الرئيسية المقالات مدارات القاصّ مطربًا.. القليل عن أغنية "يا غصن لابس قميص"
القاصّ مطربًا.. القليل عن أغنية "يا غصن لابس قميص"
محمد عبد الوهاب الشيباني
محمد عبد الوهاب الشيباني
قبل سنوات طويلة، وتحديدًا في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تفاجأت، في إحدى الجلسات بقيام القاصّ والروائي المعروف (محمد عبدالله مثنى) بإمساك عود أحد الفنانين المستضافين في مقيل أربعائي لاتحاد الأدباء بصنعاء ثم بدأ بالدندنة والعزف، قبل أن يغني بعض المقاطع من أغانٍ يمنية وعربية بصوت مقبول، وبقي في ذهني، من تلك الجلسة، ما ردده من أغنية "يا غصن لابس قميص أخضر". قبل هذه الفعالية لم أكن أعرف أن ابن مثنى له اهتمامات بالغناء والعزف، وأعرفه فقط كقاص وروائي مرموق في اليمن، وفي ذات الوقت لم أكن قد سمعت هذه الأغنية، بكلماتها الرائعة وألحانها المتعددة، من قبل.
كان إلى جواري في تلك الجلسة الناقد والأديب المرحوم عبدالرحمن حسن الأهدل، الذي رآني مندهشًا من كون صديقنا محمد يعزف ويغني، فانتظر حتى هدأ المقيل ليخبرني عن رحلة الأخير في العزف والغناء مع شقيقه أحمد مثنى منذ كانوا جميعًا في الحديدة مطلع السبعينيات، وقال لي لاحقًا الأستاذ أحمد أن شقيقه كان مغرمًا بالعزف والغناء، وأنه كان يحفظ ويغني كل أغاني محمد سعد عبدالله، الذي قال لمحمد مثنى -حسب رواية أحمد- "أنت إرشيفي"، بعد أن سمع منه الكثير من أغانيه في واحدة من زياراته لمدينة الحديدة منتصف السبعينيات.
لاحقًا حينما كنت أسمع بالمصادفة أغنية (يا غصن لابس قميص أخضر) يذهب ذهني مباشرة إلى الأستاذ محمد مثنى، فصار الاستماع للأغنية معادلًا لاستحضاره الودود. من يومين فقط سمعت الأغنية بصوت الفنان محمد حمود الحارثي فذهب بالي إليه فحاولت التواصل به للسلام عليه والاطمئنان على صحته ولم أتمكن، وعرفت بعدها أنه يتواجد هذه الأيام في مدينة الحديدة هاربًا من برد الجبال.
سيأتي شاعر أغنية كبير بعد قرنين من وفاة الآنسي ليستخدم ذات الأدوات في تصوير حسن الفتاة الجميلة وصدرها المحمل بالفواكه، وهذا الشاعر هو عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول)، في قصيدة "حسنك لعب بالعقول" التي غناها الفنان عبدالباسط عبسي.
كتب كلمات الأغنية هذه الشاعر الحميني الكبير القاضي أحمد بن عبدالرحمن بن يحيى الآنسي قبل مئتين وخمسين عامًا تقريبًا (توفي الشاعر، حسب التراجم، عام 1241هـ) وتقول كلمات المُغنَّى من القصيدة:
"يا غصن لابس قميص أخضر مشجَّر وطاس.. لا زال عنك النما/ يا مبتسم عن عقيق أحمر وأفصاص ماس.. من صنع رب السما/ يا من ربش بالعيون الساجيات الحواس.. وحل سفك الدما/ قلبي رياضك ولك وسط السويداء غِراس.. ومهجتي لك حِمى/ شاقسم بمن رصف في صحن تلك الخدود.. أزهار متجانسة/ إني تشككت حين عاينت تلك النهود.. في القامة المايسة/ هن عَنْب أو ليم أم ليمون أم عنبرود.. أمثال متقايسة/ قل لي متى نجتمع يا بابلي العيون.. في سفح صنعاء اليمن/ فقد تغنى هزار الروض فوق الغصون/ بألحان تنفي الشجن).
الكلمات البسيطة (المركبة من العامية المفصحة) لهذه القصيدة الشجية لم تبلَ بفعل الزمن، وإن قومستها بالمتداول المعاصر من الكلمات والمعاني لا يخرُج إحداها من حياة في لسانٍ ما في إحدى نواحي اليمن، فليس فيها أي من الكلمات الميتة، أو التي لم تعد متداولة أو تجري في الألسن. فالغصن في تشبيهات شعراء الحمينية، وعند شعراء الأغنية المعاصرة في اليمن على الدوام الفتاة الجميلة ذات القوام الحسن، وهنا الشاعر يدعو لها ألَّا يزول عنها هذا القوام الحسن؛ فمها أحمر كالعقيق حين يفتر عن ابتسامة تظهر الأسنان كأفصاص الماس في لمعانها التي صنعها رب السماء.. لها من العيون الفاترات والساكنات ما يجعل العقل يزيغ (يرتبش)، وبفعلها تُحل سفك الدماء المحرَّمة. القلب رياضها النظيرة ولها في حبته وعمقه غرسها اليانع، والمهجة (الروح) تصير لها موضع يُدافَعُ عنه على الدوام. حين رآها أقسم بخدودها الموردة بأزهار متجانسة أنه تشكك ماذا تحمل في صدرها من الفواكه (هل منجا أم برتقال أم كمثرى)؟
سيأتي شاعر أغنية كبير بعد قرنين من وفاة الآنسي، ليستخدم ذات الأدوات في تصوير حسن الفتاة الجميلة وصدرها المحمل بالفواكه، وهذا الشاعر هو عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) في قصيدة "حسنك لعب بالعقول"، التي غناها الفنان عبدالباسط عبسي، والتي تقول بعض كلماتها "حسنك لعب بالعقول وانا مروِّح ضحيَّة / وأنا معك في ذهول / أمشي على حُسن نية / مدريش ماذا تقول عيونك البابلية / وتحت نحرك حمول / فواكه مستوية تبقى بكل الفصول / ملان صدرك طرية".
وعودة للأغنية، فقد صارت عند معظم الفنانين اليمنيين، ومنذ أربعينيات القرن الماضي، تميمة تغنى على ألحان متعددة، لكنها بقيت، وبتنوع ألحانها، قادرة على حفظ ديمومتها وسرعة نفاذها إلى إحساس المتلقي، فقد ظهرت في تسجيلات باكرة للفنان الراحل إبراهيم محمد الماس في عدن، وتاليًا عند الفنان أحمد عبيد قعطبي في جيبوتي، قبل أن تصير جزءًا من سياق الأغنية الصنعانية المعاصرة عند الأخفش محمد محمود الحارثي وعند كثير من الفنانين الشبان بعد ذلك، من فؤاد الكبسي إلى حسين محب، الذي أداها بالروح الحارثية، كما هو معتاد منه.
الفنان محمد عبده هو من حقق للأغنية انتشارها القوي خلال فترة الثمانينات، لأسباب تتصل بتجديدها اللحني واستخدام آلات موسيقية متعددة مصاحبة لأدائها، والأهم هو اسم المطرب الرائج، وقد أحببت الأغنية كثيرًا بصوته، وإن كان انفعال الراحل فيصل علوي، وهو يؤديها بالتطريب اللحجي، ينقلها إلى فضاءات بعيدة ومدهشة.


إقراء أيضا