الرئيسية المقالات مدارات هذه الدعوة الاوروبية لحماية المسيحيين !!!
هذه الدعوة الاوروبية لحماية المسيحيين !!!
عوني فرسخ
عوني فرسخ
بعد ما صدر عن بابا الفاتيكان والرئيس الفرنسي وجه وزراء خارجية ايطاليا وبولندا والمجر ووزيرة خارجية فرنسا رسالة لمفوضية الاتحاد الاوروبي ، مطالبين اتخاذ القمة الاوروبية اجراءات حماية المسيحيين في الشرق وتعزيز حرية التعبير الديني . ما استفز حاسة الخطر عند الخارجية المصرية فدعت امانة الجامعة العربية لمناقشة الدعوة في القمة الاقتصادية العربية المقبلة ، على قاعدة رفض التدخل الخارجي ، والغربي تحديدا ، في الشأن العربي . ومع تقدير ما يبدو من توجه رسمي عربي للتصدي لدعوة مشبوهة الدوافع خطرة العواقب اسجل عليها الملاحظات التالية :

 إنها دعوة غير متوازنة ، ذلك لان الاكثر حاجة للحماية لما يواجهونه من تطهير عرقي هم مسيحيو فلسطين عامة ، والقدس خاصة . والذين هم واشقاؤهم المسلمون والمقدسات المسيحية والاسلامية في القدس ، يتعرضون لاقتلاع متصاعد الاجراءات بالتوجه المتسارع لتهويد المدينة المقدسة . وبرغم توالي العدوان على المسيحيين الفلسطينيين ومقدساتهم ، واحدثها حرق مبنى تابع للكنيسة المعمدانية بالقدس قبل نحو شهرين ، لم تصدر عن الفاتيكان او اي مسؤول اوروبي ، دعوة حماية مسيحيي القدس ومقدساتها . وفي استثناء العدوان الصهيوني دلالة أن الدعوة الراهنة تجسد الدور الاوروبي في المحاولة الامريكية – الصهيونية لاقامة "الشرق الاوسط الجديد" المشكل من كنتونات عرقية وطائفية .

 وهي دعوة فاقدة المصداقية إذ تدعو الى "تعزيز حرية التعبير الديني " ، بينما ليس بين الدول الاربع الداعية ، أو أي دولة اوروبية أخرى ، مًنْ توفير للمسلمين من مواطنيها والمقيمين بها ، الحد الادنى من حرية التعبير الديني . وبالتالي فالدعوة مردودة على مصدريها ، الذين عليهم تعزيز حرية التعبير الديني في مجتمعاتهم المتصاعد فيها تيار اليمين العنصري المعادي للاخر ، وبالذات العربي والمسلم ، قبل ان يتطاولوا على مجتمعات تميزت ولا تزال بانعدام العنصرية في ثقافتها العربية الاسلامية .

 كما إنها دعوة تنطوي على خطر يهدد أمن واستقرار المسيحيين العرب في اقطارهم ، كما يستدل على ذلك من نتائج امتيازات "الحماية" التي والى السلاطين العثمانيون اعطاءها لملوك اوروبا ، منذ اعطى سليمان القانوني سنة 1530 لفرانسوا الاول ، ملك فرنسا ، امتياز "حماية " الكاثوليك في الامبراطورية العثمانية . وصحيح أن الامتيازات وفرت لهم رخاء اقتصاديا باعطائهم اولوية حيازة الوكالات التجارية الاوروبية ، كما وفرت لهم مدارس الارساليات تعليما متقدما . إلا أن "الحماية" اوجدت بينهم الذين بات ولاؤهم للاجنبي الولاء الاول ، الامر الذي انتقده بمرارة جبران خليل جبران . كما غربت أجيالهم عن قيم الحضارة العربية الاسلامية وتأليبهم عليها ، كما أدان ذلك د. جورج قرم . فضلا عن انها رسبت مشاعر الخوف من المحيط وتصور التفوق عليه ، ما كان شديد الأثر في تعميق الاحساس بالتمايز عن المحيط المسلم والتطلع للحماية الخارجية . وهو احساس شديد التاثر بالمستجدات السياسية ، يغيب في حالة النهوض الوطني والقومي ، ويبرز خَطرا كما في الحالة الراهنة .

 

 ثم إنها دعوة تغفل معطيات واقع المسيحيين العرب . إذ هم ليسوا مهمشين في اي نشاط وطني ،ونسبهم في مختلف الانشطة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية تتجاوز نسبهم العددية في اقطارهم . وليس بينهم من يعيشون في عزلة اختيارية ، أو يعانون من عزل قسري . وحتى في الانشطة السياسية فانهم كبقية مواطنيهم من حيث المشاركة وعدمها . وإن كان هذا لا ينفي تعرضهم لتجاوزات سلطوية في هذا القطر أو ذاك ولكنها تجاوزات دائما تطال الاكثرية المسلمة وغير قاصرة على المسيحيين وحدهم . فضلا عن انعدام تمايزهم على محاور السلالة التاريخية واللغة والثقافة والقيم وانماط السلوك ، وانهم حيث وجدوا شركاء مسيرة ومصير .

 كما يتناسى أصحاب الدعوةالدور الامريكي والاوروبي في وجود وبروز ظاهرة الغلاة اسلاموييي الشعارات ، وأن الاجهزة الامريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لجأت الى توظيف المشاعر الدينية سياسيا في مواجهة الشيوعية وحركات التحرر الوطني ، خاصة القومية العربية . علاوة على ان الغلاة وان علا صراخهم ، فئة هامشية للغاية ، ومتناقضة مع صحيح الاسلام كما يجمع عليه جمهور الفقهاء ، وما يغلب لدى الجمهور السني والشيعي على السواء . ولقد اصاب المسلمين من اذاهم ما يتجاوز الضرر الذي لحق بالمسيحيين سواء كانوا عربا أو سواحا في البلاد العربية . ما يعني افتقاد الموضوعية في نسبة الغلو المدان والعدوان الاثم للاسلام وقيمه واعادتهما للآيات الكريمة التي تحض على التصدي للغزاة والمستعمرين والصهاينة .

 فضلا عن تجاهل أصحابها المتعمد لحقائق تاريخ مسيحيي الشرق ، فالثابت ان محاولة استئصال الكنيسة المشرقية قام بها الفاتيكان وارسالياته التبشيرية والارساليات البروتستانتية الاوروبية والامريكية ، فيما كان الاسلام هو الملجأ الذي تحتمي به الكنائس الشرقية كلما واجهت تعدي الكنائس الغربية . فضلا عن أن تواصل وجود الكنائس في المشرق العربي طوال القرون الهجرية الماضية شهادة التسامح الاسلامي كما يقرر محقا المستشرق البريطاني سيرتوماس ارنولد .

 ثم إن ما يواجهه المسيحيون العرب من مشاكل في واقعهم الراهن ، إنما هي مع بعض انظمة الحكم وليس مع جمهور المسلمين . وهي مشاكل لا تحل الا ضمن الاطار الوطني وليس بالضغط الاجنبي كما بالدعوة الاوروبية المثيرة للتوتر ، اذ سيجد فيها "الصقور " الحالمون بالدعم الامريكي والاوربي ما يشجعهم على الغلو في دعاواهم ومواقفهم الطائفية . فيما يراها الغلاة رافعو الشعارات الاسلاموية دليلا على ما يتصورونه "حربا صليبية " على الاسلام والمسلمين . ما يضاعف من حمى التوتر الطائفي ويرتد باوخم العواقب على السلم الاهلي والوئام المجتمعي في عموم المشرق العربي .

 والدعوة الاوروبية في ضوء ما سبق بيانه تستدعي مراجعة جذرية لمجمل سياسات وممارسات الانظمة خلال العقود الاربعة الاخيرة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية ، كما في علاقاتها الاقليمية والدولية ، وبخاصة الانفتاح غير المسؤول على العدو الصهيوني الضالع في محاولة تنفيذ مخطط التفتيت المعتمد امريكيا . فضلا عن التوجه الجاد لتأصيل مفهوم المواطنة والحوار الديمقراطي والتكامل العربي . باعتبار هذا التوجه بابعاده الثلاثة الاستجابة الفاعلة للتحدي الذي تجسده الدعوة الاوروبية .

 

إقراء أيضا