جرى هذا الحوار بيني وبين صديق على هامش لقاء رسمي منذ يومين ، حيث سألني :
-هل تعتقد أن زيارة بابا الفاتيكان ستأتي بنتيجة بشأن حماية المسيحيين في العراق ؟
-حمايتهم ممن ؟
-من التطرف والكراهية .
-ولماذا "المواطنين المسيحيين" فقط؟
-لأن الاضطهاد الذي يتعرضون له دفع بالكثيرين منهم الى الهجرة ومغادرة وطنهم .
-صحيح أن هناك من المواطنين المسيحيين وبعض الأقليات ممن تعرضوا لاضطهاد من قبل التطرف السياسي المتستر بالدين في العراق وغيرها ، ولكن القمع والاضطهاد شمل هؤلاء وشمل المسلمين أيضاً ، ورأينا حدة الصراع داخل الخيمة الاسلامية ، والذين يهاجرون من بلداننا من المسلمين لا يقلون عددا عن إخوانهم المسيحيين . الاضطهاد والقمع يشمل الجميع . علينا ان نبحث عن السبب الحقيقي وراء ذلك . واذا اقتصرت زيارة الباب على هذه الجزئية فإنها تقدم دليلا آخر على أنكم ، في هذه البلدان المتقدمة ، لم تفهموا بعد ، أو لا تريدون أن تفهموا ، حقيقة المشكلة في بلدان المشرق !!
-وما هي في نظرك المشكلة ؟
-المشكلة ذات شقين : الأولى أن التطرف الديني لم ينشأ بدوافع مستقلة عن حسابات بعض أطراف الصراع الدولي في مرحلة معينة أثناء الحرب الباردة .
والثانية هي أن الدولة التي تحمي حقوق الجميع كمواطنين ، بغض النظر عن دياناتهم ، ومذاهبهم ، وأعراقهم لم يسمح لها بالنشوء والتكون في هذه البلدان منذ عهد الاستعمار الغربي ، حيث اعتمد الاستعمار على تعزيز وجوده من خلال تكريس هذه الانقسامات وإبقائها حاضرة في الوعي المجتمعي بشتى السبل ، وراح يشجع منتسبيها على الحروب وتعميق الانقسام .
-وما الذي يمنع هذه البلدان الان من تخطي هذا الواقع الانقسامي وإقامة مثل هذه الدولة بعد رحيل الاستعمار ؟
-هذا سؤال مهم ، ولكن هل تعتقد أن هذا الاستعمار رحل بشكل نهائي ، وأنها لذلك تستطيع أن تحد من التدخل الخارجي المباشر وغير المباشر .. لا أعتقد ، ولا أنت تعتقد ذلك أيضاً ، فهذا التدخل لا يزال حاضرا ، ولا يزال يعمل على تكريس هذه الانقسامات الطائفية وإكسابها وضعاً بنيوياً في الدولة والمجتمع لابقاء هذه البلدان تحت الهيمنة ، وقرارها المستقل مصادر . النخب المتنفذة في هذه البلدان مرتبطة بهذا المشروع التفكيكي وتقوم بتنفيذه على الأرض بحماية خارجية .
-أعتقد أن دور الخارج محدود ، بل لا يكاد يذكر ؟ لأن الامر يتعلق بالارادة السياسية لشعوب هذه البلدان ونخبها ؟
-اتفق معك بشأن دور الشعوب والنخب ، لكنني لا اتفق معك بأن دور التدخل الخارجي محدود . التدخل الخارجي حسم في تجارب كثيرة مسألة بناء الدولة الوطنية بخيارات مناهضة لحاجة الشعوب للاستقرار ، وعصفت بهذه الدولة من الاساس . صحيح أن هذا التدخل وجد في هذه البلدان من يفتح له الباب ، ويمكنه من التحكم في الحلقات التي تم عندها كسر المشروع الوطني المفضي إلى بناء دولة المواطنة ، لكن هذا لا يعفيه من دوره السلبي في تخريب هذا المشروع الوطني ..
-ماهي مصلحة الخارج في تعطيل مشروع دولة المواطنة في هذه البلدان ؟
-إقامة دولة المواطنة هو تعبير مكثف عن تطور جذري هام في الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي في هذه البلدان ، وفيه يسود المجتمع المدني بقيمه الجديدة ، ويسود الوعي الوطني بتماسك اجتماعي ينبذ الطائفية والانقسامات العرقية والدينية ، ومثل هذا التطور يضع القرار بيد الشعوب ، ولأن هذا الوضع يعيد بناء العلاقة مع الخارج على أسس جديدة لن يترك معها مجال لابتزاز الحكام والطبقات المسيطرة كما هو حاصل الان ، فإن هذا بالتأكيد لا يراه بعض الخارج مقبولاً في الوقت الراهن .
-ربما أن في حديثك شيء من الصحة ، ولكن هل من الممكن أن تدلل على ذلك بتجربة عملية يمكن الاستناد إليها في توضيح هذه الحقيقة؟
-هناك تجارب كثيرة في تاريخ المنطقة لم يسمح لها باستكمال عناصر تكونها ، أجهضت في مرحلة معينة من مراحل التكون .. وبعضها قطعت أشواطاً ، وبدلا من مساعدتها في إخصاب عناصر التحول نحو الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية جرى شيطنتها مما حول التجربة إلى مستودع لتفريخ الاستبداد والقمع الداخلي تحت مسمى " حماية الوطن" . ومؤخراً ، كما تابعت انت وكنت قريبا من التجربة ، كيف انقلب الحوثي وقطاع من ارث النظام السياسي الذي جند لتعطيل بناء الدولة ، على التوافق الوطني لبناء دولة المواطنة في اليمن الذي تم التوصل اليه عبر حوار طويل . لا أعتقد انك لا تتابع المواقف المختلفة لهذا الخارج حول ما يجري ، وكيف يتم التعبير عما حدث ويحدث من تطورات ، وإيصال الوضع إلى ما وصل إليه ليصبح البحث عن تسوية تكون ضحيتها الدولة التي اتفق عليها اليمنيون بعد نضال طويل . بمعنى أن الذي ينقلب على الدولة الوطنية ونظامها المدني هو من يراد له أن يكسب الجولة ، لتبقى الدولة مشروعاً للصراع فقط.
انتهى حديثنا بأن الدولة الوطنية بنظامها المدني والمواطنة هي الضامن لكل المواطنين العيش بأمن وسلام . وعندها ستكون مثل هذه الزيارات وسيلة لتعزيز الاخوة بين الشعوب وإرساء أسس السلام وتبادل الخبرات في تحقيق أمن ورفاهية المجتمعات .