الرئيسية المقالات مدارات لماذا كرهنا أنفسنا إلى هذا الحد؟!
لماذا كرهنا أنفسنا إلى هذا الحد؟!
محمد كريشان
محمد كريشان

هذه مجرد عينات ليس أكثر: صحافي عربي معروف يقيم في دولة عربية خليجية منذ أكثر من ثلاثة عقود واجه مؤخرا مشكلة في تجديد إقامته هناك. علق عليه أحدهم بأنه يستأهل ما حصل له لأنه لو اختار الإقامة في أي بلد غربي لصار مواطنا هناك منذ سنوات، ومن يدري فقد يكون صار رئيسا أو نائبا في البرلمان أو حتى رئيسا لإحدى بلدياته!! صديق عربي آخر يصحب ابنه البكر للتسجيل في إحدى الجامعات البريطانية فيوصيه بما يشبه الأمر وهو يغادره بألا يترك هذا البلد بأي حال من الأحوال قبل الحصول فيه على الإقامة الدائمة.

صديق ثالث ظل يجادل بناته لأشهر حتى أقنعهن في النهاية بضرورة مغادرة البلد العربي الذي يقمن فيه للإلتحاق بجامعات أوروبية وحثهن على الاستقرار هناك. لا أمل لديه في بلده حتى يعود للاستقرار فيه ولا ثقة له في البلد الذي يعمل فيه حاليا لأنه قد يدعى إلى مغادرته في أي وقت.

لم يكن هناك من شيء يجمع هؤلاء الثلاثة وغيرهم كثير سوى الاعتقاد الذي يزداد رسوخا أن بلادنا العربية لم تعد مكانا تستطيع أن تضمن فيه مستقبلا واعدا لأولادك، تطمئن فيه على سلامتهم الشخصية وكرامتهم الانسانية وحقوقهم المدنية ناهيك عن رعاية إبداعهم العلمي أو لاحقا تطورهم المهني.

شعور لم يكن جديدا لكنه استفحل في السنوات الخمس الماضية حتى لكأنك من النادر أن تجد من ليس يطمح للهجرة إلى «بلاد الفرنجة» والعيش هناك وترك هذه «البلاد البائسة» وراء ظهورهم. شعور كان في السابق حكرا على العاطلين والفقراء والمهمشين الذين بالإمكان تفهم دوافعهم تماما، غير أن المشكل اليوم أن هذه الرغبة الجامحة في ترك الديار انتقلت بقوة إلى أوساط الطبقة المتوسطة وإلى نسبة لا بأس بها من أوساط النخبة المتعلمة.

من بين هؤلاء من يعيش أصلا في ظروف مادية جيدة لا علاقة لها أبدا بظروف غيره ممن يريد الهجرة بحثا عن لقمة العيش. الطموح للاستقرار في بلاد أجنبية بالنسبة لهؤلاء لا علاقة لها بالرفاه المادي بل إن كثيرا منهم يعلمون تماما أنهم بتركهم دولة خليجية مثلا للاستقرار ببلد أوروبي سيفتقدون جانبا كبيرا من رفاهية العيش وسهولته لكنهم مستعدون لهذا النوع من التضحية في سبيل شيء آخر مختلف لم يجدوه هناك ولا حتى في بلدانهم الأصلية.

إنه البحث عن السلام والكرامة والحريات الفردية والجماعية، عن دولة يستوي فيها الجميع أمام حكم القانون الذي يعلو على الجميع بلا استثناء وحيث المؤسسات تعمل وفقها بعيدا عن الأهواء الشخصية والاعتبارات غير الموضوعية، بلاد يختار الناس فيها حكامها بصناديق الاقتراع ويسقطونهم بصناديق الاقتراع، بلاد لا وجود فيها لزعماء ملهمين يفترضون أنفسهم آلهة على الأرض ولا لتافهين يصفقون لهم ويزينون لهم سقطاتهم المضحكة، بلاد لا حكم فيها باسم الناس رغم أنفهم ولا باسم الدين رغم ان لا أحد ظفر بتفويض علني من رب العباد، بلاد لا يستغل فيها ولاة الأمور الدين أو القضايا القومية الكبرى لتبرير كل سقطاتهم.

العطش لحكم القانون والكرامة الانسانية هو ما يدفع هذه الأوساط الجديدة إلى حلم الهجرة بعدما أصيبت في السنوات الماضية بخيبة أمل شديدة في امكانية التغيير السلمي نحو الأفضل في بلادنا العربية فمع انطلاق «الربيع العربي» سرى في عروق الغالبية طموح جارف في غد أفضل يضع حدا لوضع العرب على هامش التاريخ والفعل الانساني الراقي. الذي حصل هو أن هذا الشعور الجميل تكالب الجميع لوأده في المهد حتى يقال إن العرب لم يبلغوا بعد جدارة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وحكم القانون ووضع حد لعقود من الفساد والاستبداد.

عادت الانقلابات العسكرية وقاوم آخرون حركات الاحتجاج السلمي فجرّوا الأمور جميعها إلى دوامة الدماء ففسحوا بذلك المجال عمدا لدخول حركات دينية متشددة ومسلحة على الخط فإذا بها تريد نقلنا بالدم من استبداد معروف إلى استبداد أسوأ باسم الرب. وضع أتاح للبعض أن يتفلسف بتأييد بقاء المجرم الماسك بالحكم خوفا من المجرم المقبل مع أن الأول هو الذي استدعى الثاني وكلاهما أسوأ من الآخر وينتعش كل منهما من الثاني. وضع أحبط الكثيرين فبات القرف ملازما لهم وسط عجز وتآمر ونفاق دولي زاد الأمور تعفنا. أصيب هؤلاء بخيبات أمل قاسية ليس فقط من حكامهم بل أيضا من معارضيهم ومن كثير من نخبهم الذي أثبتت ضحالة وانتهازية ملفتة. ولا أمل في فرج قريب.

لكل ذلك، من لم يستطع الهجرة الآن لا يريد على الأقل لفلذات أكباده أن يألفوا هذا المزاج العربي المدمر، لذلك فهو يكاد «يطردهم» إلى بلاد أخرى عساهم يرون هناك عالما أفضل، هو ليس الجنة بالتأكيد لكن الأكيد هو أن ما لدينا هو الجحيم.

 

عن القدس العربي ..

إقراء أيضا