الرئيسية المقالات مدارات سليمان العيسى من شعر الوحدة إلى شعر الطفولة
سليمان العيسى من شعر الوحدة إلى شعر الطفولة
د. عبدالعزيز المقالح
د. عبدالعزيز المقالح

هو واحد من أهم الشعراء العرب في العصر الحديث، وقد كانت قصائده في الخمسينيات والستينيات، التعبير الأصدق والأعمق عن النزوع العربي نحو الوحدة وتجاوز الحدود الإقليمية، التي ساعد الاحتلال الأجنبي على إقامتها، والتمكين لأنصار الإقليمية في تثبيت واقع التجزئة، وبعد تجربتين مريرتين هما: تجربة ما بعد الانفصال، الذي أنهى وحدة مصر وسوريا بوصفها النموذج الأول، ثم تجربة ما بعد نكسة (١٩٦٧م).. وفي هاتين التجربتين ما دفع بالشاعر إلى اتخاذ مسار جديد لشعره توجّه به نحو الأطفال، بوصفهم جيل الأمة الجديد وأملها في الوحدة والتقدم، وبدأ يحدّث الأطفال عن عظمة الأمة وأمجادها، ويغني لعصافير الوطن العربي وأشجاره وزهوره، وكان يرى في هذا المسار الجديد، ما يبعث على مقاومة اليأس وزرع حب الوطن والوحدة في النفوس النقية البريئة، الخالية من الحساسيات الإقليمية والانتماءات المتنازعة بين يسار ويمين، وبين يسار اليسار ويمين اليمين.
ولد الشاعر الكبير سليمان العيسى في قرية من القرى العربية الواقعة في لواء إسكندرونة السليب، وقبل أن يبلغ العام العشرين من عمره، فرّ بجلده وعروبته إلى الشام، وهناك استقر مع زميله في الهروب وفي الدعوة إلى الوحدة العربية صدقي إسماعيل، كما تلقى دراسته الجامعية في بغداد في الأربعينيات من القرن العشرين، وكانت يوم ذاك فضاءً مفتوحاً للعرب والعروبة، وفي مناخ عاصمة الرشيد، تبلورت أفكاره القومية وانطلقت قصائده تبشر بوطن وحدوي جديد، يقاوم الاحتلال ومؤامراته، ويسعى بكل أبنائه الذين ما بين مياه المحيط ومياه الخليج إلى بناء الدولة العربية ذات الكيان الواحد والحلم المشترك.
وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن نفسه، كانت قصائده الوحدوية على كل لسان، كما كانت أغلال الاحتلال يوم ذاك تتساقط، واحداً بعد الآخر، والأقطار العربية تستعيد حريتها واستقلال قرارها، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، واستطاع الشعر - جنباً إلى جنب مع النضال السياسي - أن يحقق المزيد من الانتصارات، وأن يكون تاريخاً مضيئاً لتلك الفترة، التي بدأ فيها التحرر من قبضة الاستعمار والخلاص من أغلاله، وفي العودة بين حين وآخر إلى قصائد الشعر في تلك المرحلة، يدرك القارئ مدى التلازم بين الفعل والكلمة.
وليس من المبالغة في شيء القول إن قصائد الشاعر سليمان العيسى، كانت من حيث الكثرة ومن حيث مصداقية الرؤية وجمالية التعبير، أحفل بتمثل المرحلة والشعور بأهمية مسارها السياسي والاجتماعي، ويعود ذلك إلى أكثر من سبب؛ في مقدمتها أن هذا الشاعر القومي (حتى العظم) قد أعطى شعره كله لهذه القضية الكبرى، وتفرّغ لتحديد ملامح الشتات الذي لحق بالأمة أرضاً وبشراً، ومن تلك الأسباب أيضاً خلو شعره من الغموض والإبهام، وكان قريباً جداً من القارئ العادي، وتلك ميزة شعرية لا تجيدها سوى قلة من الشعراء، الذين يحرصون على أن يبقى حبل التواصل بينهم وبين قارئهم ممدوداً في كل ما يكتبونه من شعر متعدد الأشكال والأساليب.
وفي النماذج الآتية ما يثبت بوضوح المعنى الذي نذهب إلى إثباته: هذه أمتي ... تحرّق للفجر وتغلي من صدرها أنواءُ أكبر المجد أن تغضي عن الثارات جفناً وفي العروق ذَمَاءُ أكبر المجد أن يرد إلى الأغماد سيفٌ ما لم يتمَّ جلاءُ أمةُ الفتح لن تموت، وإني أتحداكَ باسمها يا فناءُ في هذا المقطع المجتزأ، من قصيدة طويلة للشاعر إشارات دالة ليس إلى القضية الفلسطينية- التي كانت يومها القضية المركزية - بل إلى أكثر من مأساة وجرح، عانتهما الأمة العربية في أكثر من قطر من أقطارها، التي كانت ترزح تحث أشكال من الاحتلال المباشر وغير المباشر. وفيما يلي مقطع آخر من قصيدة للشاعر بعنوان (الموجة الحمراء)، وهي عن الموضوع ذاته دعوة للثورة ضد الاحتلال الأجنبي، والاتجاه نحو التحرير، وتجاوز كل ما يعيق الوصول إلى الوحدة أو الاتحاد: شدي جراحك من جديد وامشي على ومض الرعود وتكلمي لكن بألسنةِ اللهيب وبالحديد نيرانهنّ الحُمْرُ .. لا وتري الشجيُّ ولا نشيدي والمدفع الهدار يُزجي الموت وليسكتْ قصيدي يا أمتي حُطِمتْ قيودُ العالمين سوى قيودي ردي على الوتر الشرود عذوبة النغم الشرود وخذي جديد قصائدي حمراءَ لاهبة البرود بهذه اللغة النارية العاصفة، كان سليمان العيسى يكتب قصائده الوحدوية ذات التوجه الصافي النقي، مع رؤية فريدة لكل من الماضي والحاضر، وشعور نقي بوحدة أبناء الأمة العربية الواحدة، الذين انطوت في عروبتهم أبعاد حضارات هائلة وتشابكت فيها ملايين الأصول والفروع: وأبعدُ نحن عن عَبْسٍ ومن مضرٍ .. نعم أبعدْ حمورابي وهاني بعل بعض عطائنا الأخلدْ ومن زيتوننا عيسى ومن صحرائنا أحمدْ ومنا الناس يعرفها الجميع .. تعلموا أبجدْ وكنا دائماً نُعطي وكنا دائماً نجحدْ وحين كان الشاعر يعود إلى قصائده الوحدوية الأولى بصياغتها شبه المباشرة، وصوتها العالي لا يتردد في إبداء رأيه بوضوح عن أسلوبها، ولكنه لا يتردد أيضاً في التمسك بما حملته من معانٍ، وما عبّرت عنه من مواقف لا ولن تتغير، كما يقول ذلك في فقرة من فقرات مقدمته لأعماله الكاملة: أنا لا أدافع عن شعر قلته في شبابي الأول.


أعرف أنه شعر تعوزه الأرض الصلبة، يعوزه النضح، ولكني سأقاتل حتى آخر نبضة دفاعاً عن الهم العربي الذي حملناه، عن القضية التي فتحنا عيوننا عليها، ووهبنا حياتنا لها، عن براءةِ الغضب القومي، الذي لا يَكذب ولا يساوِم. لم تأت التفاتة الشاعر إلى الطفولة والأطفال فجأة؛ بل جاءت - كما سبقت الإشارة - نتيجة انكسارين كبيرين وخطيرين هما: انكسار حلم الوحدة بعد انفصال سوريا عن مصر، والانكسار الآخر تمثل في هزيمة (5 حزيران 1967م)، وهكذا اتجه الشاعر أو انحاز إلى كتابة شعر الطفولة والأطفال في لغة سهلة ميسورة الفهم، وهذا نموذج منها على لسان الأطفال: لتحفظ السماء بلادنا الخضراء عزيزة على المدى مرفوعة اللواء لتحفظ السماء بلادنا الخضراء للخير والسماء للحب والعطاء

*نقلا مجلة الشارقة الثقافية

إقراء أيضا