غادرتُ لتوِّي العقد الأول من عمري، وأنا تلميذٌ في الصف الرابع الابتدائي. لم يزل وعيي بالأحداث من حولي قاصراً؛ بحكم البيئة الريفية التي أنتمي إليها، والوضع المعيشي الذي نشأتُ في كنفه.
وقتذاك، تابعتُ - ربما بالصدفة - عبر المذياع، الأحداث الدموية التي شهدتها عدن، في 13 يناير 1986، وحالة الاقتتال التي عصفت بين (الرفاق) يومها، لكن دون أن أتبين أطراف ذاك الصراع، إلا بعد سنواتٍ عديدةٍ.
العام التالي، وفي اليوم نفسه، سمعتُ في الإذاعة أيضاً، أحاديث وأخباراً عن تلك الأحداث، وهيئ لي أن عدن تقتتل سنوياً في ذات التوقيت. كنت مستاءً وحزيناً وأنا أسمع من يتحدث عن أعداد الضحايا ومآسي أسرهم، وعن تداعيات ذلك الصراع الذي حصد آلاف الأرواح من قادة الحزب الاشتراكي وكوادره، وفي مقدمتهم عبدالفتاح إسماعيل، وتسبب في نزوح وتشرد ولجوء العديد من الناس، مسؤولين وقياداتٍ ومواطنين.
كنت أتساءل: كيف لأناسٍ أن يخوضوا صراعاً دامياً، وهم يعلمون ما جناه صراعٌ سبق أن اكتوى بنيرانه آخرون من قبلهم؟ وكيف لاقتتالٍ يمكن أن تتكرر مجرياته كل سنةٍ؟! وظلت أسئلةٌ من هذا القبيل تراودني، وتلحّ على تفكيري، وتحاصر عقلي الصغير، حتى أدركت بعد حينٍ أن ذلك لم يكن سوى إحياءٍ للذكرى الأولى لتلك الأحداث الدامية، وليس تكراراً لوقائعَ مماثلةٍ!
اليوم، تمرُّ الذكرى الـ31 لأحداث 13 يناير 1986، واليمن كلها، وليست عدن وحسب، تشهد اقتتالاً واسعاً يخوضه أطرافٌ وفصائلُ عديدةٌ، وتحت راياتٍ مختلفةٍ، وتغذيه أجنداتٌ خارجيةٌ، وتؤججه استقطاباتٌ وتدخلاتٌ إقليميةٌ ودوليةٌ، ويعاني من تداعياته المريرة كافة أفراد الشعب اليمني.
كل الشعوب تستفيد من تجاربها، وتنطلق نحو الأفضل، ونحن كلما مرَّ عقدٌ من الزمن شهدت الأيام لنا احتراباً أقسى وأوسعَ وأطولَ من الذي قبله: 1994، 2004-1010، 2011، و2014 المستمرة وقائعها حتى اليوم..! ناهيكم عما سبق ذلك من حروبٍ وصراعاتٍ سياسيةٍ، حيث لم تهنأ اليمن الموحَّدة أو المشطَّرة، بـ10 سنواتٍ متتاليةٍ من السلام والاستقرار السياسي، في تاريخها الحديث، أقلّه منذ الاستقلال عن الاحتلال التركي، بداية القرن الماضي، إذ سرعان ما خاضت حرباً مع آل سعود، مطلع الثلاثينيات، وشهدت ثوراتٍ وحركاتٍ ضد الحكم الإمامي في الشمال: 48، 55، 61، 1962، والأخيرة استمرت أحداثها حتى أوائل 1968، وكذا الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب من 63 إلى 1967، وما تلى ذلك من أحداثٍ وأنواءٍ في بحر السبعينيات، تمثلت في انقلاباتٍ وحركاتٍ سياسيةٍ في كلا الشطرين، ومقتل 3 رؤساء (الحمدي، الغشمي، وسالمين) في غضون أقلّ من سنةٍ، فضلاً عن حروبٍ متقطعةٍ بين الشطرين، أو بدعمٍ منهما، امتدت إلى أواسط العشرية التالية.
فهل يأتي علينا حينٌ من الدهر نستوعب دروس ماضينا وتاريخنا، المتخمين بالدماء، ونتطلع إلى حاضرٍ مزدهرٍ ومستقبلٍ مشرقٍ بالأمن والسلام والرخاء... والحياة..؟!