إنها دعوة غير متوازنة ، ذلك لان الاكثر حاجة للحماية لما يواجهونه من تطهير عرقي هم مسيحيو فلسطين عامة ، والقدس خاصة . والذين هم واشقاؤهم المسلمون والمقدسات المسيحية والاسلامية في القدس ، يتعرضون لاقتلاع متصاعد الاجراءات بالتوجه المتسارع لتهويد المدينة المقدسة . وبرغم توالي العدوان على المسيحيين الفلسطينيين ومقدساتهم ، واحدثها حرق مبنى تابع للكنيسة المعمدانية بالقدس قبل نحو شهرين ، لم تصدر عن الفاتيكان او اي مسؤول اوروبي ، دعوة حماية مسيحيي القدس ومقدساتها . وفي استثناء العدوان الصهيوني دلالة أن الدعوة الراهنة تجسد الدور الاوروبي في المحاولة الامريكية – الصهيونية لاقامة "الشرق الاوسط الجديد" المشكل من كنتونات عرقية وطائفية .
وهي دعوة فاقدة المصداقية إذ تدعو الى "تعزيز حرية التعبير الديني " ، بينما ليس بين الدول الاربع الداعية ، أو أي دولة اوروبية أخرى ، مًنْ توفير للمسلمين من مواطنيها والمقيمين بها ، الحد الادنى من حرية التعبير الديني . وبالتالي فالدعوة مردودة على مصدريها ، الذين عليهم تعزيز حرية التعبير الديني في مجتمعاتهم المتصاعد فيها تيار اليمين العنصري المعادي للاخر ، وبالذات العربي والمسلم ، قبل ان يتطاولوا على مجتمعات تميزت ولا تزال بانعدام العنصرية في ثقافتها العربية الاسلامية .
كما إنها دعوة تنطوي على خطر يهدد أمن واستقرار المسيحيين العرب في اقطارهم ، كما يستدل على ذلك من نتائج امتيازات "الحماية" التي والى السلاطين العثمانيون اعطاءها لملوك اوروبا ، منذ اعطى سليمان القانوني سنة 1530 لفرانسوا الاول ، ملك فرنسا ، امتياز "حماية " الكاثوليك في الامبراطورية العثمانية . وصحيح أن الامتيازات وفرت لهم رخاء اقتصاديا باعطائهم اولوية حيازة الوكالات التجارية الاوروبية ، كما وفرت لهم مدارس الارساليات تعليما متقدما . إلا أن "الحماية" اوجدت بينهم الذين بات ولاؤهم للاجنبي الولاء الاول ، الامر الذي انتقده بمرارة جبران خليل جبران . كما غربت أجيالهم عن قيم الحضارة العربية الاسلامية وتأليبهم عليها ، كما أدان ذلك د. جورج قرم . فضلا عن انها رسبت مشاعر الخوف من المحيط وتصور التفوق عليه ، ما كان شديد الأثر في تعميق الاحساس بالتمايز عن المحيط المسلم والتطلع للحماية الخارجية . وهو احساس شديد التاثر بالمستجدات السياسية ، يغيب في حالة النهوض الوطني والقومي ، ويبرز خَطرا كما في الحالة الراهنة .
ثم إنها دعوة تغفل معطيات واقع المسيحيين العرب . إذ هم ليسوا مهمشين في اي نشاط وطني ،ونسبهم في مختلف الانشطة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية تتجاوز نسبهم العددية في اقطارهم . وليس بينهم من يعيشون في عزلة اختيارية ، أو يعانون من عزل قسري . وحتى في الانشطة السياسية فانهم كبقية مواطنيهم من حيث المشاركة وعدمها . وإن كان هذا لا ينفي تعرضهم لتجاوزات سلطوية في هذا القطر أو ذاك ولكنها تجاوزات دائما تطال الاكثرية المسلمة وغير قاصرة على المسيحيين وحدهم . فضلا عن انعدام تمايزهم على محاور السلالة التاريخية واللغة والثقافة والقيم وانماط السلوك ، وانهم حيث وجدوا شركاء مسيرة ومصير .
كما يتناسى أصحاب الدعوةالدور الامريكي والاوروبي في وجود وبروز ظاهرة الغلاة اسلاموييي الشعارات ، وأن الاجهزة الامريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لجأت الى توظيف المشاعر الدينية سياسيا في مواجهة الشيوعية وحركات التحرر الوطني ، خاصة القومية العربية . علاوة على ان الغلاة وان علا صراخهم ، فئة هامشية للغاية ، ومتناقضة مع صحيح الاسلام كما يجمع عليه جمهور الفقهاء ، وما يغلب لدى الجمهور السني والشيعي على السواء . ولقد اصاب المسلمين من اذاهم ما يتجاوز الضرر الذي لحق بالمسيحيين سواء كانوا عربا أو سواحا في البلاد العربية . ما يعني افتقاد الموضوعية في نسبة الغلو المدان والعدوان الاثم للاسلام وقيمه واعادتهما للآيات الكريمة التي تحض على التصدي للغزاة والمستعمرين والصهاينة .
فضلا عن تجاهل أصحابها المتعمد لحقائق تاريخ مسيحيي الشرق ، فالثابت ان محاولة استئصال الكنيسة المشرقية قام بها الفاتيكان وارسالياته التبشيرية والارساليات البروتستانتية الاوروبية والامريكية ، فيما كان الاسلام هو الملجأ الذي تحتمي به الكنائس الشرقية كلما واجهت تعدي الكنائس الغربية . فضلا عن أن تواصل وجود الكنائس في المشرق العربي طوال القرون الهجرية الماضية شهادة التسامح الاسلامي كما يقرر محقا المستشرق البريطاني سيرتوماس ارنولد .
ثم إن ما يواجهه المسيحيون العرب من مشاكل في واقعهم الراهن ، إنما هي مع بعض انظمة الحكم وليس مع جمهور المسلمين . وهي مشاكل لا تحل الا ضمن الاطار الوطني وليس بالضغط الاجنبي كما بالدعوة الاوروبية المثيرة للتوتر ، اذ سيجد فيها "الصقور " الحالمون بالدعم الامريكي والاوربي ما يشجعهم على الغلو في دعاواهم ومواقفهم الطائفية . فيما يراها الغلاة رافعو الشعارات الاسلاموية دليلا على ما يتصورونه "حربا صليبية " على الاسلام والمسلمين . ما يضاعف من حمى التوتر الطائفي ويرتد باوخم العواقب على السلم الاهلي والوئام المجتمعي في عموم المشرق العربي .
والدعوة الاوروبية في ضوء ما سبق بيانه تستدعي مراجعة جذرية لمجمل سياسات وممارسات الانظمة خلال العقود الاربعة الاخيرة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية ، كما في علاقاتها الاقليمية والدولية ، وبخاصة الانفتاح غير المسؤول على العدو الصهيوني الضالع في محاولة تنفيذ مخطط التفتيت المعتمد امريكيا . فضلا عن التوجه الجاد لتأصيل مفهوم المواطنة والحوار الديمقراطي والتكامل العربي . باعتبار هذا التوجه بابعاده الثلاثة الاستجابة الفاعلة للتحدي الذي تجسده الدعوة الاوروبية .