الرئيسية المقالات مدارات الدكتور إبن قشيبة بيرقا للناصريين في طريق العلم
الدكتور إبن قشيبة بيرقا للناصريين في طريق العلم
د. عبدالله الخولاني
د. عبدالله الخولاني

بينما كان العزيز إلى قلبي المناضل الناصري أحمد سعيد ناصر محمد يقف شامخا خلف منصة المناقشة في قاعة (علي بن زايد) بكلية الزراعة - جامعة صنعاء مستعدا للدفاع عن أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في التأريخ، أمام لجنة المناقشة، رجعت بي الذاكرة إلى بواكير الأيام من العمر العلني لصحيفة الوحدوي في صيف عام 1990، عندما كان الشاب النحيل الذي لفحه شظف العيش في قريته (قشيبة) التالبعة لمنطقة جبل حبشي - محافظة تعز، يتقافز هنا وهناك يلبي بأدب بالغ طلبات وأوامر المناضلين الناصريين في المقر المركزي للجنة الدائمة، الذي كان مستقره في حي الزراعة.

كم كنت معجبا بحيوية ذلك الشاب الأسمر (بدون عضلات) وهو يذهب ويؤوب هنا وهناك ، داخل المقر وخارجه، لأداء مهام عديدة؛ سواء تلك المتعلقة بالعمل التنظيمي، أم العمل الإداري في الصحيفة، أو حتى تنفيذ أوامر المتطفلين الذين كانوا يملؤون غرف دوائر التنظيم ومكاتب الصحيفة، كما تمتلئ أوداجهم بنبتة القات اللعينة.. لم يكن إبن (قشيبة) هذا يرفض أمر أحد، حتى وهو يعرف أن من صدر عنه الأمر أو الطلب أقل من مستواه التعليمي أو التنظيمي.

لم يكن أحد من أولئك المتطفلين يعلم بأن أحمد سعيد يناضل من أجل التحصيل العلمي بنفس الحماس الذي يلبي فيه أوامرهم، وأخذ بصمت وصبر يحصد الدرجات العلمية بهدوء، حتى أنه كان يستقبل نتائج تحصيله العلمي المتفوق بتواضع كبير لدرجة أنه لم يكن يشعرني بفرحته مع أنني كنت أظن أنني الأقرب إلى نفسه.. خصوصا بعدما أن أجبرتني سفرياتي العلمية على الافتراق عنه وعن محبوبتي (صحيفة الوحدوي) عديد مرات.. كنت أعود بعد كل رحلة وقد ارتقى أحمد سعيد درجه في سلم العلم، وهو مازال على نفس سجيته، مع أنه بات يحتل نفس موقعي القيادي ( مديرا لتحرير الصحيفة) يستقبلني ويعاملني كأخ أكبر، وسألني عن طلباتي ومحتاجاتي فقد فكنت أخجل أن أوجه له أمرا أو أطلب منه طلبا.. مع أنه بعد أن حصل على الماجستير في التأريخ لم يتعالَ على من هم دونه علميا وإداريا وتنظيميا.. وفي نفس الوقت كان يحز في نفسي أن بعض المتطفلين ظلوا على نهجهم في التعامل معه، مع أنهم ظلوا آبقين على متكآتهم في مجالس القات العفنة، كما تركتهم قبل سنين، وكنت أحيانا أنهرهم على سلوكهم ذاك ، بينما هو ربما يكظم في نفسه غضبا قدَّرته أنا بأنه شديد، لأن أولئك الآبقين لا يحسنون التعامل معه بما يتوازى مع مكانته العلمية.

عصر يوم الثلاثاء الماضي وأنا أعبر من جولة الجامعة بدون نظارتي التي سرقت مني في مجلس عزاء، سمعت صوتا مألوفا من داخل سيارة خاصة يناديني، كان ذلك الصوت هو صوت (أحمد سعيد) الذي فاجأني بأن موعد مناقشته لأطروحته للدكتوراه صباح يوم الأربعاء 9/20 محددا الزمان والمكان.. فرجاني أن أحضر المناقشة.. شعرت بزهو غير عادي كون من سيحمل لقب (دكتور) هو من الأقربين إلى نفسي، فحاولت أن أقيس المسافات الزمنية التي تفصل بين يومنا العظيم هذا الذي سوف ينتزع فيه (إبن قشيبة) لقب (الدكتور) من بين براثن المعاناة والشقاء وبين الأمس البعيد الذي كان مرتعا للمعاناة والشقاء.. فوجدت أن المسافات من هذا النوع لا تقاس بالسنين، وإنما تقاس بحجم الإنجازات التي يحققها المناضل.

كان (أحمد سعيد ناصر محمد) رائعا وهو يستعرض موجز أطروحته، ممتلئا بالثقة بنفسه بأكثر مما عهدته، ملتزما بالوقت المحدد له، ومجيبا عن أسئلة ممتحنه بلطف وأحيانا بعنف الواثق من معلوماته .. لدرحة أن قلبي كان يتشد وجيبه أحيانا من بعض ردوده القوية التي لم يقلها إلا لأنه واثق من صحة ما يقول.. لكني كنت استعيد هدوء قلبي عندما أتذكر شخصية المناضل الناصري الذي يتجشم المواقف الصعبة، ويقول الحقيقة بدون مواربة أو مجاملة.. فتلك هي سجية المناضلين الناصريين التي تربوا عليها وساروا فيها كما سار عليها آباؤهم الذين واجهوا الموت على أيدي جلاديهم رفعي الهامات تعلو شفاههم الابتسامات، وقلوبهم تتراقص، لأنهم سيقلدون أوسمة الشهادة.

دموعي الآن تتدفق فرحا أيها الشهداء الناصريون وأنا أبلغكم بأن أحمد سعيد ناصر هو واحد من الناصريين الذين أنجبهم تنظيمكم الذي بنيتموه بأفكاركم الثورية النيرة، وسقيتم زرعه بدمائكم الطاهرة، نال درجة الدكتوراه بالتأريخ وبتقدير امتياز عن أطروحته الموسومة (علماء بغداد في القرنين الرابع والخامس الهجريين.. توجهاتهم وإنجازاتهم العلمية).

فهنيئا للدكتور أحمد سعيد محمد ناصر (إبن قرية قشيبة) نيله للقب العلمي بجدارة، وهنيئا لوالدته الحنونة التي ملأت قاعة المناقشة بالأدعية لولدها ولكل من حضرطيلة ساعات المناقشة الثلاث، وهنيئا لروح والده رحمه الله .. ذلك الشيخ المتصوف الذي كان نور الإيمان يشع من وجهه فيضيء مقر الصحيفة عندما كان يزور ولده أحمد في مقر الصحيفة، وهنيئا لكل الناصريين، سائلا من الله عز وجل أن يجعل الدكتور أحمد سعيد بيرقا يهتدي به بقية أترابه الناصريين لاسيما زملاؤه في صحيفة الوحدوي وحافزا لهم في المضي على نفس طريقه العلمي.

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي