الرئيسية المقالات مدارات العقل والهوية الجامعة
العقل والهوية الجامعة
زيد عبد الباري سفيان
زيد عبد الباري سفيان
 

منذ بزوغ فجر النهضة والأمة العربية تعيش ثنائية في التفكير استهلكت كل طاقاتها الفكرية والسياسية وجعلها تراوح مكانها محرومة من حقها في ولوج العصر بكل تجلياته العلمية ومكتسباته الحضارية.

ولا أدل على هذه الثنائية ما نلمسه من صراع مفتعل بين اﻹسلام والعروبة ، النقل والعقل ، التراث والعصر ، الوطنية والقومية الهوية والمذهب.

ويرجع نشوء هذه اﻹشكالية في الثقافة العربية إلى ما تعرض له إنسان هذه المنطقة من صدمة نفسية من جراء الهجمة اﻹستعمارية التي بدأت بجيوش نابليون بونابرت مما سبب جرحا نرجسيا غائرا في الذات العربية ولد لديه هذا الشعور المتعاظم بالهزيمة من جهة وحساسية مفرطة تجاه الحضارة الغربية وما تقدمه من مفاهيم ومكتسبات جديدة سواء على صعيد الفكر اﻹنساني أو الطبيعي على حد سواء 

إشكالية الهوية واحدة من القضايا التي اعاقت النخبة العربية عن الوصول إلى تصور فكري واحد يعالج الخلل حول مسألة الولاء للوطنية القطرية والفكرة القومية.

لقد عانينا في الماضي من حالة اﻹنحسار والتراجع عن الهوية الجامعة واليوم نرى نزوع الكثير من فئات المجتمع العربي نحو فك اﻹرتباط عن الدولة القطرية .

لقد تعقدت هذه المسألة لتصبح إشكالية في الوعي الجمعي تتعلق بفهمنا للهوية.

وهي إشكالية امتدت إلى حلقة أصغر واعقد هو التنافر والتجاذب تجاه الوحدة بين أقاليم الدولة القطرية بل نفد كالوباء ليصل إلى المكونات المذهبية والمناطقية والعشائرية في اﻹقليم نفسه بعد أن كان محصورا حول الدولة القطرية والفكرة القومية

إن هناك خللا واضحا في النظام المعرفي الذي يحدد نظرتنا إلى اﻷشياء وإلى العلاقات المتبادلة فيما بينها.

تأتي أهمية الوعي أو البنية المعرفية في كونها تحدد مجموعة المشاعر المندفعة والعواطف المتحكمة في السلوك 

ومن هنا فإنه لابد من إعادة بنا النظام المعرفي وصولا إلى وعي جمعي يضبط حركة الناس وفق إيقاع متناغم مع الكون وقوانينه وما ينتجه العصر من أساليب جديدة تسهل اﻹنتقال إلى المعالجات السلسة والناجعة

ما تعرض له العرب من هجمة إستعمارية إستهدفت اﻷرض والثروة وما رافقها من محاولات سعت للنيل من ثقافة المجتمعات ولدت لدى هذه المجتمعات حاجة نفسية تمثل في اﻹنتماء إلى نسق فكري أو نظام إجتماعي يحقق له الشعور بالرضى واﻵمان معا

فكان اﻹنتماء إلى مكون سياسي أو دولة قطرية أو فكرة أو مذهب يشبع لديه هذه الرغبة وراح بعدها يسقط على هذا اﻹنتماء فهمه للهوية حدا جعله يستميت في الدفاع عن هذا الكيان أو تلك الفكرة .

إنها مشكلات الهويات القاتلة التي جعلت الصراع ينسحب على كل اﻹنتماءات بما فيها اﻹنتماء المناطقي والطائفي

إن وعيا جديدا لماهية الهوية سيجعل اﻹنسان أكثر تصالحا مع ذاته ومع تاريخه وكينونته

وإن إستمرار غياب الفهم الصحيح لهويته سيطيل من أمد الصراع بين مجموعة اﻹنتماءات التي تتكون منها هويته وسيجعل كلفة هذا التأجيل فوق ما يتصوره العقل وأكبر مما يحتمله المجتمع 

بدهي القول أن الناس تتباين في تحديد نقطة اﻹرتكاز التي يقفون عليها بتباين مستواهم الفكري والثقافي ووفقا للضروف اﻹجتماعية التي نشأوا فيها

فما قد نراه من إعتدال وإتزان وحياد وموضوعية يراه آخرون تهور وتطرف وحماقة وخروج عن جادة الحق ومفارقة الصواب

قد تقف على أرضية تحقق لك الشعور بالرضى وبالتصالح مع ذاتك ومع منظومة القيم التي تؤمن بها

ويرى البعض أنك غادرتها وأنقلبت عليها

هناك هوة واسعة تفصل بين المثقفين وما يمثلوا من قيم وأفكار وبين الجمهور العريض والواسع وما بحملوه من جهل بقضاياهم وقد تطفو على السطح مؤشرات لهذه القطيعة والتباين لكنها في أحايين كثيرة تظل مغطاة بأكوام من القش مما يبقي لدى الناس إحساس باﻷمان والسكينة ، لكن اﻷمر لا يعدو كونه شيئا مخادعا يستمر بعض الوقت ثم لا يلبث أن يكشف عن سوأته عند أول إختبار ليتحول إلى زلزال يضرب صميم العلاقات اﻹجتماعية .

غياب ثقافة التعايش بين اﻷفراد والجماعات وتجاه ما يزخر به المجتمع من أفكار متضاربة ساهم بحظ وافر في تشكل هذه اﻷعاصير الهوجاء وتلك البراكين التي قذفت بحممها في مجمل وتفاصيل حياتنا وتسبب في جريان الدم المهراق في شوارعنا ، حتى جفت كل المنابع التي كانت ترفد حياتنا بالنور واﻹيمان والعلم والسلطان .

العاطفة الجياشة أحيت فينا إنتماءات تدور في حلقات ضيقة وجعلها تنحدر الى حلقات أضيق مستحضرة معها العنف والدمار باعتباره من أخص خصائصها

حضور العاطفة الجياشة وما صاحبها من عنف وإنتماءات ضيقة نتج عنه سقوط سلطة العقل ونفي الهوية الجامعة خارج حدود الفعل ، وأسند قياد المجتمعات إلى الخرافة فضاعت الهوية .

في ظل غياب العقل وتقهقر الهوية الجامعة وإنسحاب النخبة من الواقع وتخليهم عن الفعل التنويري الخلاق تحكمت العاطفة الجياشة وسادت الخرافة والطائفية والمناطقية وصار المجتمع أكثر ميلا للعنف والدماء لتصبح أي محاولة للكشف عن مغبة هذه العدائية للعقل وللعصر ومعطياته مدعاة للتكفير والتجريم وتغتيش النوايا ومحاكمة العقل .

وفي خظم هذا الغبار وهذه اﻷدخنة المتصاعدة في الهواء تلف الواقع ضبابية مستحكمة تصيب الناس بالعمى فيسود الهرج والمرج ليلتبس الحق بالباطل وتضيع الحقائق وسط هذا الركام من الخرافة فينزوي أهل الحق والمعرفة مفضلين السلامة درءا لهذا اﻹرهاب الفكري ويترك الجمهور لمصيرهم مصابين بغشاوة في البصر والبصيرة فيضلوا سواء السبيل

الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قبيل العدل واﻹنصاف أقر ﻹبليس بالصدق حينما حدثه أبو هريرة عن نصيحة إبليس له بقراءة آية الكرسي وما لها من فوائد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صدق وهو كذوب ، فاعترف له بهذه الجزئية وفي تلك الواقعة ولم يبني حكمه على تقييم مسبق أو وفق معرفه لما يضمره إبليس من نوايا وأغراض .

لا مناص من التحرر من كل اﻹنتماءات التي تقسم الهوية الجامعة وذلك بعد أن نفرغ كل اﻹنتماءات من أي قدسية سواء كان لمذهب أو عشيرة أو منطقة جغرافية أو إقليم

لابد من كسر كل القيود التي تمارس الحجر على العقل وترسم له حدودا للتفكير.. يجب تهيئة كل المناخات التي تمكن العقل من إقتحام كل الحقول المعرفية، سلطان العقل لابد له أن بستعيد مملكته

ليخوض في كل شئ دونما الوقوف عند مناطق محظورة ما عدى الذات اﻹﻻهية.

ليستعيد العقل سلطانه على حياتنا ذلك السلطان الذي منحه الله جل في علاه للعقل فأنتج حضارة فتحت لﻹنسانية آفاقا جديدة في العلوم اﻹنسانية والطبيعية وتبلورت في كنفها قيم التسامح والعدل والسلام والحرية والشورى ، وإعلاء من قدر العقل والعلم إنطلاقا من إيماننا بأننا أعلم بشؤون دنيانا كضمان ﻹستمرارية هذا الصعود الحضاري .

 

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي