الرئيسية المقالات مدارات السودان بين العسكر والانتفاضة ثلاثة احتمالات لمقاومة المدنيين عسكرة الحياة
السودان بين العسكر والانتفاضة ثلاثة احتمالات لمقاومة المدنيين عسكرة الحياة
عبد الباري طاهر
عبد الباري طاهر

الانتفاضة سمة أساسية من سمات الحياة السياسية في السودان منذ الاستقلال عام 1956. انقلاب عبود 1958، وانتفاضة أكتوبر الشهيرة 1964، وانقلاب نميري، والإطاحة به عبر الانتفاضة 1985، ثم انقلاب البشير والجبهة القومية الإسلامية، وصولًا لانتفاضة ديسمبر 2018.

الانتفاضة والانقلاب العسكري تلازما في انتفاضة 19 ديسمبر؛ فقد أدرك البرهان- قائد الجيش، وحميدتي- قائد قوات التدخل السريع: الذراعان العسكريان للبشير، عجزهما عن قمع الانتفاضة. وبعد مذبحة رئاسة الأركان والتي قتل فيها العشرات، تسلق البرهان وحميدتي الانتفاضة معلنين الاستجابة للإرادة الشعبية.

استجاب جزء من إعلان "الحرية والتغيير" لخديعة العسكر، ووقّعا معًا على وثيقة دستورية، وانفرد العسكر بمجلس سيادي مهيمن على الحكومة المدنية التي رأسها الخبير الدولي الدكتور عبدالله حَمَدوك.

مع اقتراب موعد انتهاء الفترة الانتقالية، أعلن العسكر انقلابهم ضد المتحالفين معهم من الحرية والتغيير، واعتُقِلَ حمدوك ووزراءه، وألغى البرهان أهم بنود الوثيقة الدستورية، وبدأ يحضر للاستيلاء المطلق على السلطة، وتكوين بديل موالٍ للحكم العسكري.

تحركت الاحتجاجات التي لم تهمد أصلًا، لكن مأزق الحياة السياسية السودانية يكمن في أن القوى السياسية تستنجد بالعسكر للتقوّي على بعضها، أو لحل خلافاتها، وتكون دائمًا ضحية الدكتاتورية العسكرية.

الانقسامات الحالية في صفوف إعلان "الحرية والتغيير" هي مصدر الخلل، وسبب في هيمنة العسكر.

انقسام الإسلام السياسي: المهدية (حزب الأمة)، والمرغنية (الحزب الاتحادي الديمقراطي) منذ الاستقلال 1956، لا تزال آثاره باقية، ولكن الانقسامات الآن تتخذ أشكالًا وصورًا عديدة، وكانت الانقلابات العسكرية تتقنع هذه الانقسامات، وَتعْبُر من خلالها إلى الحكم، وقد تتحالف معها، ثم تنقلب عليها.

الاتفاق بين "الحرية والتغيير"، والبرهان وحميدتي في 4/8/ 2019، نجم عنه تكرار المكرور في تسليم الانتفاضة الشعبية التي قامت ضدًّا على البشير، لأهم أعمدة حكمه، ولألد أعدائها. وتكررت المهزلة في صورتها البائسة في الانقلاب ضد الجناح المدني، واعتقال رئيس الوزراء حمدوك وبعض وزرائه من الحرية والتغيير.

الانقلاب تراجع تكتيكيًّا تحت الضغط الدولي والإقليمي والشعبي بالإفراج عن حمدوك، وتوقيع اتفاق معه، إلا أن هذه الخطوة التكتيكية قوبلت بالرفض الشعبي حتى من قبل البعض من "الحرية والتغيير" المتحالفين مع القيادة العسكرية، وهما الآن يحاولان الالتحاق بلجان المقاومة و"تجمع المهنيين"، الذين رفضوا الاتفاق الأول وواصلوا مقاومتهم، وقد تصاعد الاحتجاج بصورة أقوى وأوسع بعد الانقلاب الأخير في 25 أكتوبر 2021. 

الاتفاق الجديد مرفوض شعبيًّا، وحمدوك عاجز عن تشكيل الوزارة الجديدة، وهو بين مطرقة الاحتجاجات الشعبية، وسندان العسكر؛ فما هي الاحتمالات المتوقعة لمسار الأحداث؟

بناء الكيان المدني يرجع إلى النصف الأول من القرن العشرين الماضي: مؤتمر الخريجين عام 1938، أما خبرة الشعب السوداني في الانتفاضات الشعبية، فحية وقوية

الاحتمال الأول: أن يتمكن العسكر، ومعهم حمدوك من إقناع بعض الأحزاب المشاركة في حكومة حمدوك، وبعض من "الحرية والتغيير"، ومن الموالين للعسكر في الحركات الثورية: منى ميناوي عن حركة تحرر السودان، وجبريل إبراهيم عن العدل والمساواة، وبعض متمردي شرق السودان. وسواء تشكلت الوزارة التي يصر عليها المجلس العسكري برئاسة عبدالله حمدوك أو بدونه في حالة الاستقالة، فإن المقاومة سوف تستمر وتتصاعد، ويرجح هذا الاحتمال إصرار العسكر على التفرد، وقد يضمون إليهم حزبي الجبهة القومية الإسلامية: الوطني، والشعبي، وفي حين أنهم يخوّفون بالفوضى، والتمردات العسكرية، وتفكك السودان؛ فإنهم هم من يصنعونها، وهم يفيدون من مخاطر سد النهضة، والصراع مع أثيوبيا، ويلقون الدعم والمساندة القوية من الجوار الخطر، ومن السعودية، وإسرائيل، والإمارات العربية المتحدة.

معروف أن إسرائيل تحرص على بقاء الحريصين والموقّعين على التطبيع، بينما يهم السعودية بقاء البرهان وحميدتي لوجود مئات الجنود السودانيين في اليمن، وفي الحدود السعودية-اليمنية، أما الموقف الدولي، فقد يكتفي بالإدانة والتصريحات.

الاحتمال الثاني: أن تتصاعد وتتسارع الاحتجاجات، ويستقيل عبدالله حمدوك، ويزداد موقف المجلس العسكري ارتباكًا، ويعجز العسكر عن تشكيل الوزارة، وتزداد الضغوط الشعبية وصولًا إلى العصيان المدني.

واضح أن العسكر لا يقدرون حلّ معضلات الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ فهم سبب رئيس في خلقها، كما أن ثروات السودان تحت قبضتهم، وهم غارقون في الفساد والاستبداد، وتعويلهم الوحيد للبقاء في الحكم، على القمع السافر والتهديد بتدمير البلاد. وما يرجح احتمال السقوط، العزيمة والإصرار لدى فئات وشرائح واسعة من الشعب السوداني في الإطاحة بالعسكر، ثم إن أشواق السودانيين للتغيير والتحديث والديمقراطية قوية. فبناء الكيان المدني يرجع إلى النصف الأول من القرن العشرين الماضي: مؤتمر الخريجين عام 1938، أما خبرة الشعب السوداني في الانتفاضات الشعبية، فحية وقوية، وأنموذجها انتفاضة أكتوبر 64 ضد عبود، وتكررت ضد النميري 1985، وأخيرًا ضد البشير وأدواته 19 ديسمبر 2018.

الاحتمال الثالث: أن ينجح الوسطاء في المساومة السياسية القائمة حاليًّا، ويتراجع العسكر خطوات إلى الوراء؛ لإفساح السبيل أمام المدنيين لتشكيل حكومتهم، وإقامة ائتلاف مؤقت للوصول إلى الانتخابات، وهو الاحتمال الأضعف؛ فشيمة العسكر عدم تسليم الحكم طواعية، ثم إن المحتجين، ومنذ البدء، قد رفعوا شعار: لا مساومة، لا تفاوض، لا شراكة، كردّ على اقتسام السلطة بين المجلس العسكري، ومجموعة من الحرية والتغيير.

ما يجري في السودان حاليًّا ليس مجرد احتجاجات، وإنما مقاومة شعبية، وهناك فرق بين الاحتجاجات السلمية والمقاومة؛ فالاحتجاجات عمل رمزي لا ينتهي بالتغيير، وطابعه رد الفعل، وهو عفوي لا يتسم بالتخطيط، ولا رؤية له بعيدة، أما المقاومة الشعبية فهي في الأساس إحداث التغيير، وهدفها البعيد المدى، التغيير وإسقاط الحكم، وهو ما تعبر عنه الانتفاضة السودانية ذات الجذور الممتدة إلى ما يقرب من ثلثي قرن.


إقراء أيضا