استضافت السعودية المخلوع زين العابدين بن علي وزوجته على خلفية هروبه تحت ضغط شعبي عارم وبررت السعودية قرارها مستحضرة مفاهيم العروبة والضيافة التي تأبى ان ترد المستجير وتقفل الابواب في وجهه.
وفي هذا تحريف لمبادئ واصول اغاثة المستجير في التراثين العربي والاسلامي…. فكان استحضار هذه الثقافات واسقاطها على حالة بن علي استهتارا بها وتقليلا من شأنها حيث للمستجير مفاهيم ترتبط بأصول عريقة وممارسات تاريخية حيث لا نعرف في تراثنا ان العرب آوت القتلة والمجرمين والخارجين على القانون ووضعتهم تحت الحماية ووفرت لهم القصور.
وان كانت الثقافة وقفت ضد ذلك الا ان الممارسات عبر التاريخ ربما كانت قد اعطت النظام السعودي سابقة يستحضرها عندما أجار هارباً من عدالة شعبه بعد ان نكل به وسرق خيراته واصبح وكيلاً لاعمال التجسس والرقابة يقوم بها مكلفاً حتى تحولت تونس الى صرح عتيد يخدم مصالح الآخرين ومنهم النظام السعودي والذي جعل من تونس المكان الذي تنطلق منه قوانين التقييد على الحريات والاعلام من خلال مؤتمرات تمولها السعودية وخاصة وزارة داخليتها والتي تهدف الى تبلور حشد عربي خلف قوانين تقلص حتى ابسط الحريات كحرية الاعلام ومركزاً متطوراً لتدريب مهارات التنصت، والتجسس والاعتقال والتعذيب.
لقد خلقت المصالح المشتركة لحمة عضوية بين بن علي والنظام السعودي فككتها احداث تونس وثورتها السريعة فما كان من النظام الا ان يحتضن بن علي حالة هروبه وكأنه طريدة لفظها شعبها وتخلص منها خلال اسابيع معدودة.
وربما يظل بن علي في السعودية التي اجتمع تحت رمالها كمية غير قليلة من السابقين الذين وجدوا في السعودية ملاذاً آمناً.
ليت النظام السعودي لم يستحضر تراث العرب وضيافتهم وهو الذي يجب ان يعرف مبادئ هذه الضيافة…. فالمجرم الهارب من قومه وقبيلته ومنطقته والذي ارتكب عملاً قبيحاً ضد مجموعته لا تؤويه العرب الا اولئك الذين فقدوا معنى العروبة وثقافتها والنظام السعودي يعرف مصير هؤلاء فهم شريدة تتيه في صحارى العرب تفقد قومها وحمايتهم ونسبها وأصلها ان لم تلحقه مجموعته وتمسك به لتحاسبه وتقتص منه فأي قيم عربية هذه التي تؤوي الظالم والمجرم؟
كان على النظام السعودي ان يستحضر قيمه الخاصة به والتي فرضها على مجتمعه خلال اكثر من قرن وهي قيم عجيبة غريبة املتها سياسة المصالح المشتركة ومفاهيم وحدة الدكتاتوريات بن علي ليس بمظلوم او مسلوب الحق بل هو ظالم لا يمكن للقيم القديمة ان تفسح له مجالا للمأوى.
هذه القيم السعودية الجديدة هي من حدد الممارسات السابقة للنظام وسياسته تجاه اللاجئين اليه الهاربين من قومهم.
خذ مثلاً توسيع دائرة مفاهيم الاستجارة السعودية لتشمل عيدي امين الاوغندي المعروف بتاريخه الحافل في التنكيل والتعذيب وسرقة المال العام.
ومن ثم جاء دور جنرالات باكستان الذين احتضنتهم السعودية وقيمها فاستضافتهم في قصور معروفة.
اما في المحيط العربي نجد ان النظام السعودي فعّل قيمه الخاصة به عندما استضاف شخصيات عربية معروفة ….ففي اواخر الخمسينات وبعد الصراع بين غالب امام الاباضية في الداخل العماني وسعيد بن تيمور سلطان مسقط استضافت السعودية امام اباضية الداخل ليس حباً بالاباضية وانما نكاية بسلطان مسقط على خلفية الصراع على البريمي ونفطها.
وقبل ذلك في الاربعينات استضافت السعودية رشيد عالي الكيلاني ليس تيمناً واستبشاراً بثورته على الاستعمار البريطاني وانما نكاية بملوك العراق الهاشميين حينها
فلا يمكن للسعودية ان تكون ملاذاً لقوة تقدمية في المنطقة وهي الخاضعة لهيمنة بريطانية في طريق استبدالها بهيمنة امريكية.
وتتالت حالات الاستجارة في الستينات عندما آوت السعودية امام اليمن المخلوع ليس تقريباً بين مذاهب اهل السنة والزيدية وانما نكاية بعبد الناصر والجمهوريين
وفي التسعينيات آوت السعودية امير قطر المبعد من قبل ابنه الذي اراد ان ينفض عن بلاده غبار السكون والتحجر فآوته السعودية ليس من مبدأ الضيافة وانما حرصاً على اقتناص فرصة لاعادته واعادة قطر الى قمقمها حتى لا تتحول الى ما تحولت اليه خلال سنوات قصيرة وتصبح محوراً له شأن داخلي واقليمي.
وان كانت هذه بعض الامثلة على تفعيل القيم السعودية فيما يتعلق بالاستجارة فكيف هو الحال عندما فتحت السعودية ابوابها للهاربين من انظمتهم وخاصة التيار الاسلامي المرتبط بالاخوان المسلمين في بلاد كمصر وسورية والعراق.
تصور الآلة الاعلامية السعودية الانفتاح السعودي وكأنه نصرة للاسلام وتبنياً لمفاهيمه ولكن السياسة الواقعية تقول شيئاً آخر حيث ان السعودية استغلت الكوادر الهاربة من بلادها لبناء مشروع الملك فيصل الهادف الى تحجيم التيارات القومية واليسارية ضمن مخططات الحرب الباردة الامريكية ـ السوفييتية واعطاء النظام السعودي شرعية دينية من خلال تمركز هذه الكوادر في الجامعات والمدارس المحلية والمراكز الاسلامية العالمية.
فمنذ استقدام محمد قطب المصري مروراً باستضافة عبد الله عزام الفلسطيني لم تكن السعودية يوماً ما مولعة بأفكارهم ومنهجهم بل هي استخدمتهم كآلات في سياستها الخاصة بهم.
وما ان انتهت مهمة هؤلاء وتداعيات فكرهم حتى اتهمتهم بإفساد فطرة شعبها المسالم وتسميم فكره بآيات شيطانية فأصبح الضيف متهماً ملاحقاً مكروهاً خاصة بعد ان تجاوز حدود الضيافة السعودية ومفهومها الضيق.
وربما تفتخر السعودية بضيافتها عندما لجأ اليها اكثر من خمسة الاف لاجئ عراقي في اوائل التسعينات على خلفية اجتياح صدام للكويت وكانت الضيافة السعودية لا تعتمد على فتح الابواب لشيعة اهل البيت فوجد هؤلاء انفسهم في مخيم صحراوي ينتظرون ترحيلهم الى جهة ثالثة فلا عامل انسانيا ولا قيم عربية استطاعت ان تكسر جدران المخيم واسلاكه الشائكة او تقوض مبادئ الضيافة السعودية.
وان عدنا الى المستجير حديث العهد زين العابدين بن علي والسرعة التي تم تدبير وصوله الى المملكة نجد انفسنا امام تنسيق استخباراتي عميق وطويل المدى هو المسؤول الوحيد عن رحلة بدت وكأنها تحت ضغط اللحظة الحاسمة لكنها كانت مدبرة بتنسيق هادئ مع شخصيات معروفة في المملكة هي وحدها المتضررة من سقوط بن علي ونظامه القمعي.
لقد استثمرت السعودية الكثير في نظام مماثل تونسي آن له ان يتفكك وينهار…. لذلك كانت السعودية تطمح لان تستضيف هذه الشخصية التي نبذها شعبها… وبدل التصريحات الوهمية التي تحصر وتحجر على بن علي اي عمل سياسي كان على السعودية ان تعد الشعب التونسي باعادة المجرم حتى يحاكم امام شعبه ويخضع للقضاء.
لقد استعدت السعودية باستضافتها لجلاد تونس شعب هذا البلد ونخبه الثقافية والسياسية وكرست موقعها كملاذ للمطرودين والهاربين من العدالة وهي بذلك مدعومة من المجتمع الدولي وخاصة الاوروبي الذي وجد في بن علي مطية لمصالحه ولم يرفع احتجاجاً واحداً على قهره وتنكيله بشعبه.
وان كان هذا الدور ارتبط عند بدايته بتصفية التيار الاسلامي في تونس الا انه تحول بعد اتمام عمليات القمع ضد هذا التيار الى التنكيل بكل التيارات السياسية والثقافية والاقتصادية.
وظل اصدقاء بن علي يدللونه ويداعبون احلامه وجنونه حتى انتهى به الحال في المنتجع السعودي علّ هواء ابها العليل يداعب وجدانه ويدغدغ احلاماً لن تتحقق.
وستظل السعودية تحت وطأة كابوس بن علي الذي سيتحول الى صفحة جديدة في تاريخ حافل من الاستجارة والضيافة التي لا تشرف المضيف.
واخيرا ليس لنا الا ان نقول ارفعوا ايديكم عن قيمنا المعروفة حيث لم تكن بلادنا يوماً ما بؤرة يحج اليها المجرم والقاتل والسارق.
وان كان النظام السعودي يمتلك الجرأة على الافصاح عن الاسباب الحقيقية الاستخباراتية التي دفعته لاستضافة بن علي وامثاله فهو يوفر على المجتمعات العربية واجيالها الجديدة مأزق الزج بالثقافة خلف سياسات غاشمة ومأزق النفاق السياسي الذي تعودته المنطقة العربية.
ونستنجد هنا بثقافة اثبتت ديمومتها وصدقها وبلاغتها عندما قال الشاعر ان الطيور على اشكالها تقع.