذا لدى الرئيس صالح، كما حدث من قبل لدى الأسد وصدام والقذافي... إلخ.
 
ولا شك أن ذلك ـ مضافا إلى الفساد ـ أثار هواجس وسخط فئات واسعة. والرئيس صالح، وبخلاف الحكام التقدميين العرب، يراعي الشكليات الديموقراطية التمثيلية بشأن إجازة الأحزاب السياسية، وإجراء الانتخابات المنتظمة، والسماح بوجود معارضة قوية. لكنه ما استطاع أن يحل عقدة بقائه هو في السلطة هذه المدة الطويلة. وقد وعد 3 مرات أن لا يترشح، ثم ترشح دون منافس حقيقي. وهكذا فإن خصومه السياسيين ركزوا في السنوات الأخيرة على تضاؤل شرعية النظام بسبب الفساد من جهة، وتخليد الرئيس في الرئاسة من جهة ثانية، وسيطرة أقاربه على الأمور في البلاد.

والذي يبدو أن «الصحوة الإسلامية»، التي تمتعت تياراتها باحتضان الرئيس صالح على مدى أكثر من عقدين، ساعدت في استقبال «القاعدة». ففي التنظيم الأصلي الذي أنشأه بن لادن ـ وهو من أصول يمنية حضرمية ـ هناك عدة يمنيين. ثم إن مبعوثي بن لادن، والآتين من السعودية هاربين، لا يزالون يجدون حماية وملاذا. وفي المدة الأخيرة، ومع اشتداد الحملات عليهم بالعراق وأفغانستان وأن سورية ما عادت تستقبلهم كالسابق، فإنهم ظهروا بكثافة في الصومال واليمن.

ثم إن عدم العناية من جانب الرئيس صالح بتطوير الحياة السياسية، وبمراعاة حساسيات الجنوبيين المحلية، أفضت إلى محاولة أولى للانفصال من جانب الجنوبيين عام 1994، قادها وقتها الحزب الاشتراكي الذي كان حاكما قبل الوحدة. لكن الأمر هذه المرة أخطر لأن تحالف «الحراك الجنوبي» يضم اليوم إلى الاشتراكيين: القوميين والسلفيين والصوفية والمتذمرين من الأوضاع المعيشية السيئة. وهناك حضارمة أثرياء في الخليج لا ينظرون بعين الرضا إلى نظام الرئيس صالح أيضا.

والأخطر من هذا وذاك الانشقاق الحوثي، فالصحوة السنية أنتجت فيما أنتجت الإخوان المسلمين والسلفية الجديدة (الجهادية). أما الصحوة الشيعية فأنتجت ولاية الفقيه وحزب الدعوة، وحزب الله، وها هي الآن تنتج الانشقاق الحوثي (نسبة إلى حسين الحوثي الذي تزعم التمرد الأول، وبعد مقتله يقوده أخوه عبد الملك، وهما ابنا عالِم زيدي تقليدي كبير هو بدر الدين الحوثي. وحوث هجرة من هجر العلم عند الزيدية في شمال اليمن). والانشقاق الحوثي مدعوم من إيران، كما تدعم سائر الحركات الشيعية في العالمين العربي والإسلامي، ولأنها تريد إزعاج السعودية على حدودها، فضلا عن العامل التاريخي، وهو أن الزيدية كانت نسبتهم نصف السكان أو أكثر قليلا عندما كان اليمن الشمالي وحده، وهم الآن لا يزيد عددهم على الثلث من سكان الجمهورية. وكما في كل الحركات الصحوية الشيعية هناك نزوع انكماشي إلى الاستقلال والانفراد، يكاد يضاهي أو يفوق النزوع الآخر الاستيلائي.

وهكذا يقع «اليمن السعيد» ـ بحسب المؤلفين الكلاسيكيين ـ في قلب أربع أزمات: أزمة نظام الحكم، وأزمة انتحاريات «القاعدة»، وأزمة الحراك الجنوبي، وأزمة الحراك الحوثي. ولا يستطيع الجيش اليمني أن يواجه الأزمات الثلاث، ليس لنقص العدد والعدة وحسب، بل ولأن أحدا ما عاد مستعدا للدفاع عن النظام. فلا بد من سماح الرئيس صالح بتقديم الانتخابات الرئاسية، بحيث يأتي رئيس جديد في عملية دستورية وليس من خلال انقلاب. وقد يكون من الملائم أن تحدث انتخابات نيابية وبلدية لتجديد تمثيل النظام. وخلال هذه العمليات التغييرية، لا بد لليمن من احتضان عربي خليجي وغير خليجي، أو يتحول مثل عدة بلدان عربية ـ للأسف ـ إلى خاصرة ضعيفة للخليج وللأمة العربية أخطر ما فيها أنها على البحر والمحيط:

تكاثرت الظباء على خراش

فما يدري خراش ما يصيد

 نقلا عن الشرق الاوسط


إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي