الرئيسية المقالات مدارات ابن العربي أوّل من جعل للحروف ألوانًا وأجسامًا
ابن العربي أوّل من جعل للحروف ألوانًا وأجسامًا
د. عبدالعزيز المقالح
د. عبدالعزيز المقالح


"ابن عربي بوّابة الإسلام الموشّاة بسجوف الحكمة والحبّ"
جوته

هذا الكتاب مظلوم، نعم مظلوم، ظلمه النسّاخون، وظلمه الناشرون دون تصحيح، وظلمته لغة المجاز التي كانت تكتفي بالإشارة بعد أن ضاقت العبارة عن نقل ما في الروح الصافية من مكنونات، وظلمه بعض العلماء وبعض الفقهاء الذين رأوا في تحريف النسّاخ وتصحيفاتهم لبعض نصوصه زيغًا لا يُحتمل، وخروجًا لا يمكن القبول به، ومن ذلك التحريف الذي حدث في الوصية التالية: "حسِّن الظنّ بربّك ولا تسيء الظنّ به"، فقد صارت عند النساخ على هذا النحو "حسِّن الظنّ بربّك ولا تنسى الظنّ به"!! يضاف إلى ذلك ما اتّسم به الكتاب من غموض في بعض الإشارات المجازية التي لا يدرك مكنوناتها إلاّ الراسخون في عالم الشعر والراسخون في دنيا التصوّف، ولغته التي تكتفي بالتلميح عن التصريح وبالإيحاء عن المباشرة، وربما ساعدت الظروف المعاصرة بما جدّ عليها من صراعات فكريّة ومذهبيّة في اتّساع دائرة الظلم على هذا الكتاب وعلى صاحبه الذي قضى منذ ثمانية قرون.
لمناسبة صدور الطبعة الجديدة من هذا الكتاب مصوّبة وخالية من المغلوط والمدسوس يأتي هذا التقديم ليشير أوّلًا إلى الجهد الكبير والمتميِّز الذي بذله الصديق العزيز الأستاذ عبدالعزيز المنصوب بعد أن عكف ما يقرب من خمسة أعوام لقراءة نصّ الكتاب بخطّ الشيخ الجليل محيي الدين بن عربي محقِّقًا ومدقِّقًا ومقارِنًا النسخة الأصليّة مع ما تمكّن من جمعه من النسخ المغلوطة الأخرى التي قام بنسخها أناس لا يجيدون التعامل مع المخطوطات القديمة ولا يمعنون النظر في معاني الجمل والعبارات، وإنما ينقلونها خطأً ووفقًا لفهمهم المحدود، وقد يضيفون إليها من اجتهاداتهم الخاصّة ما يجعلها تتناقض كليًّا مع مقاصد المؤلِّف ومفهوماته، وعندما جاء دور الناشرين في العصر الحديث فقد نشروا الكتاب على علّاته دون تصحيح أو تدارك لما يمكن أن تسبّبه بعض العبارات المغلوطة في الأذهان من إرباك أو يصدر عن الفهم المغلوط لها من جناية في حقِّ مفكِّر ومبدع ما نقموا منه إلاّ أنّه آمن ﴿بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، ورغبته الخالصة في السعى إلى نشر دينه القويم وإبراز ما يتّسع له صدر هذا الدين مِن تسامحٍ وحبٍّ للناس والطبيعة والكائنات والأشياء.
ويبدو أنّ بعض المستشرقين الأوروبيين الذين نقلوا كتابات ابن عربي إلى لغاتهم كانوا أكثر دقّة وحرصًا على التثبُّت من مقاصد الشيخ وأسلوبه في التعبير عما يسكن أعماق كينونته، وكانوا يفرِّقون بين فائض المعرفة لديه وفائض الجهل لدى الناسخين، لهذا فلا مِراء في أنّ كتاب الفتوحات المكّيّة التي فتح الله بها عليه وهو في الحرم المكّيّ وغيره من كتاباته قد وصلت إلى المفكرين والمبدعين في أوروبا في صياغة سليمة جعلت شاعرًا كبيرًا مثل جوته أمير البيان في ألمانيا يقول: "إذا كان هذا الشيخ محيي الدين بن عربي قد عاش بيننا على الأرض يومًا من الأيام، وكان بهذا العقل والحكمة والرؤية؛ فإنّني أعترف بأنّ كلّ من لم يصب فطرة الإسلام على يديه فإنّه قد خسر كثيرًا، ولكان ابن عربي أحقّ بأن يكون بوّابة الإسلام الموشّاة بسجوف الحكمة والحبّ".
ولا أرى إلاّ أنّ هذه الكلمة صادرة عن فهم عميق وإدراك ثاقب للمعاني التي عبَّرت عنها مؤلَّفات هذا الشيخ الجليل الذي نفض يديه من الدنيا في مطلع شبابه، وانشغل بحمل رسالة كبرى تقوم على تنقية الروح الإنسانيّة وربطها بعالمها السرمدي، وأوقف شعره ونثره لهذا المفهوم الكوني الذي لم يتنبه إليه الفكر العربي المذهبي المأزوم قديمًا وحديثًا، ولا ما يستحقّه هذا المفكر من تقدير لمحاولته في أن يجعل من بشر الأرض على اختلاف أجناسهم وانتماءاتهم عائلة ربّانيّة واحدة؛ تدين بالإله الواحد، وتؤمن باتّباع النهج القويم في الحياة؛ وهو النهج القائم على الحبّ الجمعيّ المبرّأ من الجسديّة، والهادف إلى ترقية الروح من خلال ذوبانها في الحبِّ الأنقى والأكمل المتمثّل في الحبِّ الإلهيّ في أسمى تجليّاته.
ولعلّ أكثر ما كان يثير الدهشة لدى البعض في كتابات ابن عربي، وما يثير القلق والانزعاج لدى آخرين؛ أنّه سبق عصره بقرون في استخدام الرموز على نحو غير مسبوق، ونجح في استنطاق الكون الصامت الذي يتكلم بلغات لا تحصى وأفواه لا تُعَدّ، فقد أصغى إلى لغة الشمس والقمر والنهر والشجر والحيوانات على اختلافها، ونقل أحاديث الطبيعة وما تقوله على لسان العناصر والموجودات مستشرفًا تجليّاتها في شعره ونثره، الأمر الذي صنع له هالة من الإبهار لدى المبدعين الأوروبيّين الذين كان قد سبقهم إلى استخدام المجاز اللغوي والتحرر من المباشرة في التعبير، واستطاع أن يتمثّل الصورة المتقدّمة والزاهية لما كانت قد وصلت إليه الحضارة العربية في مجال الفكر الفلسفيّ والإبداع.
ولم يكن غريبًا أن يصفه المستشرق بروكلمان "بأنّه من أخصب المؤلِّفين عقلًا وأوسعهم خيالًا" كما لم يكن غريبًا أيضًا أن يقول عنه المفكر العالمي برتراند راسل: "ابن عربي هو إطار فلسفي لتجربة إيمانيّة كبيرة قد توصف بالإنكار والاستنكار؛ فهي إنكار لاختلاف البشر من ناحية واستنكار لفكرة التفرقة والفصل من الأساس". ولا أنسى أنّني عندما كنت طالبًا في القاهرة قد سكنت لبعض الوقت في واحد من شوارعها يسمى شارع "نوال" في منطقة العجوزة، وعرفت من جيراني في ذلك الحيّ أنّ مستشرقًا فرنسيًّا مسلمًا كان يعيش في هذا الشارع سمّى نفسه عبدالواحد يحيى، وأنّه كان من أشدّ المعجبين بابن عربي وفلسفته الصوفيّة، وقد أهداني أحدهم كتابًا من تأليف الشيخ عبدالحليم محمود شيخ الأزهر -يومئذ- فأثار الكتاب إعجابي، ومنه عرفت أنّ الاسم الحقيقي لذلك المستشرق هو "رينيه جيبون" ومحتويات الكتاب تدور حول حياة هذا المستشرق الذي قاده إعجابه بابن عربي إلى اعتناق الإسلام وإلى أن تتمحور أبحاثه حول أهميّة الدين الإسلامي ودور ابن عربي في تفسير الأبعاد الروحيّة للإسلام والكشف عن الجوهر الإنساني في دعوته الموجهة إلى كلّ البشر دون استثناء، وهو ما أكده -فيما بعد- المفكر الفرنسي الشهير روجيه جارودي الذي دخل الإسلام من باب المتصوّفة ومن باب ابن عربي خاصّة.
لقد كان الشيخ الجليل محيي الدين بن عربي أوّل من جعل للحروف ألوانًا وأجسامًا، وللكلمات ظِلالًا ومواقف، وكان على قارئه أن يغوص في محيطات هذه الأجسام والظِّلال، وأن لا يكتفي بالوقوف على سطح الحياة أو يقصر التأمّل فيما يطفو عليها من فقاعات لا توحي بما في الأعماق، وما تحتضنه من إيحاءات ودلالات. وأشعر أحيانًا –إن لم يكن دائمًا- أنّنا لم نقرأ تراثنا الدينيّ والفكريّ والإبداعيّ قراءة جادّة عميقة، وأنّ انبهارنا بما يصدره الغرب إلينا من قشور المعرفة الأدبيّة والفكريّة قد ألهانا عن الغوص في محيطاتنا العميقة لاستخراج الخبايا التي ادّخرتها لنا أجيال سابقة من المفكرين والمبدعين العرب وفي مقدمتهم محيي الدين بن عربي، ولهذا فقد فوجئنا بحفريات المستشرقين وبحثهم الدؤوب في هذا التراث، ولا شكّ أنّهم حقّقوا بذلك الحفر الكثير من المعرفة والبهجة لأبناء قومهم، وفتحوا أمامهم نوافذ وآفاقًا سرعان ما أشعلت المخيّلة الأوروبيّة بعد أن كانت أسيرة الصور الحسِّيَّة والتجارب الواقعيّة.
إنّ الروح تصدأ من هيمنة الواقع على رؤاها وهي تشكو من ضيق المكان وتسعى إلى إيجاد نسخة خارج هذا المكان الضيّق، لكي تكتشف ما وراءه من عوالم مجهولة، وتصل إلى أمكنة لا تضيق بأصحابها، وهذا بعض ما فعله الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه هذا وفي بقية كتبه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: التفسير الكبير، ويضم 64 مجلدًا، و"التدبيرات الإلهيّة في إصلاح المملكة الإنسانيّة" و"فصوص الحِكَم" و"محاضرة الأبرار" و"الجمع والتفصيل في حقائق التنـزيل" و"ترجمان الأشواق" و"كشف المعنى في تفسير الأسماء الحسنى" و"مشاهد الأسرار القدسيّة" و"الجذوة المقتبسة والخطرة المختلسة" و"مواقع النجوم ومطالع أَهِلَّة أسرار العلوم" و"الأحاديث القدسيّة". وبعض هذه المؤلَّفات متوفِّر ومطبوع والكثير منها مفقود.
أخيرًا في اللحظات القاسية من حياة الإنسان، وحين يشعر بأنّ وجوده على الأرض مهدَّد من داخل نفسه أوّلًا ومن خارجها ثانيًا؛ فإنّ عليه أن يبحث عن باب للخروج إلى حيث الراحة والأمل. وما أكثر هذه اللحظات التي تتراكم في واقع الإنسان المعاصِر وتتحوّل إلى عمر قاسٍ ومرير، لذلك ما أحوجه إلى معرفة ذلك الباب، وهو عند كثير من أصحاب المعرفة، باب الإيمان المؤدِّي إلى حديقة التصوّف والزهد عن مظاهر الحياة ومطالبها المتكاثرة، ويكون الفرار من وجه الجحيم البشريّ الراهن المتمثّل في التكالب على المناصب والمال وما يصاحب ذلك من جشع واستقتال ومن أحقاد وابتعاد عن التسامح في صورته المثلى بوصفه مطلبًا أساسيًّا لِروّاد الفكر والإبداع يلوذون إليه، وعنده فقط تتحرّر حياتهم من اللحظات القاسية وتصفو معه إبداعاتهم وتتألّق إنسانيّتهم.

كلية الآداب – جامعة صنعاء
في 19/3/2010
_________
تقديم لموسوعة الفتوحات المكية

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي